Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 20, Ayat: 51-52)

Tafsir: al-Ǧāmiʿ li-aḥkām al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

فيه أربع مسائل : الأولى : قوله تعالى : { قَالَ فَمَا بَالُ } البال الحال أي ما حالها وما شأنها ، فأعلمه أن علمها عند الله تعالى ، أي إن هذا من علم الغيب الذي سألت عنه ، وهو مما استأثر الله تعالى به لا يعلمه إلا هو ، وما أنا إلا عبد مثلك لا أعلم منه إلا ما أخبرني به علام الغيوب ، وعلم أحوال القرون مكتوبة عند الله في اللوح المحفوظ . وقيل : المعنى فما بال القرون الأولى لم يقروا بذلك . أي فما بالهم ذهبوا وقد عبدوا غير ربك . وقيل : إنما سأله عن أعمال القرون الأولى ، فأعلمه أنها محصاة عند الله تعالى ، ومحفوظة عنده في كتاب . أي هي مكتوبة فسيجازيهم غداً بها وعليها . وعنى بالكتاب اللوح المحفوظ . وقيل : هو كتاب مع بعض الملائكة . الثانية : هذه الآية ونظائرها مما تقدم ويأتي تدل على تدوين العلوم وكَتْبها لئلا تُنْسى . فإن الحفظ قد تعتريه الآفات من الغلط والنّسيان . وقد لا يحفظ الإنسان ما يسمع فيقيده لئلا يذهب عنه . وروينا بالإسناد المتصل عن قتادة أنه قيل له : أنكتب ما نسمع منك ؟ قال : وما يمنعك أن تكتب وقد أخبرك اللطيف الخبير أنه يكتب فقال : { عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى } . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لما قضى الله الخلق كتب في كتاب على نفسه فهو موضوع عنده إن رحمتي تغلِب غضبي " وأسند الخطيب أبو بكر عن أبي هريرة قال : كان رجل من الأنصار يجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستمع منه الحديث ويعجبه ولا يحفظه ، فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ! إني أسمع منك الحديث يعجبني ولا أحفظه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : « استعن بيمينك » وأومأ إلى الخطّ . وهذا نصّ . وعلى جواز كَتْب العلم وتدوينه جمهور الصحابة والتابعين وقد أمر صلى الله عليه وسلم : بكَتْب الخطبة التي خطب بها في الحج لأبي شاه رجل من اليمن لما سأله كَتْبها . أخرجه مسلم . وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " قَيِّدُوا العلمَ بالكتابة " وقال معاوية بن قُرّة : من لم يكتب العلم لم يعد علمه علماً . وقد ذهب قوم إلى المنع من الكَتْب فروى أبو نضرة قال : قيل لأبي سعيد : أنكتب حديثكم هذا ؟ قال : لم تجعلونه قرآناً ؟ ولكن احفظوا كما حفظنا . وممن كان لا يكتب الشعبي ويونس بن عبيد وخالد الحذّاء قال خالد : ما كتبت شيئاً قط إلا حديثاً واحداً ، فلما حفظته محوته وابن عون والزهري . وقد كان بعضهم يكتب فإذا حفظ محاه منهم محمد بن سيرين وعاصم بن ضَمْرة . وقال هشام بن حسان : ما كتبت حديثاً قطّ إلا حديث الأعماق فلما حفظته محوته . قلت : وقد ذكرنا عن خالد الحذّاء مثل هذا . وحديث الأعماق خرجه مسلم في آخر الكتاب : " لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق " الحديث ذكره في كتاب الفتن . وكان بعضهم يحفظ ثم يكتب ما يحفظ منهم الأعمش وعبد الله بن إدريس وهشيم وغيرهم . وهذا احتياط على الحفظ . والكَتْب أولى على الجملة ، وبه وردت الآي والأحاديث وهو مرويّ عن عمر وعلي وجابر وأنس رضي الله عنهم ، ومن يليهم من كبراء التابعين كالحسن وعطاء وطاوس وعروة بن الزبير ، ومن بعدهم من أهل العلم قال الله تعالى : { وَكَتَبْنَا لَهُ فِي ٱلأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ } [ الأعراف : 145 ] . وقال تعالى : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي ٱلزَّبُورِ مِن بَعْدِ ٱلذِّكْرِ أَنَّ ٱلأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ ٱلصَّالِحُونَ } [ الأنبياء : 105 ] . وقال تعالى : { وَٱكْتُبْ لَنَا فِي هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً } [ الأعراف : 156 ] الآية . وقال تعالى : { وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي ٱلزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ } [ القمر : 52 53 ] . وقال : { عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ } إلى غير هذا من الآي . وأيضاً فإن العلم لا يضبط إلا بالكتاب ، ثم بالمقابلة والمدارسة والتعهد والتحفظ والمذاكرة والسؤال والفحص عن الناقلين والثقة بما نقلوا ، وإنما كره الكَتبْ من كره من الصدر الأوّل لقرب العهد ، وتقارب الإسناد لئلا يعتمده الكاتب فيهمله ، أو يرغب عن حفظه والعمل به فأما والوقت متباعد ، والإسناد غير متقارب ، والطرق مختلفة ، والنَّقَلة متشابهون ، وآفة النسيان معترضة ، والوهم غير مأمون فإن تقييد العلم بالكتاب أولى وأشفى ، والدليل على وجوبه أقوى فإن احتج محتج بحديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا تكتبوا عني ومن كتب غير القرآن فليمحه " خرجه مسلم فالجواب أن ذلك كان متقدماً فهو منسوخ بأمره بالكتابة ، وإباحتها لأبي شاه وغيره . وأيضاً كان ذلك لئلا يخلط بالقرآن ما ليس منه . وكذا ما روي عن أبي سعيد أيضاً حرصنا أن يأذن لنا النبي صلى الله عليه وسلم في الكتابة فأبى إن كان محفوظاً فهو قبل الهجرة ، وحين كان لا يؤمن الاشتغال به عن القرآن . الثالثة : قال أبو بكر الخطيب : ينبغي أن يكتب الحديث بالسواد ثم الحبر خاصة دون المداد لأن السواد أصبغ الألوان ، والحبر أبقاها على مر الدهور . وهو آلة ذوي العلم ، وعدّة أهل المعرفة . ذكر عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي قال : رآني الشافعي وأنا في مجلسه وعلى قميصي حبر وأنا أخفيه فقال : لم تخفيه وتستره ؟ إن الحبر على الثوب من المروءة لأن صورته في الأبصار سواد ، وفي البصائر بياض . وقال خالد بن يزيد : الحبر في ثوب صاحب الحديث مثل الخَلُوق في ثوب العروس . وأخذ هذا المعنى أبو عبد الله البَلَوي فقال : @ مِدادُ المَحَابرِ طيبُ الرجال وطِيب النساءِ من الزّعفرانْ فهذا يَليق بأثواب ذَا وهذا يليقُ بثوب الحَصَانْ @@ وذكر الماوردي أن عبد الله بن سليمان فيما حكى رأى على بعض ثيابه أثر صفرة فأخذ من مداد الدواة وطلاه به ثم قال : المداد بنا أحسن من الزعفران وأنشد : @ إنّما الزّعفرانُ عِطرُ العَذَارَى ومِدادُ الدّويِّ عِطرُ الرِّجالِ @@ الرابعة : قوله تعالى : { لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى } اختلف في معناه على أقوال خمسة الأول : إنه ابتداء كلام ، تنزيه لله تعالى عن هاتين الصفتين . وقد كان الكلام تم في قوله : « في كتاب » . وكذا قال الزجاج ، وأن معنى « لا يضلّ » لا يهلك من قوله : { أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي ٱلأَرْضِ } [ السجدة : 10 ] . « وَلا يَنْسَى » شيئاً نزّهه عن الهلاك والنّسيان . القول الثاني : « لاَ يَضِلُّ » لا يخطىء قاله ابن عباس أي لا يخطىء في التدبير ، فمن أنظره فلحكمة أنظره ، ومن عاجله فلحكمة عاجله . القول الثالث : « لا يضل » لا يغيب . قال ابن الأعرابي : أصل الضلال الغَيبوبة يقال : ضلّ الناسِي إذا غاب عنه حفظ الشيء . قال : ومعنى { لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى } أي لا يغيب عنه شيء ولا يغيب عن شيء . القول الرابع قاله الزجاج أيضاً وقال النحاس وهو أشبهها بالمعنى ـ : أخبر الله عز وجل أنه لا يحتاج إلى كتاب والمعنى لا يضل عنه علم شيء من الأشياء ولا معرفتها ، ولا ينسى ما علِمه منها . قلت : وهذا القول راجع إلى معنى قول ابن الأعرابي . وقول خامس : إن { لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى } في موضع الصفة لـ « ـكتاب » أي الكتاب غير ضال عن الله عز وجل أي غير ذاهب عنه . { وَلاَ يَنسَى } أي غير ناسٍ له فهما نعتان لـ « ـكتاب » . وعلى هذا يكون الكلام متصلاً ، ولا يوقف على « كتاب » . تقول العرب : ضلّني الشيء إذا لم أجده ، وأضللته أنا إذا تركته في موضع فلم تجده فيه . وقرأ الحسن وقتادة وعيسى بن عمر وابن محيصن وعاصم الجَحْدري وابن كثير فيما روى شبل عنه « لاَ يُضِلُّ » بضم الياء على معنى لا يُضيعه ربّي ولا ينساه . قال ابن عرفة : الضلالة عند العرب سلوك سبيل غير القصد يقال : ضلَّ عن الطريق ، وأضل الشيء إذا أضاعه . ومنه قرأ من قرأ « لاَ يُضِلُّ رَبِّي » أي لا يُضيع هذا مذهب العرب .