Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 38, Ayat: 30-33)

Tafsir: al-Ǧāmiʿ li-aḥkām al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ ٱلْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } لما ذكر داود ذكر سليمان . و « أَوَّابٌ » معناه مطيع . { إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِٱلْعَشِيِّ ٱلصَّافِنَاتُ ٱلْجِيَادُ } يعني الخيل جمع جواد للفرس إذا كان شديد الحُضر كما يقال للإنسان جواد إذا كان كثير العطية غزيرها يقال : قوم أجواد وخيل جِياد ، جاد الرجلُ بماله يجود جُوداً فهو جواد ، وقوم جُود مثال قَذَالٍ وقُذُلٍ ، وإنما سكنت الواو لأنها حرف علة ، وأجواد وأجاوِد وجُوداء ، وكذلك امرأة جَوَاد ونسوة جُود مثل نوارٍ ونُور ، قال الشاعر : @ صَناعٌ بِإِشْفاها حَصانٌ بِشَكْرِهَا جوادٌ بِقُوتِ البَطْنِ والعِرْقُ زاخِرُ @@ وتقول : سِرنا عُقْبة جَوَادا ، وعُقْبتين جَوَادين ، وعُقْبا جِيادا . وجاد الفرس أي صار رائعاً يجود جُودة بالضم فهو جواد للذكر والأنثى ، من خيل جِياد وأجياد وأجاويد . وقيل : إنها الطوال الأعناق مأخوذ من الجِيد وهو العنق لأن طول الأعناق في الخيل من صفات فَرَاهتها . وفي الصافنات أيضاً وجهان : أحدهما أن صفونها قيامها . قال القتبي والفراء : الصافن في كلام العرب الواقف من الخيل أو غيرها . ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من سرّه أن يقوم له الرجال صفونا فليتبوّأ مقعده من النار " أي يديمون له القيام حكاه قطرب أيضاً وأنشد قول النابغة : @ لنا قُبَّةٌ مضْروبةٌ بفِنائها عِتاقُ المهَارى والجِياد الصَّوَافن @@ وهذا قول قتادة . الثاني أن صفونها رفع إحدى اليدين على طرف الحافر حتى يقوم على ثلاث كما قال الشاعر : @ أَلِفَ الصُّفونَ فما يَزَالُ كَأَنَّهُ مِمَّا يقومُ على الثَّلاَثِ كَسِيرَا @@ وقال عمرو بن كُلْثوم : @ تَركْنا الخيل عاكِفَةً عَلَيْهِ مُقَلَّدَةً أَعِنَّتَهَا صُفونَا @@ وهذا قول مجاهد . قال الكلبي : غزا سليمان أهل دمشق ونَصِيبِين فأصاب منهم ألف فرس . وقال مقاتل : ورث سليمان من أبيه داود ألف فرس ، وكان أبوه أصابها من العمالقة . وقال الحسن : بلغني أنها كانت خيلاً خرجت من البحر لها أجنحة . وقاله الضحاك . وأنها كانت خيلاً أخرجت لسليمان من البحر منقوشة ذات أجنحة . ابن زيد : أخرج الشيطان لسليمان الخيل من البحر من مروج البحر ، وكانت لها أجنحة . وكذلك قال علي رضي الله عنه : كانت عشرين فرساً ذوات أجنحة . وقيل : كانت مائة فرس . وفي الخبر عن إبراهيم التيمي : أنها كانت عشرين ألفاً ، فالله أعلم . فقال : { إِنِّيۤ أَحْبَبْتُ حُبَّ ٱلْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي } يعني بالخير الخيل ، والعرب تسميها كذلك ، وتُعاقِب بين الراء واللام فتقول : انهملت العين وانهمرت ، وختلت وخترت إذا خدعت . قال الفراء : الخير في كلام العرب والخيل واحد . النحاس : في الحديث : " الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة " فكأنها سمّيت خيراً لهذا . وفي الحديث : " لما وفد زيد الخيل على النبي صلى الله عليه وسلم ، قال له : « أنت زيد الخير » " وهو زيد بن مهلهل الشاعر . وقيل : إنما سميت خيراً لما فيها من المنافع . وفي الخبر : إن الله تعالى عرض على آدم جميع الدواب ، وقيل له : اختر منها واحداً فاختار الفرس فقيل له : اخترت عزك فصار اسمه الخير من هذا الوجه . وسمّي خيلاً لأنها موسومة بالعز . وسمّي فرساً لأنه يفترس مسافات الجو افتراس الأسد وثبانا ، ويقطعها كالالتهام بيديه على كل شيء خبطاً وتناولا . وسمّي عربياً لأنه جيء به من بعد آدم لإسماعيل جزاء عن رفع قواعد البيت ، وإسماعيل عربي فصارت له نِحْلة من الله فسمي عربياً . و « حُبَّ » مفعول في قول الفراء . والمعني إني آثرت حبّ الخير . وغيره يقدره مصدراً أضيف إلى المفعول أي أحببت الخير حبًّا فألهاني عن ذكر ربي . وقيل : إن معنى « أَحْبَبْتُ » قعدت وتأخرت من قولهم : أحَبَّ البعيرُ إذا برك وتأخر . وأحب فلان أي طأطأ رأسه . قال أبو زيد : يقال : بعير مُحِبٌّ ، وقد أحبّ إحباباً وهو أن يصيبه مرض أو كسر فلا يبرح مكانه حتى يبرأ أو يموت . وقال ثعلب : يقال أيضاً للبعير الحسير مُحِبُّ فالمعنى قعدت عن ذكر ربي . و « حُبَّ » على هذا مفعول له . وذكر أبو الفتح الهمداني في كتاب التبيان : أحببت بمعنى لزمت من قوله : @ مِـثْـلَ بـعـيـرِ الـسَّـوْءِ إذْ أَحَـبَّـا @@ { حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِٱلْحِجَابِ } يعني الشمس كناية عن غير مذكور مثل قوله تعالى : { مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ } [ فاطر : 45 ] أي على ظهر الأرض وتقول العرب : هاجت باردة أي هاجت الريح باردة . وقال الله تعالى : { فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ ٱلْحُلْقُومَ } [ الواقعة : 83 ] أي بلغت النفس الحلقوم . وقال تعالى : { إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَٱلْقَصْرِ } [ المرسلات : 32 ] ولم يتقدم للنار ذكر . وقال الزجاج : إنما يجوز الإضمار إذا جرى ذكر الشيء أو دليل الذكر ، وقد جرى هاهنا الدليل وهو قوله : { بِٱلْعَشِيِّ } . والعشيّ ما بعد الزوال ، والتواري الاستتار عن الأبصار ، والحجاب جبل أخضر محيط بالخلائق قاله قتادة وكعب . وقيل : هو جبل قاف . وقيل : جبل دون قاف . والحجاب الليل سمّي حجاباً لأنه يستر ما فيه . وقيل : « حَتَّى تَوَارَتْ » أي الخيل في المسابقة . وذلك أن سليمان كان له ميدان مستدير يسابق فيه بين الخيل ، حتى توارت عنه وتغيب عن عينه في المسابقة لأن الشمس لم يجر لها ذكر . وذكر النحاس أن سليمان عليه السلام كان في صلاة ، فجيء إليه بخيل لتعرض عليه قد غُنِمت فأشار بيده ، لأنه كان يصلّي حتى توارت الخيل ، وسترتها جُدر الاصطبلات ، فلما فرغ من صلاته قال : « رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً » أي فأقبل يمسحها مسحاً . وفي معناه قولان : أحدهما أنه أقبل يمسح سوقها وأعناقها بيده إكراماً منه لها ، وليرى أن الجليل لا يقبح أن يفعل مثل هذا بخيله . وقال قائل هذا القول : كيف يقتلها ؟ وفي ذلك إفساد المال ومعاقبة من لا ذنب له . وقيل : المسح هاهنا هو القطع أُذِن له في قتلها . قال الحسن والكلبي ومقاتل : صلّى سليمان الصلاة الأولى وقعد على كرسيه وهي تعرض عليه ، وكانت ألف فرس فعرض عليه منها تسعمائة فتنبه لصلاة العصر ، فإذا الشمس قد غربت وفاتت الصلاة ، ولم يُعلَم بذلك هيبة له فاغتم فقال : « رُدُّوهَا عَليَّ » فردّت فعقرها بالسيف قربة لله وبقي منها مائة ، فما في أيدي الناس من الخيل العتاق اليوم فهي من نسل تلك الخيل . قال القشيري : وقيل : ما كان في ذلك الوقت صلاة الظهر ولا صلاة العصر ، بل كانت تلك الصلاة نافلة فشغل عنها . وكان سليمان عليه السلام رجلاً مهيباً ، فلم يذكِّره أحد ما نسي من الفرض أو النفل وظنوا التأخر مباحاً ، فتذكر سليمان تلك الصلاة الفائتة ، وقال على سبيل التلهف : « إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي » أي عن الصلاة ، وأمر برد الأفراس إليه ، وأمر بضرب عراقيبها وأعناقها ، ولم يكن ذلك معاقبة للأفراس إذ ذبح البهائم جائز إذا كانت مأكولة ، بل عاقب نفسه حتى لا تشغله الخيل بعد ذلك عن الصلاة . ولعله عرقبها ليذبحها فحبسها بالعرقبة عن النفار ، ثم ذبحها في الحال ليتصدق بلحمها أو لأن ذلك كان مباحاً في شرعه فأتلفها لما شغلته عن ذكر الله ، حتى يقطع عن نفسه ما يشغله عن الله ، فأثنى الله عليه بهذا ، وبين أنه أثابه بأن سخر له الريح ، فكان يقطع عليها من المسافة في يوم ما يقطع مثله على الخيل في شهرين غدوّاً ورواحاً . وقد قيل : إن الهاء في قوله : { رُدُّوهَا عَلَيَّ } للشمس لا للخيل . قال ابن عباس : سألت عليًّا عن هذه الآية فقال : ما بلغك فيها ؟ فقلت سمعت كعباً يقول : إن سليمان لما اشتغل بعرض الأفراس حتى توارت الشمس بالحجاب وفاتته الصلاة ، قال { إِنِّيۤ أَحْبَبْتُ حُبَّ ٱلْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي } أي آثرت { حُبَّ ٱلْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي } الآية { رُدُّوهَا عَلَيَّ } يعني الأفراس وكانت أربع عشرة فضرب سوقها وأعناقها بالسيف ، وأن الله سلبه ملكه أربعة عشر يوماً لأنه ظلم الخيل . فقال علي بن أبي طالب : كذب كعب لكن سليمان اشتغل بعرض الأفراس للجهاد حتى توارت أي غربت الشمس بالحجاب فقال بأمر الله للملائكة الموكّلين بالشمس : « رُدُّوهَا » يعني الشمس فردوها حتى صلّى العصر في وقتها ، وأن أنبياء الله لا يظلمون لأنهم معصومون . قلت : الأكثر في التفسير أن التي توارت بالحجاب هي الشمس ، وتركها لدلالة السامع عليها بما ذكر مما يرتبط بها ويتعلق بذكرها ، حسب ما تقدّم بيانه . وكثيراً ما يضمرون الشمس قال لبيد : @ حتّى إذا ألْقَتْ يداً في كافِرٍ وأَجَنَّ عَوْرَاتِ الثُّغورِ ظلاَمُها @@ والهاء في « رُدُّوهَا » للخيل ، ومسحها قال الزهري وابن كيسان : كان يمسح سوقها وأعناقها ، ويكشف الغبار عنها حُبًّا لها . وقاله الحسن وقتادة وابن عباس . وفي الحديث أن النبيّ صلى الله عليه وسلم رؤي وهو يمسح فرسه بردائه . وقال : " إني عوتبت الليلة في الخيل " خرّجه الموطأ عن يحيـى بن سعيد مرسلاً . وهو في غير الموطأ مسند متصل عن مالك عن يحيـى بن سعيد عن أنس . وقد مضى في « الأنفال » قوله عليه السلام : " وامسحوا بنواصيها وأكفالها " وروى ابن وهب عن مالك أنه مسح أعناقها وسوقها بالسيوف . قلت : وقد استدل الشبلي وغيره من الصوفية في تقطيع ثيابهم وتخريقها بفعل سليمان هذا . وهو استدلال فاسد لأنه لا يجوز أن ينسب إلى نبيّ معصوم أنه فعل الفساد . والمفسرون اختلفوا في معنى الآية فمنهم من قال : مسح على أعناقها وسوقها إكراماً لها وقال : أنت في سبيل الله فهذا إصلاح . ومنهم من قال : عرقبها ثم ذبحها ، وذبح الخيل وأكل لحمها جائز . وقد مضى في « النحل » بيانه . وعلى هذا فما فعل شيئاً عليه فيه جناح . فأما إفساد ثوب صحيح لا لغرض صحيح فإنه لا يجوز . ومن الجائز أن يكون في شريعة سليمان جواز ما فعل ، ولا يكون في شرعنا . وقد قيل : إنما فعل بالخيل ما فعل بإباحة الله جل وعز له ذلك . وقد قيل : إن مسحه إياها وسمُها بالكيّ وجعلها في سبيل الله فالله أعلم . وقد ضعف هذا القول من حيث أن السّوق ليست بمحل للوسم بحال . وقد يقال : الكيّ على الساق علاطٌ ، وعلى العنق وِثاق . والذي في الصحاح للجوهري : عَلط البعيرَ عَلْطاً كواه في عنقه بسمة العِلاَط . والعِلاَطان جانبا العنق . قلت : ومن قال إن الهاء في « رُدُّوهَا » ترجع للشمس فذلك من معجزاته . وقد اتفق مثل ذلك لنبينا صلى الله عليه وسلم . خرّج الطحاوي في مشكل الحديث عن أسماء بنت عُمَيْس من طريقين : " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوحى إليه ورأسه في حجر عليّ ، فلم يصلّ العصر حتى غربت الشمس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أصليت يا علي » قال : لا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اللهم إنه كان في طاعتك وطاعة رسولك فاردد عليه الشمس » قالت أسماء : فرأيتها غربت ثم رأيتها بعدما غربت طلعت على الجبال والأرض ، وذلك بالصَّهْباء في خيبر " قال الطحاوي : وهذان الحديثان ثابتان ، ورواتهما ثقات . قلت : وضعَّف أبو الفرج ابن الجوزي هذا الحديث فقال : وغلوّ الرافضة في حب عليّ عليه السلام حملهم على أن وضعوا أحاديث كثيرة في فضائله منها أن الشمس غابت ففاتت عليّاً عليه السلام العصر فردّت له الشمس ، وهذا من حيث النقل محال ، ومن حيث المعنى فإن الوقت قد فات وعودها طلوع متجدّد لا يردّ الوقت . ومن قال : إن الهاء ترجع إلى الخيل ، وأنها كانت تبعد عن عين سليمان في السباق ، ففيه دليل على المسابقة بالخيل وهو أمر مشروع . وقد مضى القول فيه في « يوسف » .