Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 180-180)

Tafsir: al-Ǧāmiʿ li-aḥkām al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

فيه أربع مسائل : الأولىٰ : قوله تعالىٰ : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ } « الذين » في موضع رفع ، والمفعول الأوّل محذوف . قال الخليل وسيبويه والفَرّاء : المعنى البخل خيراً لهم ، أي لا يحسبَنّ الباخلون البخلَ خيراً لهم . وإنما حذف لدلالة يبخلون على البخل وهو كقوله : من صدق كان خيراً له . أي كان الصدق خيراً له . ومن هذا قول الشاعر : @ إذا نُهِيَ السّفِيه جَرَى إليه وخالَفَ والسَّفِيهُ إلى خِلافِ @@ فالمعنى : جَرَىٰ إلى السَّفه فالسّفيه دلّ على السَّفه . وأما قراءة حمزة بالتاء فبعيدة جدّاً قاله النحاس . وجوازها أن يكون التقدير : لا تحسبن بخل الذين يبخلون هو خيراً لهم . قال الزجاج : وهي مثل { وَٱسْأَلِ الْقَرْيَةَ } . و « هو » في قوله { هُوَ خَيْراً لَّهُمْ } فاصلة عند البصريين ، وهي العماد عند الكوفيين . قال النحاس : ويجوز في العربية « هو خير لهم » ابتداء وخبر . الثانية : قوله تعالىٰ : { بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ } ابتداء وخبر ، أي البخل شرّ لهم . والسين في « سَيُطَوَّقُونَ » سين الوعيد ، أي سوف يُطَوَّقُون قاله المبرّد . وهذه الآية نزلت في البخل بالمال والإنفاق في سبيل الله ، وأداء الزكاة المفروضة . وهذه كقوله : { وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } الآية . ذهب إلى هذا جماعةٌ من المتأوّلين ، منهم ابن مسعود وابن عباس وأبو وائل وأبو مالك والسّدِّي والشَّعْبِيّ قالوا : ومعنى { سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ } هو الذي ورد في الحديث عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " « من آتاه الله مالاً فلم يُؤَدّ زكاته مُثِّل له يوم القيامة شُجاعاً أقْرَعَ له زَبِيبتان يُطَوّقه يوم القيامة ثم يأخذ بِلهزمتيه ثم يقول أنا مالُك أنا كنزك ثم تلا هذه الآية { وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ } الآية " أخرجه النسائي . وخرّجه ابن ماجه " عن ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ما مِن أحدٍ لا يُؤدِّي زكاةَ مالِهِ إِلاَّ مُثِّل له يومَ القيامة شُجاع أقْرَعُ حتى يُطَوَّقَ به في عنقه » ثم قرأ علينا النبيّ صلى الله عليه وسلم مِصداقه من كتاب الله تعالى : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } الآية " وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال " ما من ذي رَحِمٍ يأتي ذَا رَحِمه فيسأله من فضل ما عنده فيبخل به عليه إلاَّ أخرج له يوم القيامة شُجاعٌ من النار يتلمظّ حتى يُطَوِّقه " وقال ابن عباس أيضاً : إنما نزلت في أهل الكتاب وبخلهم ببيان ما علموه من أمر محمد صلى الله عليه وسلم . وقال ذلك مُجاهد وجماعة من أهل العلم . ومعنى { سَيُطَوَّقُونَ } على هذا التأويل سيحملون عقاب ما بخلوا به فهو من الطاقة كما قال تعالىٰ : { وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ } [ البقرة : 184 ] وليس من التّطويق . وقال إبراهيم النَّخَعِيّ : معنى { سَيُطَوَّقون } سيُجعل لهم يوم القيامة طَوْقٌ من النار . وهذا يجري مع التأويل الأوّل أي قول السدي . وقيل : يُلزَمون أعمالهم كما يلزم الطّوق العنق يقال : طُوِّق فلان عملَه طَوْقَ الحمامة ، أي ألزِم عمله . وقد قال تعالىٰ : { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ } [ الإسراء : 13 ] . ومن هذا المعنى قولُ عبد الله بن جَحْش لأبي سفيان : @ أبلِغْ أبا سفيان عن أمْرٍ عواقبُه ندامه دارَ ٱبن عمِّك بِعتَها تقضي بها عنك الغرامهْ وَحَلِيفـكُم باللَّه ربِّ الناسِ مجتهِـدُ القَسَامـهْ ٱذهب بها ٱذهب بها طُوِّقتَها طوقَ الحمامهْ @@ وهذا يجري مع التأويل الثاني . والبُخْل والبَخَل في اللغة أن يَمنع الإنسانُ الحقَّ الواجبَ عليه . فأما من منَع ما لاَ يجب عليه فليس ببخيل لأنه لا يُذَمّ بذلك . وأهل الحجاز يقولون : يَبْخَلُون وقد بَخلُوا . وسائر العرب يقولون : بَخِلُوا يَبْخَلُون حكاه النحاس . وبَخِل يَبْخَل بُخْلاً وَبَخَلاً عن ابن فارس . الثالثة : في ثمرة البخل وفائدته . وهو ما رُوي " أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال للأنصار : « من سَيدكم » قالوا الجَدّ ابن قيس على بُخْلٍ فيه . فقال صلى الله عليه وسلم : « وأيُّ داء أَدْوَى من البخل » قالوا : كيف ذاك يا رسول الله ؟ قال : « إن قوماً نزلوا بساحل البحر فكَرِهوا لبخلهم نزول الأضياف بهم فقالوا : ليبعد الرجال منّا عن النساء حتى يعتذر الرجال إلى الأضياف بِبُعْد النساء وتعتذر النساء ببُعْد الرجال ففعلوا وطال ذلك بهم فاشتغل الرجال بالرجال والنساء بالنساء » " ذكره الماوردي في كتاب « أدب الدنيا والدين » . والله أعلم . الرابعة : واختلف في البُخْل والشُّحّ هل هما بمعنى واحد أو بمعنين . فقيل : البخل الامتناع من إخراج ما حصل عندك . والشُّح : الحِرصُ على تحصيل ما ليس عندك . وقيل : إن الشُّح هو مع حِرص . وهو الصحيح لما رواه مسلم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اتقوا الظلم فإن الظلم ظُلماتٌ يوم القيامة وٱتقوا الشُّحَّ فإن الشُّح أهلك من كان قبلكم على أن سفكوا دماءهم وٱستحلوا محارمهم " وهذا يردّ قول من قال : إن البخلَ منعُ الواجب ، والشحَّ منعُ المستحبّ . إذ لو كان الشح منع المستحب لما دخل تحت هذا الوعيد العظيم ، والذم الشديد الذي فيه هلاك الدنيا والآخرة . ويؤيد هذا المعنى ما رواه النسائي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " لا يجتمع غُبارٌ في سبيل الله ودخان جهنم في مِنِخَرىْ رجلٍ مُسلمٍ أبداً ولا يجتمع شحُّ وإيمانٌ في قلب رجل مسلم أبداً " وهذا يدل على أن الشُّحَ أشدّ في الذم من البخل إلا أنه قد جاء ما يدل على مساواتهما وهو قوله وقد سئل : أيكون المؤمن بخيلا ؟ قال : « لا » وذكر المارودي في كتاب « أدب الدنيا والدين » أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار : « من سيدّكم » قالوا : الجدّ بن قيس على بُخْل فيه الحديث . وقد تقدم . قوله تعالى : { وَللَّهِ مِيرَاثُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } أخبر تعالى ببقائه ودوام مُلكه . وأنه في الأبد كهو في الأزل غنيٌّ عن العالمين ، فيرث الأرض بعد فناء خلقه وزوال أملاكهم فتبقى الأملاك والأَموال لا مُدَّعى فيها . فجرى هذا مجرى الوراثة في عادة الخلق ، وليس هذا بميراث في الحقيقة لأن الوارث في الحقيقة هو الذي يرث شيئا لم يكن مَلكَهُ من قبل ، والله سبحانه وتعالى مالكُ السمواتِ والأرضِ وما بينهما ، وكانت السموات وما فيها ، والأرض وما فيها له ، وأن الأموال كانت عارية عند أربابها فإذا ماتوا رُدَّت العارية إلى صاحبها الذي كانت له في الأصل . ونظير هذه الآية قوله تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ ٱلأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا } [ مريم : 40 ] الآية . والمعنى في الآيتين أن الله تعالى أمر عباده بأن يُنفقوا ولا يَبْخَلُوا قبل أن يموتوا ويتركوا ذلك ميراثا لله تعالى ، ولا ينفعهم إلا ما أنفقوا .