Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 21, Ayat: 62-63)
Tafsir: al-Ǧāmiʿ li-aḥkām al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { قَالُوۤاْ أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَـٰذَا بِآلِهَتِنَا يٰإِبْرَاهِيمُ } فيه أربع مسائل : الأولى : لما لم يكن السماع عاماً ولا ثبتت الشهادة ، استفهموه هل فعل أم لا ؟ وفي الكلام حذف فجاء إبراهيم حين أتي به فقالوا : أأنت فعلت هذا بالآلهة ؟ فقال لهم إبراهيم على جهة الاحتجاج عليهم : { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَـٰذَا } أي إنه غار وغضب من أن يعبد هو ويعبد الصغار معه ففعل هذا بها لذلك ، إن كانوا ينطقون فاسألوهم . فعلق فعل الكبير بنطق الآخرين تنبيهاً لهم على فساد اعتقادهم . كأنه قال : بل هو الفاعل إن نطق هؤلاء . وفي الكلام تقديم على هذا التأويل في قوله : { فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ } . وقيل : أراد بل فعله كبيرهم إن كانوا ينطقون . بين أن من لا يتكلم ولا يعلم لا يستحق أن يعبد . وكان قوله من المعاريض ، وفي المعاريض مندوحة عن الكذب . أي سلوهم إن نطقوا فإنهم يصدقون ، وإن لم يكونوا ينطقون فليس هو الفاعل . وفي ضمن هذا الكلام اعتراف بأنه هو الفاعل وهذا هو الصحيح لأنه عدده على نفسه ، فدل أنه خرج مخرج التعريض . وذلك أنهم كانوا يعبدونهم ويتخذونهم آلهة من دون الله ، كما قال إبراهيم لأبيه : { يٰأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ } [ مريم : 42 ] الآية فقال إبراهيم : { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَـٰذَا } ليقولوا إنهم لا ينطقون ولا ينفعون ولا يضرون فيقول لهم فلم تعبدونهم ؟ فتقوم عليهم الحجة منهم ، ولهذا يجوز عند الأمة فرض الباطل مع الخصم حتى يرجع إلى الحق من ذات نفسه فإنه أقرب في الحجة وأقطع للشبهة ، كما قال لقومه : « هَذَا رَبِّي » وهذه أختي و « إِنِّي سَقِيمٌ » و « بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا » وقرأ ابن السميقع « بل فَعَلَّهُ » بتشديد اللام بمعنى فلعل الفاعل كبيرهم . وقال الكسائي الوقف عند قوله : « بل فعله » أي فعله من فعله ثم يبتدىء « كَبِيُرُهم هذا » . وقيل : أي لم ينكرون أن يكون فعله كبيرهم ؟ فهذا إلزام بلفظ الخبر . أي من اعتقد عبادتها يلزمه أن يثبت لها فعلاً والمعنى : بل فعله كبيرهم فيما يلزمكم . الثانية : روى البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لم يكذب إبراهيم النبي في شيء قط إلا في ثلاث ، قوله : « إِني سقِيم » وقوله : لسارة أختي وقوله : « بل فعله كبِيرهم » " لفظ الترمذي . وقال : حديث حسن صحيح . ووقع في الإسراء في صحيح مسلم ، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة إبراهيم قال : وذكر قوله في الكوكب « هذا ربي » . فعلى هذا تكون الكذبات أربعاً إلا أن الرسول عليه السلام قد نفى تلك بقوله : " لم يكذب إبراهيم النبي قط إلا في ثلاث كذبات ثنتين في ذات الله قوله : { إِنِّي سَقِيمٌ } وقوله : « بل فعله كبِيرهم » وواحدة في شأن سارة " الحديث لفظ مسلم . وإنما لم يعد عليه قوله في الكوكب : « هذا ربي » كذبة وهي داخلة في الكذب لأنه والله أعلم كان حين قال ذلك في حال الطفولية ، وليست حالة تكليف . أو قال لقومه مستفهماً لهم على جهة التوبيخ والإنكار ، وحذفت همزة الاستفهام . أو على طريق الاحتجاج على قومه : تنبيهاً على أن ما يتغير لا يصلح للربوبية . وقد تقدمت هذه الوجوه كلها في « الأنعام » مبينة والحمد لله . الثالثة : قال القاضي أبو بكر بن العربي : في هذا الحديث نكتة عظمى تقصم الظهر ، وهي أنه عليه السلام قال : " لم يكذب إبراهيم إلا في ثلاث كذبات ثنتين مَاحَلَ بهما عن دين الله وهما قوله : « إِني سقِيم » وقوله : « بل فعله كبيرهم " ولم يعدّ قوله هذه أختي في ذات الله تعالى وإن كان دفع بها مكروهاً ، ولكنه لما كان لإبراهيم عليه السلام فيها حظ من صيانة فراشه وحماية أهله ، لم يجعلها في ذات الله وذلك لأنه لا يجعل في جنب الله وذاته إلا العمل الخالص من شوائب الدنيا ، والمعاريض التي ترجع إلى النفس إذا خلصت للدين كانت لله سبحانه ، كما قال : { أَلاَ لِلَّهِ ٱلدِّينُ ٱلْخَالِصُ } [ الزمر : 3 ] . وهذا لو صدر منا لكان لله ، لكن منزلة إبراهيم اقتضت هذا . والله أعلم . الرابعة : قال علماؤنا : الكذب هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه . والأظهر أن قول إبراهيم فيما أخبر عنه عليه السلام كان من المعاريض ، وإن كانت معاريض وحسنات وحججاً في الخلق ودلالات ، لكنها أثرت في الرتبة ، وخفضت عن محمد المنزلة ، واستحيا منها قائلها ، على ما ورد في حديث الشفاعة فإن الأنبياء يشفقون مما لا يشفق منه غيرهم إجلالاً لله فإن الذي كان يليق بمرتبته في النبوّة والخُلَّة ، أن يصدع بالحق ويصرح بالأمر كيفما كان ، ولكنه رخص له فقبل الرخصة فكان ما كان من القصة ولهذا جاء في حديث الشفاعة " إنما اتخذت خليلاً من وراء وراء " بنصب وراء فيهما على البناء كخمسة عشر ، وكما قالوا : جاري بَيْتَ بَيْتَ ، ووقع في بعض نسخ مسلم « من وراءُ من وراءُ » بإعادة من ، وحينئذٍ لا يجوز البناء على الفتح ، وإنما يبنى كل واحد منهما على الضم لأنه قطع عن الإضافة ونوى المضاف كقبل وبعد ، وإن لم ينو المضاف أعرب ونون غير أن وراء لا ينصرف لأن ألفه للتأنيث لأنهم قالوا في تصغيرها وريية قال الجوهري : وهي شاذة . فعلى هذا يصح الفتح فيهما مع وجود « مِن » فيهما . والمعنى إني كنت خليلاً متأخراً عن غيري . ويستفاد من هذا أن الخُلَّة لم تصح بكمالها إلا لمن صح له في ذلك اليوم المقام المحمود كما تقدم . وهو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .