Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 19, Ayat: 16-26)

Tafsir: al-Ǧāmiʿ li-aḥkām al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَابِ مَرْيَمَ } القصة إلى آخرها . هذا ابتداء قصة ليست من الأولى . والخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم أي عرَّفهم قصتها ليعرفوا كمال قدرتنا . { إِذِ ٱنتَبَذَتْ } أي تنحت وتباعدت . والنبذ الطرح والرمي قال الله تعالى : { فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ } [ آل عمران : 187 ] . { مِنْ أَهْلِهَا } أي ممن كان معها . و « إذ » بدل من « مريم » بدل اشتمال لأن الأحيان مشتملة على ما فيها . والانتباذ الاعتزال والانفراد . واختلف الناس لم انتبذت فقال السدي : انتبذت لتطهر من حيض أو نفاس . وقال غيره : لتعبد الله وهذا حسن . وذلك أن مريم عليها السلام كانت وقفاً على سدانة المعبد وخدمته والعبادة فيه ، فتنحت من الناس لذلك ، ودخلت في المسجد إلى جانب المحراب في شرقيه لتخلو للعبادة ، فدخل عليها جبريل عليه السلام . فقوله : { مَكَاناً شَرْقِياً } أي مكاناً من جانب الشرق . والشَّرْق بسكون الراء المكان الذي تشرق فيه الشمس . والشَّرَق بفتح الراء الشمس . وإنما خص المكان بالشرق لأنهم كانوا يعظمون جهة المشرق ومن حيث تطلع الأنوار ، وكانت الجهات الشرقية من كل شيء أفضل من سواها حكاه الطبري . وحكي عن ابن عباس أنه قال : إني لأعلم الناسِ لم اتخذ النصارى المشرق قبلة لقول الله عز وجل : { إِذِ ٱنتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً } فاتخذوا ميلاد عيسى عليه السلام قبلة وقالوا : لو كان شيء من الأرض خيراً من المشرق لوضعت مريم عيسى عليه السلام فيه . واختلف الناس في نبوّة مريم فقيل كانت نبية بهذا الإرسال والمحاورة للملَك . وقيل : لم تكن نبية وإنما كلمها مثال بشر ، ورؤيتها للملك كما رؤي جبريل في صفة دِحْية الكلبي حين سؤاله عن الإيمان والإسلام . والأول أظهر . وقد مضى الكلام في هذا المعنى مستوفى في « آل عمران » والحمد لله . قوله تعالى : { فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا } قيل : هو روح عيسى عليه السلام لأن الله تعالى خلق الأرواح قبل الأجساد ، فركب الروح في جسد عيسى عليه السلام الذي خلقه في بطنها . وقيل : هو جبريل وأضيف الروح إلى الله تعالى تخصيصاً وكرامة . والظاهر أنه جبريل عليه السلام لقوله : { فَتَمَثَّلَ لَهَا } أي تمثل الملك لها . { بَشَراً } تفسير أو حال . { سَوِيّاً } أي مستوي الخلقة لأنها لم تكن لتطيق أو تنظر جبريل في صورته . ولما رأت رجلاً حسن الصورة في صورة البشر قد خرق عليها الحجاب ظنت أنه يريدها بسوء فـ { ـقَالَتْ إِنِّيۤ أَعُوذُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً } أي ممن يتقي الله . البِكَاليّ : فنكص جبريل عليه السلام فزعاً من ذكر الرحمن تبارك وتعالى . الثعلبيّ : كان رجلاً صالحاً فتعوذت به تعجباً . وقيل : تقي فعيل بمعنى مفعول أي كنت ممن يُتَّقى منه . وفي البخاري قال أبو وائل : علمت مريم أن التقيّ ذو نُهْيةٍ حين قالت : « إن كنت تقيا » . وقيل : تقي اسم فاجر معروف في ذلك الوقت قاله وهب بن منبه حكاه مكي وغيره . ابن عطية : وهو ضعيف ذاهب مع التخرص . فقال لها جبريل عليه السلام : { قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لاًّهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً } جعل الهبة من قبله لما كان الإعلام بها من قبله . وقرأ ورش عن نافع « لِيهَبَ لَكِ » على معنى أرسلني الله ليهب لك . وقيل : معنى « لأهب » بالهمز محمول على المعنى أي قال : أرسلته لأهب لك . ويحتمل « ليهب » بلا همز أن يكون بمعنى المهموز ثم خففت الهمزة . فلما سمعت مريم ذلك من قوله استفهمت عن طريقه فـ { قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } أي بنكاح . { وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً } أي زانية . وذكرت هذا تأكيداً لأن قولها لم يمسسني بشر يشمل الحلال والحرام . وقيل : ما استبعدت من قدرة الله تعالى شيئاً ولكن أرادت كيف يكون هذا الولد ؟ من قبل الزوج في المستقبل أم يخلقه الله ابتداء ؟ وروي أن جبريل عليه السلام حين قال لها هذه المقالة نفخ في جيب درعها وكمها قاله ابن جريج . ابن عباس : أخذ جبريل عليه السلام رُدن قميصها بإصبعه فنفخ فيه فحملت من ساعتها بعيسى . قال الطبري : وزعمت النصارى أن مريم حملت بعيسى ولها ثلاث عشرة سنة ، وأن عيسى عاش إلى أن رفع اثنتين وثلاثين سنة وأياماً ، وأن مريم بقيت بعد رفعه ست سنين ، فكان جميع عمرها نيفاً وخمسين سنة . وقوله : { وَلِنَجْعَلَهُ } متعلق بمحذوف أي ونخلقه لنجعله : { آيَةً } دلالة على قدرتنا عجيبة { وَرَحْمَةً } أي لمن آمن به { وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً } مقدراً في اللوح مسطوراً . قوله تعالى : { فَٱنْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً } أي تنحت بالحمل إلى مكان بعيد قال ابن عباس : إلى أقصى الوادي ، وهو وادي بيت لحم بينه وبين إيلياء أربعة أميال وإنما بعدت فراراً من تعيير قومها إياها بالولادة من غير زوج . قال ابن عباس : ما هو إلا أن حملت فوضعت في الحال وهذا هو الظاهر لأن الله تعالى ذكر الانتباذ عقب الحمل . وقيل : غير ذلك على ما يأتي . قوله تعالى : { فَأَجَآءَهَا ٱلْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ } « أجاءَهَا » بمعنى اضطرها وهو تعدية جاء بالهمز . يقال : جاء به وأجاءه إلى موضع كذا ، كما يقال : ذهب به وأذهبه . وقرأ شبيل ورويت عن عاصم « فاجأها » من المفاجأة . وفي مصحف أبيّ « فلما أجاءها المخاض » . وقال زهير : @ وَجَارٍ سَار معتمداً إلينَا أَجاءَتْهُ المخافَةُ والرَّجاءُ @@ وقرأ الجمهور « المخَاضُ » بفتح الميم . وابن كثير فيما روي عنه بكسرها وهو الطلق وشدّة الولادة وأوجاعها . مَخِضت المرأة تَمخَض مَخَاضاً ومِخَاضاً . وناقة ماخض أي دنا ولادها . « إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ » كأنها طلبت شيئاً تستند إليه وتتعلق به ، كما تتعلق الحامل لشدّة وجع الطلق . والجذع ساق النخلة اليابسة في الصحراء الذي لا سعف عليه ولا غصن ولهذا لم يقل إلى النخلة . { قَالَتْ يٰلَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَـٰذَا } تمنت مريم عليها السلام الموت من جهة الدين لوجهين : أحدهما : أنها خافت أن يظن بها الشر في دينها وتعير فيفتنها ذلك . الثاني : لئلا يقع قوم بسببها في البهتان والنسبة إلى الزنى وذلك مهلك . وعلى هذا الحدّ يكون تمني الموت جائزاً ، وقد مضى هذا المعنى مبيناً في سورة « يوسف » عليه السلام . والحمد لله . قلت : وقد سمعتُ أن مريم عليها السلام سمعت نداء من يقول : اخرج يا من يُعبَد من دون الله فحزنت لذلك ، و { قَالَتْ يٰلَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَـٰذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً } . النِّسي في كلام العرب الشيء الحقير الذي شأنه أن ينسى ولا يتألم لفقده كالوتد والحبل للمسافر ونحوه . وحكي عن العرب أنهم إذا أرادوا الرحيل عن منزل قالوا : احفظوا أنساءكم الأنساء جمع نِسي وهو الشيء الحقير يغفل فينسى . ومنه قول الكميت رضي الله تعالى عنه : @ أتجعلنا جِسْراً لكلبٍ قُضَاعةٌ ولستُ بِنسْيٍ في مَعَدٍّ ولا دَخل @@ وقال الفراء : النّسي ما تلقيه المرأة من خِرَق اعتلالها فقول مريم : « نسيا منسيا » أي حيضة ملقاة . وقرىء « نَسْياً » بفتح النون وهما لغتان مثل الحِجْر والحَجْر والوِتْر والوَتْر . وقرأ محمد بن كعب القرظي بالهمز « نِسْئاً » بكسر النون . وقرأ نوف البِكَاليّ « نَسْئاً » بفتح النون من نسأ الله تعالى في أجله أي أخره . وحكاها أبو الفتح والدَّاني عن محمد بن كعب . وقرأ بكر بن حبيب « نَسًّا » بتشديد السين وفتح النون دون همز . وقد حكى الطبري في قصصها أنها لما حملت بعيسى عليه السلام حملت أيضاً أختها بيحيـى ، فجاءتها أختها زائرة فقالت : يا مريم أشعرت أنت أني حملت ؟ فقالت لها : وإني أجد ما في بطني يسجد لما في بطنك فذلك أنه روي أنها أحست بجنينها يخر برأسه إلى ناحية بطن مريم قال السدي فذلك قوله : { مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } [ آل عمران : 39 ] . وذكر أيضاً من قصصها أنها خرجت فارّة مع رجل من بني إسرائيل يقال له يوسف النجار ، كان يخدم معها في المسجد وطوّل في ذلك . قال الكلبي : قيل ليوسف وكانت سميت له أنها حملت من الزنى فالآن يقتلها الملك ، فهرب بها ، فهمَّ في الطريق بقتلها ، فأتاه جبريل عليه السلام وقال له : إنه من روح القدس قال ابن عطية : وهذا كله ضعيف . وهذه القصة تقتضي أنها حملت ، واستمرّت حاملاً على عرف النساء ، وتظاهرت الروايات بأنها ولدته لثمانية أشهر . قاله عكرمة ولذلك قيل : لا يعيش ابن ثمانية أشهر حفظاً لخاصة عيسى . وقيل : ولدته لتسعة . وقيل : لستة . وما ذكرناه عن ابن عباس أصح وأظهر . والله أعلم . قوله تعالى : { فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ } قرىء بفتح الميم وكسرها . قال ابن عباس : المراد بـ « ـمن » جبريل ، ولم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها وقاله علقمة والضحاك وقتادة ففي هذا لها آية وأمارة أن هذا من الأمور الخارقة للعادة التي لله تعالى فيها مراد عظيم . وقوله : { أَلاَّ تَحْزَنِي } تفسير النداء ، « وأَنْ » مفسرّة بمعنى أي المعنى : فلا تحزني بولادتك . { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً } يعني عيسى . والسريّ من الرجال العظيم الخصال السيّد . قال الحسن : كان والله سريّا من الرجال . ويقال : سَرِي فلان على فلان أي تكرم . وفلان سريٌّ من قوم سَرَاة . وقال الجمهور : أشار لها إلى الجدول الذي كان قريب جذع النخلة . قال ابن عباس : كان ذلك نهراً قد انقطع ماؤه فأجراه الله تعالى لمريم . والنهر يسمى سَرِيًّا كأنَّ الماء يسري فيه قال الشاعر : @ سَلْمٌ تَرَى الدَّالِيَّ منه أَزْوَرَا إذا يَعُبُّ في السَّرِيِّ هَرْهَرَا @@ وقال لبيد : @ فَتَوَسَّطَا عُرْضَ السَّرِيِّ وَصَدَّعَا مَسْجُورَةً مُتَجَاوِراً قُلاَّمُهَا @@ وقيل : ناداها عيسى ، وكان ذلك معجزة وآية وتسكيناً لقلبها والأول أظهر . وقرأ ابن عباس « فَنَاداها ملك مِن تحتِها » قالوا : وكان جبريل عليه السلام في بقعة من الأرض أخفض من البقعة التي كانت هي عليها . قوله تعالى : { وَهُزِّىۤ إِلَيْكِ بِجِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً . فَكُلِي وَٱشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً } فيه أربع مسائل : الأولى : قوله تعالى : { وَهُزِّىۤ } أمرها بهزّ الجذع اليابس لترى آية أخرى في إحياء موات الجذع . والباء في قوله : « بجذع » زائدة مؤكدة كما يقال : خذ بالزمام ، وأعط بيدك قال الله تعالى : { فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى ٱلسَّمَآءِ } [ الحج : 15 ] أي فليمدد سبباً . وقيل : المعنى وهزي إليك رطباً على جذع النخلة . و { تَسَّاقَطْ } أي تتساقط فأدغم التاء في السين . وقرأ حمزة « تَسَاقَطْ » مخففاً فحذف التي أدغمها غيره . وقرأ عاصم في رواية حفص « تُسَاقِطْ » بضم التاء مخففاً وكسر القاف . وقرىء « تَتَسَاقَطْ » بإظهار التاءين و « يَسَّاقَطْ » بالياء وإدغام التاء « وتُسْقِط » و « يُسْقِط » و « تَسْقُطْ » و « يَسْقط » بالتاء للنخلة وبالياء للجذع فهذه تسع قراءات ذكرها الزمخشري رحمة الله تعالى عليه . « رطباً » نصب بالهز أي إذا هززت الجذع هززتِ بهزه « رطباً جنيا » . وعلى الجملة فـ « ـرطباً » يختلف نصبه بحسب معاني القراءات فمرة يستند الفعل إلى الجذع ، ومرة إلى الهزّ ، ومرة إلى النخلة . « وجنيا » معناه قد طابت وصلحت للاجتناء ، وهي من جنيت الثمرة . ويروى عن ابن مسعود ولا يصح أنه قرأ « تساقط عليك رطباً جنياً بَرْنيًّا » . وقال مجاهد : « رطباً جنِياً » قال : كانت عجوة . وقال عباس بن الفضل : سألت أبا عمرو بن العلاء عن قوله : « رطباً جنياً » فقال : لم يذو . قال وتفسيره : لم يجف ولم ييبس ولم يبعد عن يدي مجتنيه وهذا هو الصحيح . قال الفراء : الجنيّ والمجنيّ واحد يذهب إلى أنهما بمنزلة القتيل والمقتول والجريح والمجروح . وقال غير الفراء : الجنيّ المقطوع من نخلة واحدة ، والمأخوذ من مكان نشأته وأنشدوا : @ وطيب ثمار في رياضٍ أرِيضةٍ وأغصان أشجارٍ جَنَاها على قُرْبِ @@ يريد بالجَنَى ما يجنى منها أي يقطع ويؤخذ . قال ابن عباس : كان جذعاً نخزاً فلما هزت نظرت إلى أعلى الجذع فإذا السعف قد طلع ، ثم نظرت إلى الطلع قد خرج من بين السعف ، ثم اخضر فصار بلحاً ثم احمر فصار زَهْواً ، ثم رطباً كل ذلك في طرفة عين ، فجعل الرطب يقع بين يديها لا ينشدخ منه شيء . الثانية : استدل بعض الناس من هذه الآية على أن الرزق وإن كان محتوماً فإن الله تعالى قد وكَلَ ابن آدم إلى سعي مّا فيه لأنه أمر مريم بهز النخلة لترى آية ، وكانت الآية تكون بألا تهز . الثالثة : الأمر بتكليف الكسب في الرزق سنة الله تعالى في عباده ، وأن ذلك لا يقدح في التوكل ، خلافاً لما تقوله جهال المتزهدة وقد تقدم هذا المعنى والخلاف فيه . وقد كانت قبل ذلك يأتيها رزقها من غير تكسب كما قال : { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً } [ آل عمران : 37 ] الآية . فلما ولدت أمرت بهزّ الجذع . قال علماؤنا : لما كان قلبها فارغاً فرغ الله جارحتها عن النصب ، فلما ولدت عيسى وتعلق قلبها بحبه ، واشتغل سرها بحديثه وأمره ، وكلها إلى كسبها ، وردها إلى العادة بالتعلق بالأسباب في عباده . وحكى الطبري عن ابن زيد أن عيسى عليه السلام قال لها : لاتحزني فقالت له : كيف لا أحزن وأنت معي ؟ ! لا ذات زوج ولا مملوكة ! أي شيء عذري عند الناس ؟ ! { يٰلَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَـٰذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً } فقال لها عيسى : أنا أكفيك الكلام . الرابعة : قال الربيع بن خيثم : ما للنفساء عندي خير من الرطب لهذه الآية ، ولو علم الله شيئاً هو أفضل من الرطب للنفساء لأطعمه مريم ولذلك قالوا : التمر عادة للنفساء من ذلك الوقت ، وكذلك التّحنيك . وقيل : إذا عسر ولادها لم يكن لها خير من الرطب ، ولا للمريض خير من العسل ذكره الزمخشري . قال ابن وهب قال مالك قال الله تعالى : « رطباً جنِيا » الجنيّ من التمر ما طاب من غير نَقْش ولا إفساد . والنَّقْش أن يُنقَش من أسفل البسرة حتى ترطب فهذا مكروه يعني مالك أن هذا تعجيل للشيء قبل وقته ، فلا ينبغي لأحد أن يفعله ، وإن فعله فاعل ما كان ذلك مجوّزاً لبيعه ولا حُكْماً بطيبه . وقد مضى هذا القول في الأنعام . والحمد لله . وعن طلحة بن سليمان « جِنِيًّا » بكسر الجيم للإتباع أي جعلنا لك في السريّ والرطب فائدتين : إحداهما الأكل والشرب ، والثانية سلوة الصدر لكونهما معجزتين وهو معنى قوله تعالى : { فَكُلِي وَٱشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً } أي فكلي من الجنيّ ، واشربي من السريّ ، وقرّي عيناً برؤية الولد النبيّ . وقرىء بفتح القاف وهي قراءة الجمهور . وحكى الطبريّ قراءة « وَقِرِّي » بكسر القاف وهي لغة نجد . يقال : قَرَّ عيناً يَقُر ويَقِر بضم القاف وكسرها وأقر الله عينه فقرّت . وهو مأخوذ من القُرّ والقِرّة وهما البَرْد . ودمعة السرور باردة ، ودمعة الحزن حارة . وضعّفت فرقة هذا وقالت : الدمع كله حار ، فمعنى أقر الله عينه أي سكن الله عينه بالنظر إلى من يحبه حتى تقرّ وتسكن وفلان قُرة عيني أي نفسي تسكن بقربه . وقال الشيباني : « وقرّي عيناً » معناه نامي حضها على الأكل والشرب والنوم . قال أبو عمرو : أقرّ الله عينه أي أنام عينه ، وأذهب سهره . و « عيناً » نصب على التمييز كقولك : طب نفساً . والفعل في الحقيقة إنما هو للعين فنقل ذلك إلى ذي العين وينصب الذي كان فاعلاً في الحقيقة على التفسير . ومثله طبت نفساً ، وتفقأت شحماً ، وتصببت عرقاً ، ومثله كثير . قوله تعالى : { فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ ٱلبَشَرِ أَحَداً فَقُولِيۤ إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَـٰنِ صَوْماً } فيه ثلاث مسائل : الأولى : قوله تعالى : { فَإِمَّا تَرَيِنَّ } الأصل في تريِن تَرْأَيِينَ فحذفت الهمزة كما حذفت من ترى ونقلت فتحتها إلى الراء فصار « تريين » ، ثم قلبت الياء الأولى ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها ، فاجتمع ساكنان الألف المنقلبة عن الياء وياء التأنيث ، فحذفت الألف لالتقاء الساكنين ، فصار تَرَيْنَ ، ثم حذفت النون علامة للجزم لأن إن حرف شرط وما صلة فبقي تَرَىْ ، ثم دخله نون التوكيد وهي مثقلة ، فكسر ياء التأنيث لالتقاء الساكنين لأن النون المثقلة بمنزلة نونين الأولى ساكنة فصار تَرَيِنَ وعلى هذا النحو قول ابن دريد : @ إمـا تَـرَىْ رأسِـيَ حَـاكَـى لـونُـهُ @@ وقول الأفوه : @ إمــا تَــرَىْ رأسِــيَ أَزْرَى بـــه @@ وإنما دخلت النون هنا بتوطئة « ما » كما يوطِّىء لدخولها أيضاً لام القسم . وقرأ طلحة وأبو جعفر وشيبة « تَرَيْنَ » بسكون الياء وفتح النون خفيفة قال أبو الفتح : وهي شاذة . الثانية : قوله تعالى : { فَقُولِيۤ إِنِّي نَذَرْتُ } هذا جواب الشرط وفيه إضمار أي فسألكِ عن ولدِك { فَقُولِيۤ إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَـٰنِ صَوْماً } أي صَمْتاً قاله ابن عباس وأنس بن مالك . وفي قراءة أبيّ بن كعب « إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمٰنِ صَوْماً صَمْتاً » . وروي عن أنس . وعنه أيضاً « وصمتاً » بواو ، واختلاف اللفظين يدل على أن الحرف ذكر تفسيراً لا قرآناً فإذا أتت معه واو فممكن أن يكون غير الصوم . والذي تتابعت به الأخبار عن أهل الحديث ورواة اللغة أن الصوم هو الصمت لأن الصوم إمساك والصمت إمساك عن الكلام . وقيل : هو الصوم المعروف ، وكان يلزمهم الصمت يوم الصوم إلا بالإشارة . وعلى هذا تخرج قراءة أنس « وصمتاً » بواو ، وأن الصمت كان عندهم في الصوم ملتزماً بالنذر ، كما أن من نذر منا المشي إلى البيت اقتضى ذلك الإحرام بالحج أو العمرة . ومعنى هذه الآية أن الله تعالى أمرها على لسان جبريل عليه السلام أو ابنها على الخلاف المتقدم بأن تمسك عن مخاطبة البشر ، وتحيل على ابنها في ذلك ليرتفع عنها خجلها ، وتتبين الآيةُ فيقوم عذرها . وظاهر الآية أنها أبيح لها أن تقول هذه الألفاظ التي في الآية ، وهو قول الجمهور .