Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 37-38)
Tafsir: al-Ǧāmiʿ li-aḥkām al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ } المعنى : سلك بها طريق السعداء عن ٱبن عباس . وقال قوم : معنى التّقبّل التكفّل في التربية والقيامُ بشأنها . وقال الحسن : معنى التقبل أنه ما عذّبها ساعةً قطُّ من ليل ولا نهار . { وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً } يعني سوّى خلقها من غير زيادة ولا نقصان ، فكانت تنبت في اليوم ما ينبت المولود في عام واحد . والقبول والنبات مصدران على غير المصدر ، والأصل تقَبُّلاً وإنباتاً . قال الشاعر : @ أكُفْراً بعد ردّ الموت عنِّي وبعدَ عطائكَ المائةَ الرِّتاعا @@ أراد بعد إعطائك ، لكن لما قال « أنبتها » دل على نَبَت كما قال ٱمرؤ القيس : @ فصِرْنا إلى الحسنى ورَقّ كلامُنا ورُضْتُ فذلّت صعبةً أيّ إذلالِ @@ وإنما مصدر ذَلّتْ ذُلٌّ ، ولكنه ردّه على معنى أذْلَلتْ وكذلك كل ما يَرِد عليك في هذا الباب . فمعنى تقبّل وقَبِل واحد ، فالمعنى فقَبِلها ربُّها بقبول حَسَن . ونظيره قولُ رُؤْبة : @ وقـد تَطَوّيْـتُ ٱنطـواءَ الحِضْـبِ @@ الأفعى لأن معنى تَطَوّيتُ وٱنطويت واحد ومثله قول القَطامِيّ : @ وخير الأمر ما ٱستقبلت منه وليس بأن تَتَبّعَه اتباعا @@ لأن تَتَبعت وٱتّبعت واحد . وفي قراءة ٱبن مسعود « وأَنْزل الملائكةَ تَنْزيلاً » لأن معنى نزّل وأنزل واحد . وقال المُفَضّل : معناه وأنبتها فنبتتْ نَباتاً حَسَناً . ومراعاة المعنى أوْلى كما ذكرنا . والأصل في القبول الضم لأنه مصدر مثل الدخول والخروج ، والفتح جاء في حروف قليلة مثل الوَلوع والوَزوع هذه الثلاثة لا غيرُ قاله أبو عمرو والكسائي والأئمة . وأجاز الزجاج « بقُبُول » بضم القاف على الأصل . قوله تعالى : { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } أي ضَمها إليه . أبو عبيدة : ضِمن القيام بها . وقرأ الكوفيون « وكفّلها » بالتشديد ، فهو يتعدّى إلى مفعولين والتقدير وكفّلها ربُّها زكريا ، أي ألزمه كفالتها وقدّر ذلك عليه ويَسّره له . وفي مصحف أُبَيّ « وأكفلها » والهمزة كالتشديد في التعدّي وأيضاً فإن قَبْله « فتقبلها ، وأنبتها » فأخبر تعالى عن نفسه بما فعل بها فجاء « كفّلها » بالتشديد على ذلك . وخففه الباقون على إسناد الفعل إلى زكريا . فأخبر الله تعالى أنه هو الذي تولّى كفالتها والقيامَ بها بدلالة قوله : { أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ } [ آل عمران : 440 ] . قال مَكِّيّ : وهو الاختيار لأن التشديد يرجع إلى التخفيف ، لأن الله تعالى إذا كفّلها زكريا كفَلها بأمر الله ، ولأن زكريا إذا كفلها فعن مشيئة الله وقدرته فعلى ذلك فالقراءتان متداخلتان . وروى عمرو بن موسى عن عبد الله بن كَثِير وأبي عبد الله المُزَنِي « وكَفِلها » بكسر الفاء . قال الأخفش : يقال كَفَلَ يَكْفُلُ وكَفِلَ يَكْفَلُ ولم أسمع كَفُلَ ، وقد ذُكِرت . وقرأ مجاهد « فتقبّلْها » بإسكان اللام على المسألة والطلب . « رَبّها » بالنصب نداء مضاف . « وأنبتْها » بإسكان التاء « وكفلْها » بإسكان اللام « زكرياء » بالمدّ والنصب . وقرأ حفص وحمزة والكسائي « زكريا » بغير مد ولا همز ، ومدّه الباقون وَهَمزوه . وقال الفَرّاء : أهل الحجاز يمدّون « زكرياء » ويُقْصرونه ، وأهل نَجْد يحذفون منه الألف ويصرفونه فيقولون : زكريٌّ . قال الأخفش : فيه أربع لغات : المد والقصر ، وزكرِيٌّ بتشديد الياء والصرف ، وزكَرٍ ورأيت زكرِيا . قال أبو حاتم : زكري بلا صرف لأنه أعجميّ وهذا غلط لأن ما كان فيه « يا » مثل هذا ٱنصرف مثل كرسيّ ويحيى ، ولم ينصرف زكرياء في المد والقصر لأن فيه ألف تأنيث والعجمة والتعريف . فيه أربع مسائل : الأولى : قوله تعالى : { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ } المِحراب في اللغة أكرم موضع في المجلس . وسيأتي له مزيد بيان في سورة « مريم » وجاء في الخبر : إنها كانت في غرفة كان زكريا يصعَد إليها بُسلّم . قال وَضّاح اليمين : @ رَبَّةُ مِحـرابٍ إذا جئتُها لم أَلْقَها حتى ٱرتَقِي سُلّمَا @@ أي رَبّة غرفة . روى أبو صالح عن ٱبن عباس قال : حملت ٱمرأة عمران بعد ما أسنّت فنذرت ما في بطنها محرّرا فقال لها عمران : ويحِك ! ما صنعت ؟ أرأيت إن كانت أنثى ؟ فاغتما لذلك جميعا . فهلك عِمران وحَنّة حامل فولدت أنثى فتقبلها الله بقبول حَسَن ، وكان لا يُحرر إلا الغلمان فتساهم عليها الأحبار بالأقلام التي يكتبون بها الوحي ، على ما يأتي . فكفلها زكريا وأخذ لها موضعا فلما أسنّت جعل لها مِحرابا لا يرتقي إليه إلا بسلم وٱستأجر لها ظِئرًا وكان يُغِلق عليها باباً ، وكان لا يدخل عليها إلا زكريا حتى كبرت ، فكانت إذا حاضت أخرجها إلى منزله فتكون عند خالتها وكانت خالتها ٱمرأة زكريا في قول الكَلْبي . قال مُقاتِل : كانت أختها ٱمرأة زكريا ، وكانت إذا طهرت من حيضتها وآغتسلت ردّها إلى المحراب . وقال بعضهم : كانت لاتحيض وكانت مطهَّرة من الحيض . وكان زكريا إذا دخل عليها يجد عندها فاكهة الشتاء في القَيْظ وفاكهة القيظ في الشتاء فقال : يا مريم أنَّى لك هذا ؟ فقالت : هو من عند الله . فعند ذلك طمِع زكريا في الولد وقال : إن الذي يأتيها بهذا قادر أن يرزقني ولدا . ومعنى « أنّى » من أين قاله أبو عبيدة . قال النحاس : وهذا فيه تساهل لأن « أين » سؤال عن المواضع و « أنىَّ » سؤال عن المذاهب والجهات . والمعنى من أي المذاهب ومن أيّ الجهات لكِ هذا . وقد فرّق الكُمَيت بينهما فقال : @ أنّى ومن أيْنَ آبك الطّرب من حيث لا صَبْوة ولا رِيَب @@ و « كلّما » منصوب بــ « ـوَجَدَ » ، أي كلّ دَخْلة . { إنًّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } قيل : هو من قول مريم ، ويجوز أن يكون مستأنفا فكان ذلك سبب دعاء زكريا وسؤاله الولد . الثانية : قوله تعالى { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ } هنالك في موضع نصب لأنه ظرف يستعمل للزمان والمكان وأصله للمكان . وقال المُفَضَّل بن سَلَمة : « هنالك » في الزمان و « هناك » في المكان ، وقد يجعل هذا مكان هذا . و { هَبْ لِي } أعطني . { مِن لَّدُنْكَ } مِن عِندِك . { ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً } أي نَسلا صالحا . والذُّرِّية تكون واحدة وتكون جمعا ذكرا وأنثى ، وهو هنا واحد . يدل عليه قوله { فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً } [ مريم : 5 ] ولم يقل أولياء ، وإنما أنَّثَ « طَيِّبة » لتأنيث لفظ الذرية كقوله : @ أبوك خليفة ولدته أخرى وأنت خليفة ذاك الكمال @@ فأنَّثَ ولدته لتأنيث لفظ الخليفة . ورُوي من حديث أنس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أي رجل مات وترك ذُرّية طيبة أجرى الله له مثل أجر عملهم ولم ينقص من أجورهم شيئا " وقد مضى في « البقرة » اشتقاق الذرية . و { طَيِّبَةً } أي صالحة مباركة . { إِنَّكَ سَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ } أي قابلة ومنه : سمِع الله لمن حَمِده . الثالثة : دلّت هذه الآية على طلب الولد ، وهي سُنّة المرسلين والصدّيقين ، قال الله تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً } [ الرعد : 38 ] وفي صحيح مسلم عن سعد بن أبي وَقّاص قال : أراد عثمان أن يتبتّل فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولو أجاز له ذلك لاختصينا . وخرّج ابن ماجه عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " النكاح من سُنَّتي فمن لم يعمل بُسنّتي فليس منّي وتزوّجوا فإني مكاثِرٌ بكم الأمم ومن كان ذا طَول فَلْيَنْكِح ومن لم يجد فعليه بالصوم فإنه له وجاء " وفي هذا رَدٌّ على بعض جُهّال المتصوّفة حيث قال : الذي يطلب الولدَ أحمق ، وما عَرَفَ أنه هو الغبيُّ الأخرق قال الله تعالى مخبرا عن إبراهيم الخليل : { وَٱجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي ٱلآخِرِينَ } [ الشعراء : 84 ] وقال : { وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ } [ الفرقان : 74 ] . وقد ترجم البخاري على هذا « باب طلب الولد » . " وقال صلى الله عليه وسلم لأبى طَلْحة حين مات ٱبنه . « أعْرَسْتم الليلة » ؟ قال نعم . قال : « بارك الله لكما في غابر ليلتكما » " قال فحملت . في البخاري : قال سفيان فقال رجل من الأنصار : فرأيت تسعة أولاد كلهم قد قرأوا القرآن . وترجم أيضا « باب الدعاء بكثرة الولد مع البركة » وساق حديث أنس بن مالك قال قالت " أم سُليم : يا رسول الله ، خادمك أنس أدع الله له . فقال : « اللّهُمّ أكثر ماله وولده وبارك له فيما أعطيته » " وقال صلى الله عليه وسلم : " الّلهُمّ ٱغفر لأبي سَلَمة وٱرفع درجته في المهديَّين فيما وٱخلفه في عَقِبه في الغابرين " أخرّجه البخاري ومسلم . وقال صلى الله عليه وسلم : " تزوجوا الوَلود الوَدود فإني مكاثر بكم الأمم " أخرجه أبو داود . والأخبار في هذا المعنى كثيرة تحث على طلب الولد وتندب إليه لما يرجوه الإنسان من نفعه في حياته وبعد موته . قال صلى الله عليه وسلم : " « إذا مات أحدكم انقطع عمله إلا من ثلاث » فذكر « أو ولد صالح يدعو له » " ولو لم يكن إلا هذا الحديث لكان فيه كفاية . الرابعة : فإذا ثبت هذا فالواجب على الإنسان أن يتضرّع إلى خالقه في هداية ولده وزوجه بالتوفيق لهما والهداية والصلاح والعفاف والرعاية ، وأن يكونا مُعينين له على دينه ودنياه حتى تعظم منفعته بهما في أولاه وأخراه ألا ترى قول زكريا { وَٱجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً } [ مريم : 6 ] وقال : { ذُرِيَّةً طَيِبةً } . وقال : { هَبْ لنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِيَّاتِنَا قُرَّة أَعْيُنٍ } . " ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنس فقال : « اللّهُمّ أكثر ماله وولده وبارك له فيه » " خرّجه البخاري ومسلم ، وحسْبُك .