Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 19, Ayat: 11-15)

Tafsir: al-Ǧāmiʿ li-aḥkām al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

فيه خمس مسائل : الأولى : قوله تعالى : { فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنَ ٱلْمِحْرَابِ } أي أشرف عليهم من المصلى . والمحراب أرفع المواضع ، وأشرف المجالس ، وكانوا يتخذون المحاريب فيما ارتفع من الأرض ، دليله محراب داود عليه السلام على ما يأتي . واختلف الناس في اشتقاقه فقالت فرقة : هو مأخوذ من الحرب كأن ملازمه يحارب الشيطان والشهوات . وقالت فرقة : هو مأخوذ من الحَرَب بفتح الراء كأن ملازمه يلقى منه حرباً وتعباً ونصباً . الثانية : هذه الآية تدل على أن ارتفاع إمامهم على المأمومين كان مشروعاً عندهم في صلاتهم . وقد اختلف في هذه المسألة فقهاء الأمصار ، فأجاز ذلك الإمام أحمد بن حنبل وغيره متمسكاً بقصة المنبر . ومنع مالك ذلك في الارتفاع الكثير دون اليسير ، وعَلَّل أصحابه المنع بخوف الكبْر على الإمام . قلت : وهذا فيه نظر وأحسن ما فيه ما رواه أبو داود عن همام أن حذيفة أَمَّ الناس بالمدائن على دكان ، فأخذ أبو مسعود بقميصه فجبذه ، فلما فرغ من صلاته قال : ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن هذا أو يُنهَى عن ذلكٰ قال : بلى قد ذكرت حين مددتني . وروي أيضاً عن عدي بن ثابت الأنصاري قال : حدّثني رجل أنه كان مع عمار بن ياسر بالمدائن ، فأقيمت الصلاة فتقدّم عمار بن ياسر ، وقام على دكان يصلي والناس أسفل منه ، فتقدّم حذيفة فأخذ على يديه فاتبعه عمار حتى أنزله حذيفة ، فلما فرغ عمار من صلاته ، قال له حذيفة : ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا أَمَّ الرجلُ القوم فلا يقم في مكان أرفعَ من مقامهم " أو نحو ذلك فقال عمّار : لذلك اتبعتك حين أخذت على يدي . قلت : فهؤلاء ثلاثة من الصحابة قد أخبروا بالنهي عن ذلك ، ولم يحتج أحد منهم على صاحبه بحديث المنبر فدل على أنه منسوخ . ومما يدل على نسخه أن فيه عملاً زائداً في الصلاة ، وهو النزول والصعود ، فنسخ كما نسخ الكلام والسلام . وهذا أولى مما اعتذر به أصحابنا من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان معصوماً من الكِبْر لأن كثيراً من الأئمة يوجد لا كِبْر عندهم . ومنهم من علله بأن ارتفاع المنبر كان يسيراً والله أعلم . الثالثة قوله تعالى : { فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً } قال الكلبي وقتادة وابن منبه : أوحى إليهم أشار . القتبي : أومأ . مجاهد : كتب على الأرض . عكرمة : كتب في كتاب . والوحي في كلام العرب الكتابة ومنه قول ذي الرُّمة : @ سوى الأربع الدُّهْم اللواتي كأنَّها بَقِيَّةُ وَحْيٍ في بُطونِ الصَّحَائِف @@ وقال عَنْترة : @ كوحي صحائفٍ من عهد كسرى فأهداها لأعجم طِمْطِمِيِّ @@ و « بكرة وعشيا » ظرفان . وزعم الفراء أن العشي يؤنث ويجوز تذكيره إذا أبهمتَ قال : وقد يكون العشيّ جمع عشية . الرابعة : قد تقدّم الحكم في الإشارة في « آل عمران » . واختلف علماؤنا فيمن حلف ألا يكلم إنساناً فكتب إليه كتاباً ، أو أرسل إليه رسولاً فقال مالك : إنه يحنث إلا أن ينوي مشافهته ، ثم رجع فقال : لا ينوي في الكتاب ويحنث إلا أن يرتجع الكتاب قبل وصوله . قال ابن القاسم : إذا قرأ كتابه حنث ، وكذلك لو قرأ الحالف كتاب المحلوف عليه . وقال أشهب : لا يحنث إذا قرأه الحالف وهذا بيّن لأنه لم يكلمه ولا ابتدأه بكلام ، إلا أن يريد ألا يعلم معنى كلامه فإنه يحنث وعليه يخرج قول ابن القاسم . فإن حلف ليكلمنه لم يبرّ إلا بمشافهته وقال ابن الماجشون : وإن حلف لئن علم كذا ليُعلِمنّه أو ليُخبِرنّه فكتب إليه أو أرسل إليه رسولاً بَرَّ ، ولو علماه جميعاً لم يبر ، حتى يُعلِمه لأن علمهما مختلف . الخامسة : واتفق مالك والشافعي والكوفيون أن الأخرس إذا كتب الطلاق بيده لزمه قال الكوفيون : إلا أن يكون رجل أصمِت أياماً فكتب لم يجز من ذلك شيء . قال الطحاوي : الخرس مخالف للصمت العارض ، كما أن العجز عن الجماع العارض لمرض ونحوه يوماً أو نحوه مخالف للعجز المأيوس منه الجماع ، نحو الجنون في باب خيار المرأة في الفرقة . قوله تعالى : { يٰيَحْيَىٰ خُذِ ٱلْكِتَابَ بِقُوَّةٍ } في الكلام حذف المعنى فولد له ولد وقال الله تعالى للمولود : { يٰيَحْيَىٰ خُذِ ٱلْكِتَابَ بِقُوَّةٍ } . وهذا اختصار يدل الكلام عليه . و « الكتاب » التوراة بلا خلاف . « بقوّة » أي بجد واجتهاد قاله مجاهد . وقيل : العلم به ، والحفظ له والعمل به ، وهو الالتزام لأوامره ، والكفّ عن نواهيه قاله زيد بن أسلم وقد تقدّم في « البقرة » . قوله تعالى : { وَآتَيْنَاهُ ٱلْحُكْمَ صَبِيّاً } قيل : الأحكام والمعرفة بها . وروى مَعْمَر أن الصبيان قالوا ليحيـى : اذهب بنا نلعب فقال : ما للعب خلقت . فأنزل الله تعالى « وآتيناه الحكم صبِيا » . وقال قتادة : كان ابن سنتين أو ثلاث سنين . وقال مقاتل : كان ابن ثلاث سنين . و « صبيا » نصب على الحال . وقال ابن عباس : من قرأ القرآن قبل أن يحتلم فهو ممن أوتي الحكم صبيا . وروي في تفسير هذه الآية من طريق عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كل بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذَنْب إلا ما كان من يحيـى بن زكريا " وقال قتادة : إن يحيـى عليه السلام لم يعص الله تعالى قط بصغيرة ولا كبيرة ولا هَمَّ بامرأة . وقال مجاهد : وكان طعام يحيـى عليه السلام العشب ، وكان للدمع في خدّيه مجار ثابتة . وقد مضى الكلام في معنى قوله : { وَسَيِّداً وَحَصُوراً } [ آل عمران : 39 ] في « آل عمران » . قوله تعالى : { وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا } « حنانا » عطف على « الحكم » . وروي عن ابن عباس أنه قال : والله ما أدري ما « الحنان » ؟ . وقال جمهور المفسرين : الحنان الشفقة والرحمة والمحبة وهو فعل من أفعال النفس . النحاس : وفي معنى الحنان عن ابن عباس قولان : أحدهما : قال : تعطّف الله عز وجل عليه بالرحمة . والقول الآخر ما أعطيه من رحمة الناس حتى يخلصهم من الكفر والشرك . وأصله من حنين الناقة على ولدها . ويقال : حنانك وحنانيك قيل : هما لغتان بمعنى واحد . وقيل : حنانيك تثنية الحنان . وقال أبو عبيدة : والعرب تقول : حنانك يا رب وحنانيك يا رب بمعنى واحد تريد رحمتك . وقال امرؤ القيس : @ ويَمْنَحُها بَنُو شَمَجَى بن جَرْمٍ مَعِيزَهُمُ حَنَانكَ ذا الحَنانِ @@ وقال طرفة : @ أبا مُنْذِرٍ أفنيتَ فاستبقِ بَعضَنَا حَنَانَيْكَ بعضُ الشَّرِّ أهونُ مِنْ بَعْضِ @@ وقال الزمخشري : « حنانا » رحمة لأبويه وغيرهما وتعطفاً وشفقة وأنشد سيبويه : @ فقالتْ حَنَانٌ ما أَتَى بكَ هَاهُنَا أَذُو نَسَبٍ أَمْ أنت بالحيِّ عارفُ @@ قال ابن الأعرابي : الحنّان من صفة الله تعالى مشدداً الرحيم . والحنَان مخفف : العطف والرحمة . والحنان : الرزق والبركة . ابن عطية : والحنان في كلام العرب أيضاً ما عظم من الأمور في ذات الله تعالى ومنه قول زيد بن عمرو بن نُفَيل في حديث بلال : والله لئن قتلتم هذا العبد لأتخذن قبره حَنَانا وذكر هذا الخبر الهرويّ فقال : وفي حديث بلال ومر عليه ورقة بن نوفل وهو يعذَّب فقال : والله لئن قتلتموه لأتخذنه حَنَانا أي لأتمسحنّ به . وقال الأزهري : معناه لأتعطفن عليه ولأترحمن عليه لأنه من أهل الجنة . قلت : فالحنان العطف ، وكذا قال مجاهد . و « حنانا » أي تعطفاً منا عليه أو منه على الخلق قال الحطيئة : @ تَحنَّنْ عليَّ هَدَاكَ الملِيكُ فإنّ لكلِّ مقامٍ مَقَالاَ @@ عكرمة : محبة . وحَنَّة الرجل امرأته لتوادهما قال الشاعر : @ فقالتْ حنانٌ ما أَتَى بكَ هاهنا أذو نسبٍ أم أنتَ بالحيّ عارفُ @@ قوله تعالى : { وَزَكَاةً } « الزكاة » التطهير والبركة والتنمية في وجوه الخير والبر أي جعلناه مباركاً للناس يهديهم . وقيل : المعنى زكيناه بحسن الثناء عليه كما تزكي الشهود إنسانا . وقيل : « زكاة » صدقة به على أبويه قاله ابن قتيبة . { وَكَانَ تَقِيّاً } أي مطيعاً لله تعالى ، ولهذا لم يعمل خطيئة ولم يُلمَّ بها . قوله تعالى : { وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ } البر بمعنى البار وهو الكثير البرّ . و { جَبَّاراً } متكبراً . وهذا وصف ليحيـى عليه السلام بلين الجانب وخفض الجناح . قوله تعالى : { وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ } قال الطبري وغيره : معناه أمان . ابن عطية : والأظهر عندي أنها التحية المتعارفة فهي أشرف وأنبه من الأمان لأن الأمان متحصل له بنفي العصيان عنه وهي أقل درجاته ، وإنما الشرف في أن سلم الله تعالى عليه ، وحياه في المواطن التي الإنسان فيها في غاية الضعف والحاجة وقلة الحيلة والفقر إلى الله تعالى عظيم الحول . قلت : وهذا قول حسن ، وقد ذكرنا معناه عن سفيان بن عيينة في سورة « سبحان » عند قتل يحيـى . وذكر الطبري عن الحسن أن عيسى ويحيـى التقيا وهما ابنا الخالة فقال يحيـى لعيسى : ادع الله لي فأنت خير مني فقال له عيسى : بل أنت ادع الله لي فأنت خير مني سلم الله عليك وأنا سلمت على نفسي فانتزع بعض العلماء من هذه الآية في التسليم فضل عيسى بأن قال : إدلاله في التسليم على نفسه ومكانته من الله تعالى التي اقتضت ذلك حين قرر وحكى في محكم التنزيل أعظم في المنزلة من أن يسلم عليه . قال ابن عطية : ولكل وجه .