Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 39-39)

Tafsir: al-Ǧāmiʿ li-aḥkām al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { فَنَادَتْهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ } قرأ حمزة والكسائي « فناداه » بالألف على التذكير ، ويُميلانها لأنّ أصلها الياء ، ولأنها رابعة . وبالألف قراءة ٱبن عباس وٱبن مسعود ، وهو ٱختيار أبي عبيد . وروي عن جرير عن مُغِيرة عن إبراهيم قال : كان عبد الله يُذكّر الملائكة في كل القرآن . قال أبو عبيد : نراه اختار ذلك خلافاً على المشركين لأنهم قالوا : الملائكة بنات الله . قال النحاس : هذا آحتجاج لا يُحصَّل منه شيء لأن العرب تقول : قالت الرجال ، وقال الرجال ، وكذا النساء ، وكيف يحتجّ عليهم بالقرآن ، ولو جاز أن يحتج عليهم بالقرٱن بهذا لجاز أن يحتّجوا بقوله تعالى : { وَإِذْ قَالَتِ ٱلْمَلاَئِكَةُ } [ آل عمران : 42 ] ولكن الحجة عليهم في قوله عز وجل : { أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ } [ الزخرف : 19 ] أي فلم يشاهدوا ، فكيف يقولون إنهم إناث فقد عُلم أن هذا ظنّ وهَوىً . وأما « فناداه » فهو جائز على تذكير الجمع ، « ونادته » على تأنيث الجماعة . قال مَكي : والملائكة ممن يعقل في التكسير فجرى في التأنيث مجرى ما لا يعقل ، تقول : هي الرّجال ، وهي الجذوع ، وهي الجِمال ، وقالت الأعراب . ويقوّى ذلك قوله : « وَإذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكةُ » وقد ذكر في موضع آخر فقال : { وَٱلْمَلاۤئِكَةُ بَاسِطُوۤاْ أَيْدِيهِمْ } [ الأنعام : 93 ] وهذا إجماع . وقال تعالى : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ } [ الرعد : 23 ] فتأنيث هذا الجمع وتذكيرهُ حَسَنان . وقال السُّدي : ناداه جبريل وحده وكذا في قراءة ٱبن مسعود . وفي التنزيل { يُنَزِّلُ ٱلْمَلاۤئِكَةَ بِٱلْرُّوحِ مِنْ أَمْرِه } [ النحل : 2 ] يعني جبريل ، والروح الَوحْي . وجائز في العربية أن يخبر عن الواحد بلفظ الجمع . وجاء في التنزيل { ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ } يعني نُعيم بن مسعود على ما يأتي . وقيل : ناداه جميع الملائكة ، وهو الأظهر . أي جاء النداء من قبلهم . قوله تعالى : { وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي ٱلْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ } « وهو قائم » ٱبتداء وخبر « يصلِّي » في موضع رفع ، وإن شئت كان نصبا على الحال من المضمر . « أن الله » أي بأن الله . وقرأ حمزة والكِسائي « إنّ » أي قالت إن الله فالنداء بمعنى القول . « يبشرك » بالتشديد قراءة أهل المدينة . وقرأ حمزة « يِبْشُرُك » مخففا وكذلك حُميد بن القيس المكي إلا أنه كسر الشين وضم الياء وخفف الباء . قال الأخفش : هي ثلاث لغاتٍ بمعنًى واحد . دليل الأولى هي قراءة الجماعة أن ما في القرآن من هذا من فعل ماض أو أمرٍ فهو بالتثقيل كقوله تعالى : « فَبَشِّرْ عِبَادي » فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ » « فَبَشَّرْنَاهِا بإسْحَاقَ » قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ » . وأما الثانية وهي قراءة عبدالله بن مسعود فهي من بَشَر يَبْشُر وهي لغة تِهامة ومنه قول الشاعر : @ بشَرتُ عِيالي إذْ رأيتُ صحيفةً أتتك من الحجّاج يُتلى كتابُهَا @@ وقال آخر : @ وإذا رأيت الباهشين إلى النّدى غُبْراً أكُفُّهُم بِقاعٍ مُمْحِلِ فأعِنْهُم وٱبَشْر بما بَشروا به وإذا هُم نَزِلُوا بضَنْك فانزِل @@ وأما الثالثة فهي من أبشر يُبشر إبشارا قال : @ يا أم عَمْرو أبشري بالبُشْرَى موتٍ ذريعٍ وجَرادٍ عَظْلَى @@ قوله تعالى : { بِيَحْيَـىٰ } كان ٱسمه في الكتاب الأوّل حيا ، وكان ٱسم سارّة زوجة إبراهيم عليهما السلام يسارة ، وتفسيره بالعربية لا تلد ، فلما بُشِّرت بإسحاق قيل لها : سارة ، سمّاها بذلك جبريل عليه السلام . فقالت : يا إبراهيم لم نقص من اسمي حرف ؟ فقال إبراهيم ذلك لجبريل عليه السلام . فقال : « إن ذلك الحرف زيد في اسم ٱبنٍ لها من أفضل الأنبياء اسمه حيّي وسمي بيحي » . ذكره النقاش . وقال قتّادة سمي بيحي لأن الله تعالى أحياه بالإيمان والنبوّة . وقال بعضهم : سُمّي بذلك لأن الله تعالى أحيا به الناس بالهُدَى . وقال مُقاتِل : ٱشتق ٱسمه من ٱسم الله تعالى حىّ فسميّ يحيي . وقيل : لأنه أحيا به رحم أمّه . { مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ } يعني عيسى في قول أكثر المفسرين . وسميِّ عيسى كلمة لأنه كان بكلمة الله تعالى التي هي « كن » فكان من غير أب . وقرأ أبو السّمّال العَدَوي « بِكْلِمة » مكسورة الكاف ساكنة اللام في جميع القرآن ، وهي لغة فصيحة مثل كِتْف وفِخْذ . وقيل : سمِّي كلمة لأن الناس يهتدون به كما يهتدون بكلام الله تعالى . وقال أبو عبيد : معنى « بكلمة من الله » بكتاب من الله . قال : والعرب تقول أنشدني كلمة أي قصيدة كما رُوي أن الحُوَيْدرَة ذُكِر لحسّان فقال : لعن الله كلمته ، يعني قصيدته . وقيل غير هذا من الأقوال . والقول الأوّل أشهر وعليه من العلماء الأكثر . و « يحيْ » أوّل من آمن بعيسى عليه السلام وصَدّقه ، وكان يحي أكبر من عيسى بثلاث سنين ويقال بستة أشهر . وكانا ٱبني خالة ، فلما سمع زكريا شهادته قام إلى عيسى فضمّه إليه وهو في خِرَقه . وذكر الطبري أن مريم لما حملت بعيسى حملت أيضا أختها بيحيْ فجاءت أختها زائرة فقالت : يا مريم اشعرت أني حملت ؟ فقالت لها مريم : أشعرت أنت أنى حملت ؟ فقالت لها : وإني لأجد ما في بطني يسجد لما في بطنك . وذلك أنه روي أنها أحست جنينها يخر برأس إلى ناحية بطن مريم . قال السدى : فذلك قوله { مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ } . « ومصدقا » نصب على الحال . { وَسَيِّداً } السيد الذي يسود قومه ويُنْتَهَى إلى قوله ، وأصله سَيْود يقال : فلان أسْوَد من فلان ، أفعل من السيادة ففيه دلالة على جواز تسمية الإنسان سيداً كما يجوز أن يسمى عزيزا أو كريما . وكذلك رُوي " عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لبني قُريظة : « قوموا إلى سيدكم » " وفي البخاري ومسلم " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحسن : « إن ٱبني هذا سيد ولعل الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين » " وكذلك كان ، فإنه لما قُتل علي رضي الله عنه بايعه أكثر من أربعين ألفا وكثير ممن تخلّف عن أبيه وممن نَكث بيعته ، فبقي نحو سبعة أشهر خليفة بالعراق وما وراءها من خُراسان ، ثم سار إلى معاويةَ في أهل الحجاز والعراق وسار إليه معاوية في أهل الشام فلما تراءى الجَمعان بموضع يقال له « مَسْكِن » من أرض السّواد بناحية الأنبار كره الحسَنُ القتالَ لعلمه أن إحدى الطائفتين لا تغلب حتى تهِلك أكثر الأخرى فيهلك المسلمون فسلّم الأمر إلى معاوية على شروط شرطها عليه ، منها أن يكون الأمر له من بعد معاوية فالتزم كل ذلك معاوية فصدَق عليه السلام : " إن ٱبني هذا سيد " ولا أسود ممن سوّده الله تعالى ورسوله . قال قَتادة في قوله تعالى { وَسَيِّداً } قال : في العلم والعبادة . ٱبن جبير والضحاك : في العلم والتُّقي . مجاهد : السيّد الكريم . ٱبن زيد : الذي لا يغلبه الغضب . وقال الزجاج : السيّد الذي يفوق أقرانه في كل شيء من الخير . وهذا جامع . وقال الكِسائي : السيد من المِعَز المسن المسِنّ . وفي الحديث . " ثَنيُّ من الضأن خير من السيّد المعز " قال : @ سواءٌ عليه شاةُ عامٍ دَنتْ له ليذبحها للضّيِف أم شاة سيّدِ @@ { وَحَصُوراً } أصله من الحصر وهو الحبس . حَصَرني الشيء وأحصرني إذا حبسني . قال ٱبن ميّادة : @ وما هجرُ ليلَى أن تكون تباعدت عليكَ ولا أن أحْصَرتك شُغولُ @@ وناقة حصور : ضيّقة الإحليل . والحَصُور الذي لا يأتي النساء كأنه مُحجِم عنهن كما يقال : رجل حصور وحصير إذا حبَس رِفده ولم يخرج ما يخرجه النَّدامَى . يقال : شرِب القوم فحِصر عليهم فلان ، أي بِخل عن أبي عمرو . قال الأخطل : @ وشارِبٍ مُرْبح بالكأس نادمني لا بالحَصُور ولا فيها بِسوّار @@ وفي التنزيل { وَجَعَلْنا جَهَنَّم للكْافِرِينَ حَصِيرا } أي محبِساً . والحِصير الملِك لأنه محجوب . وقال لبِيد : @ وقُماقِمٍ غُلْبِ الرّقابِ كأنهم جِنُّ لدى باب الحصير قِيام @@ فيحيي عليه السلام حصور ، فعول بمعنى مفعول لا يأتي النساء كأنه ممنوع مما يكون في الرجال عن ٱبن مسعود وغيره . وفعول بمعنى مفعول كثير في اللغة ، من ذلك حلوب بمعنى محلوبة قال الشاعر : @ فيها ٱثنتان وٱربعون حَلُوبةً سُوداً كخافية الغراب الأسْحَمِ @@ وقال ٱبن مسعود أيضا وٱبن عباس وٱبن جُبير وقَتادة وعطاء وأبو الشعثاء والحسنُ والسُّدي وٱبن زيد : هو الذي يكُفّ عن النساء ولا يقربهن مع القدرة . وهذا أصح الأقوال لوجهين : أحدهما أنه مَدْحٌ وثناءٌ عليه ، والثناء إنما يكون عن الفعل المكتسَب دون الحِبِلّة في الغالب . الثاني أن فعولا في اللغة من صيغ الفاعلين كما قال : @ ضَروبٌ بنصل السّيف سُوقَ سِمانِها إذا عَدِموا زادا فإنك عاقِرُ @@ فالمعنى أنه يحصر نفسه عن الشهوات . ولعلّ هذا كان شرعهِ فأما شرعُنا فالنكاح ، كما تقدم . وقيل : الحصور العِنِّين الذي لا ذَكَر له يتأتّى له به النكاح ولا يُنزل عن آبن عباس أيضا وسعيد ٱبن المسيب والضحاك . وروى أبو صالح عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " « كُل ٱبن آدم يلقى الله بذنب قد أذنبه يعذّبه عليه إن شاء أو يرحمه إلا يحيي ابن زكريا فإنه كان سيدا وحصورا ونبيا من الصالحين » ثم أهوى النبي صلى الله عليه وسلم بيده إلى قَذاة من الأرض فأخذها وقال : « كان ذَكَره هكذا مثل هذه القذاة » " وقيل : معناه الحابس نفسَه عن معاصي الله عز وجل . { ونبياً مِن الصالِحِين } قال الزجاج : الصالح الذي يؤدّي لله ما ٱفترض عليه ، وإلى الناس حقوقهم .