Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 11, Ayat: 41-44)

Tafsir: al-Ǧāmiʿ li-aḥkām al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { وَقَالَ ٱرْكَبُواْ فِيهَا } أمر بالركوب ويحتمل أن يكون من الله تعالى ، ويحتمل أن يكون من نوح لقومه . والركوب العلوّ على ظهر الشيء . ويقال : ركبه الدّيْن . وفي الكلام حذف أي ٱركبوا الماء في السفينة . وقيل : المعنى ٱركبوها . و « في » للتأكيد كقوله تعالى : { إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } [ يوسف : 43 ] وفائدة « في » أنهم أمروا أن يكونوا في جوفها لا على ظهرها . قال عِكرمة : ركب نوح عليه السلام في الفلك لعشر خلون من رجب ، وٱستوت على الجُوديّ لعشر خلون من المحرم فذلك ستة أشهر وقاله قَتَادة وزاد وهو يوم عاشوراء فقال لمن كان معه : من كان صائماً فليتم صومه ، ومن لم يكن صائماً فليصمه . وذكر الطبريّ في هذا حديثاً عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أن نوحاً ركب في السفينة أوّل يوم من رجب ، وصام الشهر أجمع ، وجرت بهم السفينة إلى يوم عاشوراء ، ففيه أرست على الجوديّ ، فصامه نوح ومن معه . وذكر الطبريّ عن ابن إسحق ما يقتضي أنه أقام على الماء نحو السنة ، ومرت بالبيت فطافت به سبعاً ، وقد رفعه الله عن الغرق فلم ينله غرق ، ثم مضت إلى اليمن ورجعت إلى الجوديّ فاستوت عليه . قوله تعالى : { بِسْمِ ٱللَّهِ مَجْريٰهَا وَمُرْسَاهَا } قراءة أهل الحرمين وأهل البصرة بضم الميم فيهما إلا من شذ ، على معنى بسم الله إجراؤها وإرساؤها فمجراها ومرساها في موضع رفع بالابتداء ويجوز أن تكون في موضع نصب ، ويكون التقدير : بسم الله وقت إجرائها ثم حذف وقت ، وأقيم « مجراها » مقامه . وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي : « بِسمِ ٱللَّهِ مَجْرِيهَا » بفتح الميم و « مُرْسَاهَا » بضم الميم . وروى يحيـى بن عيسى عن الأعمش عن يحيـى بن وثّاب « بِسْمِ ٱللَّهِ مَجْرَاهَا وَمَرْسَاهَا » بفتح الميم فيهما على المصدر من جَرت تَجري جرياً ومجَرًى ، ورَست رُسوًّا ومَرْسىً إذا ثبتت . وقرأ مجاهد وسليمان بن جُنْدُب وعاصم الجَحْدَريّ وأبو رَجاء العُطَارِدِيّ : « بِسْمِ ٱللَّهِ مُجْرِيهَا وَمُرْسِيَها » نعت لله عز وجل في موضع جر . ويجوز أن يكون في موضع رفع على إضمار مبتدأ أي هو مُجريها ومُرسيها . ويجوز النصب على الحال . وقال الضحّاك : كان نوح عليه السلام إذا قال بسم الله مَجراها جرت ، وإذا قال بسم ٱلله مَرساها رست . وروى مروان بن سالم عن طلحة بن عبيد الله بن كَرِيز عن الحسين بن عليّ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أمَانٌ لأمتي من الغرق إذا ركبوا في الفلك بسم الله الرحمن الرحيم " { وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَٱلأَرْضُ جَمِيعـاً قَبْضَـتُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَٱلسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ الزمر : 67 ] { بِسْمِ ٱللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } . وفي هذه الآية دليل على ذكر البسملة عند ٱبتداء كل فعل كما بيّناه في البسملة ، وٱلحمد لله . { إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي لأهل السفينة . وروي عن ابن عباس قال : لما كثرت الأرواث والأقذار أوحى الله إلى نوح ٱغمز ذنب الفيل ، فوقع منه خنزير وخنزيرة فأقبلا على الروث فقال نوح : لو غمزت ذنب هذا الخنزير ففعل ، فخرج منه فأر وفأرة فلما وقعا أقبلا على السفينة وحبالها تقرضها ، وتقرض الأمتعة والأزواد حتى خافوا على حبال السفينة فأوحى الله إلى نوح أن ٱمسح جبهة الأسد فمسحها ، فخرج منها سِنّوران فأكلا الفئرة . ولما حمل الأسد في السفينة قال : يا رب من أين أطعمه ؟ قال : سوف أشغله ، فأخذته ٱلحُمَّى فهو الدهرَ محموم . قال ابن عباس : وأوّل ما حمل نوح من البهائم في الفلك حمل الإوزّة ، وآخر ما حمل حمل الحمار قال : وتعلق إبليس بذنبه ، ويداه قد دخلتا في السفينة ، ورجلاه خارجة بعد ، فجعل الحمار يضطرب ولا يستطيع أن يدخل ، فصاح به نوح : ٱدخل ويلك فجعل يضطرب فقال : ٱدخل ويلك وإن كان معك الشيطان كلمة زلّت على لسانه ، فدخل ووثب الشيطان فدخل . ثم إن نوحاً رآه يغنِّي في السفينة ، فقال له : يا لعين ما أدخلك بيتي ؟ ٰ قال : أنت أذنت لي فذكر له فقال له : قم فاخرج . قال : ما لك بدّ في أن تحملني معك فكان فيما يزعمون في ظهر الفلك . وكان مع نوح عليه السلام خرزتان مضيئتان ، واحدة مكان الشمس ، والأخرى مكان القمر . ابن عباس : إحداهما بيضاء كبياض النهار ، والأخرى سوداء كسواد الليل فكان يعرف بهما مواقيت الصلاة فإذا أمسوا غلب سواد هذه بياض هذه ، وإذا أصبحوا غلب بياض هذه سواد هذه على قدر الساعات . قوله تعالى : { وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَٱلْجِبَالِ } الموج جمع موجة وهي ما ارتفع من جملة الماء الكثير عند اشتداد الريح . والكاف للتشبيه ، وهي في موضع خفض نعت للموج . وجاء في التفسير أن الماء جاوز كل شيء بخمسة عشر ذراعاً . { وَنَادَىٰ نُوحٌ ٱبْنَهُ } قيل : كان كافراً واسمه كنعان . وقيل : يام . ويجوز على قول سيبويه : { ونادى نوح ٱبنه } بحذف الواو من { ابنه } في اللفظ ، وأنشد : @ لَـهُ زَجَـلٌ كَأَنَّـهُ صـوتُ حـادٍ @@ فأما { ونَادَى نُوحٌ ٱبْنَهَ وَكَانَ } فقراءة شاذّة ، وهي مروية عن عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه ، وعروة بن الزبير . وزعم أبو حاتم أنها تجوز على أنه يريد « ابنها » فحذف الألف كما تقول : { ٱبنه } فتحذف الواو . وقال النحاس : وهذا الذي قاله أبو حاتم لا يجوز على مذهب سيبويه لأن الألف خفيفة فلا يجوز حذفها ، والواو ثقيلة يجوز حذفها . { وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ } أي من دين أبيه . وقيل : عن السفينة . وقيل : إن نوحاً لم يعلم أن ٱبنه كان كافراً ، وأنه ظن أنه مؤمن ولذلك قال له : { وَلاَ تَكُن مَّعَ ٱلْكَافِرِينَ } وسيأتي . وكان هذا النداء من قبل أن يستيقن القوم الغرق وقبل رؤية اليأس ، بل كان في أوّل ما فار التنور ، وظهرت العلامة لنوح . وقرأ عاصم : « يَابُنيَّ ٱرْكَبْ مَعَنَا » بفتح الياء ، والباقون بكسرها . وأصل « يا بنيّ » أن تكون بثلاث ياءات ياء التصغير ، وياء الفعل ، وياء الإضافة فأدغمت ياء التصغير في لام الفعل ، وكسرت لام الفعل من أجل ياء الإضافة ، وحذفت ياء الإِضافة لوقوعها موقع التنوين ، أو لسكونها وسكون الراء في هذا الموضع هذا أصل قراءة من كسر الياء ، وهو أيضاً أصل قراءة من فتح لأنه قلب ياء الإضافة ألفاً لخفة الألف ، ثم حذف الألف لكونها عوضاً من حرف يحذف ، أو لسكونها وسكون الراء . قال النحاس : أما قراءة عاصم فمشكلة قال أبو حاتم : يريد يا بُنَيَّاه ثم يحذف قال النحاس : رأيت عليّ بن سليمان يذهب إلى أن هذا لا يجوز لأن الألف خفيفة . قال أبو جعفر النحاس : ما علمت أن أحداً من النحويين جوز الكلام في هذا إلا أبا إسحق فإنه زعم أن الفتح من جهتين ، والكسر من جهتين فالفتح على أنه يبدل من الياء ألفاً قال الله عز وجل إخباراً : { يَا وَيْلَتَا } [ الفرقان : 28 ] وكما قال الشاعر : @ فيـا عجبَـا مِـن رَحْلهـا المتحمَّـلِ @@ فيريد يا بنيّا ، ثم حذف الألف لالتقاء الساكنين ، كما تقول : جاءني عبدا الله في التثنية . والجهة الأخرى أن تحذف الألف لأن النداء موضع حذف . والكسر على أن تحذف الياء للنداء . والجهة الأخرى على أن تحذفها لالتقاء الساكنين . قوله تعالى : { قَالَ سَآوِيۤ } أي أرجع وأنضم . { إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي } أي يمنعني { مِنَ ٱلْمَآءِ } فلا أغرق . { قَالَ لاَ عَاصِمَ ٱلْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ } أي لا مانع فإنه يوم حقّ فيه العذاب على الكفار . وٱنتصب « عاصم » على التبرئة . ويجوز « لا عاصم اليوم » تكون لا بمعنى ليس . { إِلاَّ مَن رَّحِمَ } في موضع نصب استثناء ليس من الأوّل أي لكن من رحمه الله فهو يعصمه قاله الزجاج . ويجوز أن يكون في موضع رفع ، على أن عاصماً بمعنى معصوم مثل : { مَاءٍ دَافِقٍ } [ الطارق : 6 ] أي مدفوق فالاستثناء على هذا متصل قال الشاعر : @ بطيءُ القيامِ رخيمُ الكلا مِ أَمْسَى فؤادِي بهِ فَاتِنَا @@ أي مفتوناً . وقال آخر : @ دَعِ المكارِمَ لا تَنهضْ لبغيتها وٱقعدْ فإنَّك أنتَ الطاعمُ الكَاسِي @@ أي المطعوم المكسوّ . قال النحاس : ومن أحسن ما قيل فيه أن تكون « مَن » في موضع رفع بمعنى لا يعصم اليوم من أمر الله إلا الراحم أي إلا الله . وهذا اختيار الطَّبَريّ . ويُحسّن هذا أنك لم تجعل عاصماً بمعنى معصوم فتخرجه من بابه ، ولا « إلاَّ » بمعنى « لكن » . { وَحَالَ بَيْنَهُمَا ٱلْمَوْجُ } يعني بين نوح وٱبنه . { فَكَانَ مِنَ ٱلْمُغْرَقِينَ } قيل : إنه كان راكباً على فرس قد بطر بنفسه ، وأعجب بها فلما رأى الماء جاء قال : يا أبت فار التنور ، فقال له أبوه : { يٰبُنَيَّ ٱرْكَب مَّعَنَا } فما ٱستتمّ المراجعة حتى جاءت مَوْجة عظيمة فالتقمته هو وفرسه ، وحيل بينه وبين نوح فغرق . وقيل : إنه اتخذ لنفسه بيتاً من زجاج يتحصّن فيه من الماء ، فلما فار التّنور دخل فيه وأقفله عليه من داخل ، فلم يزل يتغوّط فيه ويبول حتى غرق بذلك . وقيل : إن الجبل الذي آوى إليه « طورسيناء » . قوله تعالى : { وَقِيلَ يٰأَرْضُ ٱبْلَعِي مَآءَكِ وَيٰسَمَآءُ أَقْلِعِي } هذا مجاز لأنها موات . وقيل : جعل فيها ما تُميّز به . والذي قال إنه مجاز قال : لو فُتِّش كلام العرب والعجم ما وجد فيه مثل هذه الآية على حسن نظمها ، وبلاغة رصفِها ، واشتمال المعاني فيها . وفي الأثر : إن الله تعالى لا يخلي الأرض من مطر في عام أو عامين ، وأنه ما نزل من السماء ماء قطّ إلا بحفظ مَلك موكّل به إلا ما كان من ماء الطوفان فإنه خرج منه ما لا يحفظه الملَك . وذلك قوله تعالى : { إِنَّا لَمَّا طَغَا ٱلْمَآءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي ٱلْجَارِيَةِ } [ الحاقة : 11 ] فجرت بهم السفينة إلى أن تناهي الأمر فأمر الله الماء المنهمر من السماء بالإمساك ، وأمر الله الأرض بالابتلاع . يقال : بلَع الماء يبلَعه مثل منع يمنع وبَلِع يبلَع مثل حمِد يحمَد لغتان حكاهما الكسائيّ والفرّاء . والبالُوعة الموضع الذي يشرب الماء . قال ابن العربي : التقى الماءان على أمر قد قدر ، ما كان في الأرض وما نزل من السماء فأمر الله ما نزل من السماء بالإقلاع ، فلم تمتصّ الأرض منه قطرة ، وأمر الأرض بابتلاع ما خرج منها فقط . وذلك قوله تعالى : { وَقِيلَ يٰأَرْضُ ٱبْلَعِي مَآءَكِ وَيٰسَمَآءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ ٱلْمَآءُ } وقيل : ميّز الله بين الماءين ، فما كان من ماء الأرض أمرها فبلعته ، وصار ماء السماء بحاراً . قوله تعالى : { وَغِيضَ ٱلْمَآءُ } أي نقص يقال : غاض الشيءُ وغِضته أنا كما يقال : نَقَص بنفسه ونَقَصه غيره ، ويجوز « غيض » بضم الغين . { وَقُضِيَ ٱلأَمْرُ } أي أحكم وفرغ منه يعني أهلك قوم نوح على تمام وإحكام . ويقال : إن الله تعالى أعقم أرحامهم أي أرحام نسائهم قبل الغرق بأربعين سنة ، فلم يكن فيمن هلك صغير . والصحيح أنه أهلك الوِلدان بِالطّوفان ، كما هلكت الطير والسباع ، ولم يكن الغرق عقوبة للصبيان والبهائم والطير ، بل ماتوا بآجالهم . وحكي أنه لما كثر الماء في السّكك خشيت أمّ صبيّ عليه وكانت تحبه حباً شديداً ، فخرجت به إلى الجبل ، حتى بلغت ثلثه ، فلما بلغها الماء خرجت حتى بلغت ثلثيه ، فلما بلغها الماء ٱستوت على الجبل فلما بلغ الماء رقبتها رفعت يديها بابنها حتى ذهب بها الماء فلو رحم الله منهم أحداً لرحم أمّ الصبي . قوله تعالى : { وَٱسْتَوَتْ عَلَى ٱلْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ } أي هلاكاً لهم . الجُوديّ جبل بقرب الْمَوْصل استوت عليه في العاشر من المحرّم يوم عاشوراء فصامه نوح وأمر جميع من معه من الناس والوحش والطير والدواب وغيرها فصاموه ، شكراً لله تعالى وقد تقدّم هذا المعنى . وقيل : كان ذلك يوم الجمعة . وروي أن الله تعالى أوحى إلى الجبال أن السفينة ترسي على واحد منها فتطاولت ، وبقي الجُوديّ لم يتطاول تواضعاً لله ، فاستوت السّفينة عليه : وبقيت عليه أعوادها . وفي الحديث أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " لقد بقي منها شيء أدركه أوائل هذه الأمة " . وقال مجاهد : تشامخت الجبال وتطاولت لئلا ينالها الغرق فعلا الماء فوقها خمسة عشر ذراعاً ، وتطامن الجوديّ ، وتواضع لأمر الله تعالى فلم يغرق ، ورست السفينة عليه . وقد قيل : إن الجوديّ ٱسم لكل جبل ومنه قول زيد بن عمرو بن نُفَيل : @ سُبحانه ثُمّ سُبحاناً يَعودُ لَه وقَبْلَنا سَبَّحَ الجُوديُّ والجَمَدُ @@ ويقال : إن الجُوديّ من جبال الجنة فلهذا ٱستوت عليه . ويقال : أكرم الله ثلاثة جبال بثلاثة نفر : الجوديّ بنوح ، وطورسيناء بموسى ، وحِراء بمحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين . مسألة : لما تواضع الجوديّ وخضع عزَّ ، ولما ٱرتفع غيره واستعلى ذَلّ ، وهذه سُنّة الله في خلقه ، يرفع من تخشّع ، ويضع من ترفّع ولقد أحسن القائل : @ وإذا تذلّلتِ الرّقابُ تَخشُّعاً مِنّا إليكَ فعِزُّها في ذُلِّها @@ وفي صحيح البخاري ومسلم عن أنس بن مالك قال : كانت ناقة للنبي صلى الله عليه وسلم تُسمَّى العَضْباء وكانت لا تُسبق فجاء أعرابيّ على قعودٍ له فسبقها ، فاشتدّ ذلك على المسلمين وقالوا : سُبِقت العضباء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن حقّا على الله ألا يَرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه " . وخرج مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما نَقَصت صدقةٌ من مالٍ وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزًّا وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله " . وقال صلى الله عليه وسلم : " إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يَبغِي أحد على أحد ولا يَفخر أحد على أحد " . خرجه البخاريّ . مسألة : نذكر فيها من قصة نوح مع قومه وبعض ذكر السفينة . ذكر الحافظ ابن عساكر في التاريخ له عن الحسن : أن نوحاً أوّل رسول بعثه الله إلى أهل الأرض فذلك قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً } [ العنكبوت : 14 ] . وكان قد : كثرت فيهم المعاصي ، وكثرت الجبابرة وعَتَوْا عُتُوًّا كبيراً ، وكان نوح يدعوهم ليلاً ونهاراً ، سرّاً وعلانية ، وكان صبوراً حليماً ، ولم يلق أحد من الأنبياء أشدّ مما لقي نوح فكانوا يدخلون عليه فيخنقونه حتى يترك وقيدا ، ويضربونه في المجالس ويطرد وكان لا يدعو على من يصنع به بل يدعوهم ويقول : « رَبِّ ٱغْفِرْ لِقَوْميِ فَإنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ » فكان لا يزيدهم ذلك إلا فراراً منه ، حتى أنه ليكلم الرجل منهم فيلفّ رأسه بثوبه ، ويجعل أصبعيه في أذنيه لكيلا يسمع شيئاً من كلامه ، فذلك قوله تعالى : { وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوۤاْ أَصَابِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِمْ وَٱسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ } [ نوح : 7 ] . وقال مجاهد وعُبيد بن عمير : كانوا يضربونه حتى يغشى عليه فإذا أفَاق قال : « رَبِّ ٱغْفِرْ لِقَوْميِ فَإنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ » . وقال ٱبن عباس : إن نوحاً كان يضرب ثم يُلفّ في لِبد فيلقى في بيته يرون أنه قد مات ، ثم يخرج فيدعوهم حتى إذا يئس من إيمان قومه جاءه رجل ومعه ٱبنه وهو يتوكأ على عصا فقال : يا بُنيّ ٱنظر هذا الشيخ لا يغرّنك ، قال : يا أبت أمكنّي من العصا ، فأمكنه فأخذ العصا ثم قال : ضعني في الأرض فوضعه ، فمشى إليه بالعصا فضربه فشجه شجة مُوضِحة في رأسه ، وسالت الدماء فقال نوح : « ربّ قد ترى ما يفعل بي عبادك فإن يك لك في عبادك خيرية فاهدهم وإن يك غير ذلك فصبّرني إلى أن تحكم وأنت خير الحاكمين » فأوحى الله إليه وآيسه من إيمان قومه ، وأخبره أنه لم يبق في أصلاب الرجال ولا في أرحام النساء مؤمن قال : { وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } أي لا تحزن عليهم . { وَٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا } [ هود : 37 ] قال : يا رب وأين الخشب ؟ قال : ٱغرس الشجر . قال : فَغرس السّاج عشرين سنة ، وكفّ عن الدعاء ، وكفّوا عن الاستهزاء ، وكانوا يسخرون منه فلما أدرك الشجرُ أمره ربه فقطعها وجفّفها : فقال : يا رب كيف أتخذ هذا البيت ؟ قال : ٱجعله على ثلاثة صور رأسه كرأس الدّيك ، وجؤجؤه كجؤجؤ الطير ، وذنَبه كذنَب الديك وٱجعلها مطبقة وٱجعل لها أبواباً في جنبها ، وشدّها بدُسُرٍ ، يعني مسامير الحديد . وبعث الله جبريل فعلمه صنعة السفينة ، وجعلت يده لا تخطىء . قال ابن عباس : كانت دار نوح عليه السلام دمشق ، وأنشأ سفينته من خشب لبنان بين زمزم وبين الركن والمقام ، فلما كملت حمل فيها السباع والدواب في الباب الأوّل ، وجعل الوحش والطير في الباب الثاني ، وأطبق عليهما ، وجعل أولاد آدم أربعين رجلاً وأربعين ٱمرأة في الباب الأعلى وأطبق عليهم ، وجعل الذّر معه في الباب الأعلى لضعفها ألا تطأها الدوابّ . قال الزُّهريّ : إن الله عز وجل بعث ريحاً فحمل إليه من كل زوجين ٱثنين من السباع والطير والوحش والبهائم . وقال جعفر بن محمد : بعث الله جبريل فحشرهم ، فجعل يضرب بيديه على الزوجين فتقع يده اليمنى على الذكر واليسرى على الأنثى ، فيدخله السفينة . وقال زيد بن ثابت : استصعبت على نوح الماعزة أن تدخل السفينة ، فدفعها بيده في ذنبها فمن ثَم انكسر ذنبها فصار مَعْقوفاً وبدا حَياؤها . ومضت النعجة حتى دخلت فمسح على ذنبها فستر حياؤها قال إسحق : أخبرنا رجل من أهل العلم أن نوحاً حمل أهل السفينة ، وجعل فيها من كل زوجين ٱثنين ، وحمل من الهدهد زوجين ، فماتت الهدهدة في السفينة قبل أن تظهر الأرض ، فحملها الهدهد فطاف بها الدنيا ليصيب لها مكاناً ، فلم يجد طيناً ولا تراباً ، فرحمه ربه فحفر لها في قفاه قبراً فدفنها فيه ، فذلك الريش الناتىء في قفا الهدهد موضع القبر فلذلك نتأت أقفية الهداهد . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كان حمل نوح معه في السفينة من جميع الشجر وكانت العجوة من الجنة مع نوح في السفينة " . وذكر صاحب كتاب « العروس » وغيره : أن نوحاً عليه السلام لما أراد أن يبعث من يأتيه بخبر الأرض قال الزّجاج : أنا فأخذها وختم على جناحها وقال لها : أنت مختومة بخاتمي لا تطيري أبداً ، أنت ينتفع بك أمتي فبعث الغراب فأصاب جيفة فوقع عليها فاحتبس فلعنه ، ولذلك يقتل في الحل والحَرَم ودعا عليه بالخوف فلذلك لا يألف البيوت . وبعث الحمامة فلم تجد قراراً فوقعت على شجرة بأرض سيناء فحملت ورقة زيتونة ، ورجعت إلى نوح فعلم أنها لم تستمكن من الأرض ، ثم بعثها بعد ذلك فطارت حتى وقعت بوادي الحرم ، فإذا الماء قد نضب من مواضع الكعبة ، وكانت طينتها حمراء ، فاختضبت رجلاها ، ثم جاءت إلى نوح عليه السلام فقالت : بشراي منكَ أن تهب لي الطوق في عنقي ، والخِضاب في رجلي ، وأسكنُ الحرَمَ فمسح يده على عنقها وطوقها ، ووهب لها الحمرة في رجليها ، ودعا لها ولذريتها بالبركة . وذكر الثعلبيّ أنه بعث بعد الغراب التُّدْرُج وكان من جنس الدّجاج وقال : إياك أن تعتذر ، فأصاب الخضرة والفرجة فلم يرجع ، وأخذ أولاده عنده رهناً إلى يوم القيامة .