Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 31, Ayat: 6-6)

Tafsir: al-Ǧāmiʿ li-aḥkām al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

فيه خمس مسائل : الأولى : قوله تعالى : { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ ٱلْحَدِيثِ } « مَنْ » في موضع رفع بالابتداء . و « لَهْوَ الْحَدِيثِ » : الغناء في قول ابن مسعود وابن عباس وغيرهما . النحاس : وهو ممنوع بالكتاب والسنة والتقدير : من يشتري ذا لهو أو ذات لهو مثل : { وَٱسْأَلِ ٱلْقَرْيَةَ } [ يوسف : 82 ] . أو يكون التقدير : لما كان إنما اشتراها يشتريها ويبالغ في ثمنها كأنه اشتراها للّهو . قلت : هذه إحدى الآيات الثلاث التي استدلّ بها العلماء على كراهة الغناء والمنع منه . والآية الثانية قوله تعالى : { وَأَنتُمْ سَامِدُونَ } [ النجم : 61 ] . قال ابن عباس : هو الغناء بالْحِمْيَرِيّة اسمدي لنا أي غنّي لنا . والآية الثالثة قوله تعالى : { وَٱسْتَفْزِزْ مَنِ ٱسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ } [ الإسراء : 64 ] قال مجاهد : الغناء والمزامير . وقد مضى في « سبحان » الكلام فيه . وروى الترمذِيّ عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تبيعوا القَيْنَات ولا تشتروهن ولا تعلموهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام ، في مثل هذا أنزلت هذه الآية : { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ ٱلْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } " إلى آخر الآية . قال أبو عيسى : هذا حديث غريب ، إنما يُروى من حديث القاسم عن أبي أمامة ، والقاسم ثقة وعليّ بن يزيد يضعّف في الحديث قاله محمد بن إسماعيل . قال ابن عطية : وبهذا فسر ابن مسعود وابن عباس وجابر بن عبد الله ومجاهد ، وذكره أبو الفرج الْجَوْزي عن الحسن وسعيد ابن جبير وقتادة والنَّخَعِيّ . قلت : هذا أعلى ما قيل في هذه الآية ، وحلف على ذلك ابن مسعود بالله الذي لا إلٰه إلا هو ثلاث مرات إنه الغناء . روى سعيد بن جُبير عن أبي الصَّهباء البكري قال : سئل عبد الله بن مسعود عن قوله تعالى : { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ ٱلْحَدِيثِ } فقال : الغناء والله الذي لا إلٰه إلا هو يرددها ثلاث مرات . وعن ابن عمر أنه الغناء وكذلك قال عكرمة وميمون بن مهران ومكحول . وروى شعبة وسفيان عن الحكم وحماد عن إبراهيم قال : قال عبد الله بن مسعود : الغناء ينبت النفاق في القلب وقاله مجاهد ، وزاد : إنّ لهو الحديث في الآية الاستماع إلى الغناء وإلى مثله من الباطل . وقال الحسن : لهو الحديث المعازِف والغناء . وقال القاسم بن محمد : الغناء باطل والباطل في النار . وقال ابن القاسم سألت مالكاً عنه فقال : قال الله تعالى : { فَمَاذَا بَعْدَ ٱلْحَقِّ إِلاَّ ٱلضَّلاَلُ } [ يونس : 32 ] أفحق هو ؟ ! وترجم البخاري بَابٌ كلُّ لهو باطلٌ إذا شغل عن طاعة الله ، ومن قال لصاحبه تعال أقامِرْك ، وقوله تعالى : { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ ٱلْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً } فقوله : « إذَا شَغَل عن طاعة الله » مأخوذ من قوله تعالى : { لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } . وعن الحسن أيضاً : هو الكفر والشرك . وتأوّله قوم على الأحاديث التي يَتَلَهَّى بها أهل الباطل واللعِب . وقيل : نزلت في النضر بن الحارث لأنه اشترى كتب الأعاجم : رستم ، واسفنديار فكان يجلس بمكة ، فإذا قالت قريش إن محمداً قال كذا ضحك منه ، وحدثهم بأحاديث ملوك الفرس ويقول : حديثي هذا أحسن من حديث محمد حكاه الفرّاء والكَلْبي وغيرهما . وقيل : كان يشتري المغنّيات فلا يظفر بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قَيْنَته فيقول : أطعميه واسقيه وغَنّيه ويقول : هذا خير مما يدعوك إليه محمد من الصلاة والصيام وأن تقاتل بين يديه . وهذا القول والأوّل ظاهر في الشراء . وقالت طائفة : الشراء في هذه الآية مستعار ، وإنما نزلت الآية في أحاديث قريش وتلهيهم بأمر الإسلام وخوضهم في الباطل . قال ابن عطية : فكان ترك ما يجب فعله وامتثال هذه المنكرات شراءً لها على حد قوله تعالى : { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرُواْ ٱلضَّلاَلَةَ بِٱلْهُدَىٰ } [ البقرة : 16 ] اشتروا الكفر بالإيمان أي استبدلوه منه واختاروه عليه . وقال مُطَرِّف : شراء لهوِ الحديث استحبابه . قتادة : ولعلّه لا ينفق فيه مالاً ، ولكن سماعه شراؤه . قلت : القول الأوّل أولى ما قيل به في هذا الباب للحديث المرفوع فيه ، وقول الصحابة والتابعين فيه . وقد زاد الثعلبي والواحدِيّ في حديث أبي أمامة : " وما من رجل يرفع صوته بالغناء إلا بعث الله عليه شيطانين أحدهما على هذا المَنْكِب والآخر على هذا المنكب فلا يزالان يضربان بأرجلهما حتى يكون هو الذي يسكت " وروى الترمذي وغيره من حديث أنس وغيره عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : " صوتان ملعونان فاجران أنَهى عنهما : صوت مزمار ورنّة شيطان عند نغمة ومَرَح ورَنّة عند مصيبة لطم خدود وشق جيوب " وروى جعفر بن محمد عن أبيه عن جدّه عن عليّ عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بُعثت بكسر المزامير " خرجه أبو طالب الغَيْلانِي . وخرّج ابن بشران عن عكرمة عن ابن عباس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " بُعثت بهدم المزامير والطبل " وروى الترمذي من حديث عليّ رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا فعلت أمّتي خمس عشرة خَصْلة حلّ بها البلاء فذكر منها : إذا اتخذت القَيْنات والمعازِف " وفي حديث أبي هريرة : " وظهرت القِيان والمعازِف " وروى ابن المبارك عن مالك بن أنس عن محمد بن الْمُنْكَدِر عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من جلس إلى قَينة يسمع منها صُبّ في أذنه الآنُك يوم القيامة " وروى أسد بن موسى عن عبد العزيز بن أبي سلمة عن محمد بن المنكدِر قال : بلغنا " أن الله تعالى يقول يوم القيامة : « أين عبادي الذين كانوا ينزّهون أنفسهم وأسماعهم عن اللهو ومزامير الشيطان أَحِلّوهم رياض المسك وأخبروهم أني قد أحللت عليهم رضواني » " وروى ابن وهب عن مالك عن محمد بن المنكدر مثَله ، وزاد بعد قوله : " المسك : ثم يقول للملائكة أسمعوهم حمدي وشكري وثنائي ، وأخبروهم ألاّ خوف عليهم ولا هم يحزنون " وقد روي مرفوعاً هذا المعنى من حديث أبي موسى الأشعري أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " « من استمع إلى صوت غناء لم يؤذن له أن يسمع الروحانيين » . فقيل : ومَن الروحانيون يا رسول الله ؟ قال : « قرّاء أهل الجنة » " خرّجه الترمذيّ الحكيم أبو عبد الله في نوادر الأصول ، وقد ذكرنا في كتاب التذكرة مع نظائره : " فمن شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة ، ومن لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة " إلى غير ذلك . وكل ذلك صحيح المعنى على ما بيّنّاه هناك . ومن رواية مكحول عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من مات وعنده جارية مغنية فلا تصلّوا عليه " ولهذه الآثار وغيرها قال العلماء بتحريم الغناء . وهي المسألة : الثانية : وهو الغناء المعتاد عند المشتهرين به ، الذي يحرّك النفوس ويبعثها على الهوى والغَزَل ، والمُجُون الذي يحرك الساكن ويبعث الكامن فهذا النوع إذا كان في شعر يُشَبَّب فيه بذكر النساء ووصف محاسنهن وذكر الخمور والمحرّمات لا يُختلف في تحريمه لأنه اللهو والغناء المذموم بالاتفاق . فأما ما سلم من ذلك فيجوز القليل منه في أوقات الفرح كالعرس والعيد وعند التنشيط على الأعمال الشاقة ، كما كان في حفر الخَنْدَق وحَدْوِ أنْجَشة وسَلَمة بن الأكْوع . فأما ما ابتدعته الصوفية اليوم من الإدمان على سماع المغاني بالآلات المطربة من الشبَّابات والطار والمعازف والأوتار فحرام . ابن العربيّ : فأما طبل الحرب فلا حرج فيه لأنه يقيم النفوس ويُرهب العدوّ . وفي اليراعة تردّد . والدف مباح . الجوهريّ : وربما سمّوا قصبة الراعي التي يزمر بها هيرعة ويراعة . قال القشيريّ : " ضُرب بين يدي النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم دخل المدينة ، فهمّ أبو بكر بالزجر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « دعهن يا أبا بكر حتى تعلم اليهود أن ديننا فسيح » " فكنّ يضربن ويقلن : نحن بنات النجار ، حبذا محمد من جار ، وقد قيل : إن الطبل في النكاح كالدُّف ، وكذلك الآلات المشهِرة للنكاح يجوز استعمالها فيه بما يحسن من الكلام ولم يكن فيه رَفَث . الثالثة : الاشتغال بالغناء على الدوام سفه تُرَد به الشهادة ، فإن لم يدم لم تردّ . وذكر إسحاق بن عيسى الطباع قال : سألت مالك بن أنس عما يُرخِّص فيه أهل المدينة من الغناء فقال : إنما يفعله عندنا الفساق . وذكر أبو الطيب طاهر بن عبد الله الطبري قال : أما مالك بن أنس فإنه نهى عن الغناء وعن استماعه ، وقال : إذا اشترى جارية ووجدها مغنية كان له ردّها بالعيب وهو مذهب سائر أهل المدينة إلا إبراهيم بن سعد فإنه حكى عنه زكريا الساجي أنه كان لا يرى به بأساً . وقال ابن خُوَيْزِمَنْدَاد : فأما مالك فيقال عنه : إنه كان عالماً بالصناعة وكان مذهبه تحريمها . وروي عنه أنه قال : تعلمت هذه الصناعة وأنا غلام شاب ، فقالت لي أمي : أيْ بني إن هذه الصناعة يصلح لها من كان صبيح الوجه ولستَ كذلك ، فاطلب العلوم الدينية فصحبت ربيعة فجعل الله في ذلك خيراً . قال أبو الطيب الطبريّ : وأما مذهب أبي حنيفة فإنه يكره الغناء مع إباحته شرب النّبيذ ، ويجعل سماع الغناء من الذنوب . وكذلك مذهب سائر أهل الكوفة : إبراهيم والشعبيّ وحماد والثوري وغيرِهم ، لا اختلاف بينهم في ذلك . وكذلك لا يعرف بين أهل البصرة خلاف في كراهية ذلك والمنع منه إلا ما روي عن عبيد الله بن الحسن العنبري أنه كان لا يرى به بأساً . قال : وأما مذهب الشافعيّ فقال : الغناء مكروه يشبه الباطل ، ومن استكثر منه فهو سفيه تردّ شهادته . وذكر أبو الفرج الجَوْزي عن إمامه أحمد بن حنبل ثلاثَ روايات قال : وقد ذكر أصحابنا عن أبي بكر الخَلاّل وصاحبِه عبد العزيز إباحة الغناء ، وإنما أشاروا إلى ما كان في زمانهما من القصائد الزُّهديّات قال : وعلى هذا يحمل ما لم يكرهه أحمد ويدلّ عليه أنه سئل عن رجل مات وخلف ولداً وجارية مغنية فاحتاج الصبي إلى بيعها فقال : تباع على أنها ساذجة لا على أنها مغنية . فقيل له : إنها تساوي ثلاثين ألفاً ولعلها إن بيعت ساذجة تساوي عشرين ألفاً ؟ فقال : لا تباع إلا على أنها ساذجة . قال أبو الفرج : وإنما قال أحمد هذا لأن هذه الجارية المغنية لا تغني بقصائد الزهد ، بل بالأشعار المطربة المثيرة إلى العشق . وهذا دليل على أن الغناء محظور إذ لو لم يكن محظوراً ما جاز تفويت المال على اليتيم . وصار هذا " كقول أبي طلحة للنبيّ صلى الله عليه وسلم : عندي خمر لأيتام ؟ فقال : « أرِقها » " فلو جاز استصلاحها لما أمِر بتضييع مال اليتامى . قال الطبريّ : فقد أجمع علماء الأمصار على كراهة الغناء والمنع منه . وإنما فارق الجماعة إبراهيم بن سعد وعبيد الله العنبري وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عليكم بالسواد الأعظم " " من فارق الجماعة مات مِيتة جاهلية " قال أبو الفرج : وقال القفّال من أصحابنا لا تقبل شهادة المغنِّي والرقاص . قلت : وإذ قد ثبت أن هذا الأمر لا يجوز فأخذ الأجرة عليه لا تجوز . وقد ادّعى أبو عمر بن عبد البر الإجماع على تحريم الأجرة على ذلك . وقد مضى في الأنعام عند قوله : { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ } [ الأنعام : 59 ] وحسْبُك . الرابعة : قال القاضي أبو بكر بن العربي : وأما سماع القينات فيجوز للرجل أن يسمع غناء جاريته إذ ليس شيء منها عليه حراماً لا من ظاهرها ولا من باطنها ، فكيف يمنع من التلذذ بصوتها . أمَا أنه لا يجوز انكشاف النساء للرجال ولا هتك الأستار ولا سماع الرَّفَث ، فإذا خرج ذلك إلى ما لا يحل ولا يجوز مُنع من أوّله واجتُثّ من أصله . وقال أبو الطيّب الطبريّ : أما سماع الغناء من المرأة التي ليست بمحرَم فإن أصحاب الشافعيّ قالوا لا يجوز ، سواء كانت حرّة أو مملوكة . قال : وقال الشافعيّ وصاحب الجارية إذا جمع الناس لسماعها فهو سفيه تردّ شهادته ثم غلّظ القول فيه فقال : فهي دِياثة . وإنما جعل صاحبها سفيهاً لأنه دعا الناس إلى الباطل ، ومن دعا الناس إلى الباطل كان سفيهاً . الخامسة : قوله تعالى : { لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } قراءة العامة بضم الياء أي ليضل غيره عن طريق الهدى ، وإذا أضل غيره فقد ضل . وقرأ ابن كثِير وابن محيصن وحميد وأبو عمرو ورُوَيْس وابن أبي إسحاق بفتح الياء على اللازم أي ليَضل هو نفسه . { وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً } قراءة المدنيّين وأبي عمرو وعاصم بالرفع عطفاً على « مَنْ يَشْتَرِي » ويجوز أن يكون مستأنفاً . وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي : « وَيتخِذَها » بالنصب عطفاً على « لِيُضِلّ » . ومن الوجهين جميعاً لا يحسن الوقف على قوله : « بِغَيْرِ عِلْمٍ » والوقف على قوله : « هُزُواً » ، والهاء في « يَتَّخِذَهَا » كناية عن الآيات . ويجوز أن يكون كناية عن السبيل لأن السبيل يؤنث ويذكر . { أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } أي شديد يهينهم . قال الشاعر :