Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 38, Ayat: 34-40)
Tafsir: al-Ǧāmiʿ li-aḥkām al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ } قيل : فتن سليمان بعد ما ملك عشرين سنة ، وملك بعد الفتنة عشرين سنة ذكره الزمخشري . و « فَتَنَّا » أي ابتلينا وعاقبنا . وسبب ذلك ما رواه سعيد بن جُبير عن ابن عباس قال : اختصم إلى سليمان عليه السلام فريقان أحدهما من أهل جرادة امرأة سليمان وكان يحبها فهوي أن يقع القضاء لهم ، ثم قضى بينهما بالحق ، فأصابه الذي أصابه عقوبة لذلك الهوى . وقال سعيد بن المسيّب : إن سليمان عليه السلام احتجب عن الناس ثلاثة أيام لا يقضي بين أحد ، ولا ينصف مظلوماً من ظالم فأوحى الله تعالى إليه : إني لم أستخلفك لتحتجب عن عبادي ، ولكن لتقضي بينهم وتنصف مظلومهم . وقال شَهْر بن حَوْشَب ووهب بن منبّه : إن سليمان عليه السلام سبى بنت ملك غزاه في البحر ، في جزيرة من جزائر البحر يقال لها صيدون . فألقيت عليه محبتها وهي تعرض عنه ، لا تنظر إليه إلا شزرا ، ولا تكلمه إلا نزرا ، وكان لا يرقأ لها دمع حزنا على أبيها ، وكانت في غاية من الجمال ، ثم إنها سألته أن يصنع لها تمثالاً على صورة أبيها حتى تنظر إليه ، فأمر فصنع لها فعظمته وسجدت له ، وسجدت معها جواريها ، وصار صنماً معبوداً في داره وهو لا يعلم ، حتى مضت أربعون ليلة ، وفشا خبره في بني إسرائيل وعلم به سليمان فكسره ، وحرقه ثم ذرّاه في البحر . وقيل : إن سليمان لما أصاب ابنة ملك صيدون واسمها جرادة فيما ذكر الزمخشري أعجب بها ، فعرض عليها الإسلام فأبت ، فخوفها فقالت : اقتلني ولا أسلم ، فتزوّجها وهي مشركة ، فكانت تعبد صنماً لها من ياقوت أربعين يوماً في خفية من سليمان إلى أن أسلمت فعوقب سليمان بزوال ملكه أربعين يوماً . وقال كعب الأحبار : إنه لما ظلم الخيل بالقتل سلب ملكه . وقال الحسن : إنه قارب بعض نسائه في شيء من حيض أو غيره . وقيل : إنه أُمِرَ ألاّ يتزوّج امرأة إلا من بني إسرائيل ، فتزوّج امرأة من غيرهم ، فعوقب على ذلك والله أعلم . قوله تعالى : { وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَداً } قيل : شيطان في قول أكثر أهل التفسير ألقى الله شبه سليمان عليه السلام عليه ، واسمه صخر بن عمير صاحب البحر ، وهو الذي دل سليمان على الماس حين أمر سليمان ببناء بيت المقدس ، فصوتت الحجارة لما صنعت بالحديد ، فأخذوا الماس فجعلوا يقطعون به الحجارة والفصوص وغيرها ولا تصوت . قال ابن عباس : كان مارداً لا يقوى عليه جميع الشياطين ، ولم يزل يحتال حتى ظفر بخاتم سليمان بن داود ، وكان سليمان لا يدخل الكنيف بخاتمه ، فجاء صخر في صورة سليمان حتى أخذ الخاتم من امرأة من نساء سليمان أمّ ولد له يقال لها الأمينة قاله شهر ووهب . وقال ابن عباس وابن جبير : اسمها جرادة . فقام أربعين يوماً على ملك سليمان وسليمان هارب ، حتى ردّ الله عليه الخاتم والمُلْك . وقال سعيد بن المسيّب : كان سليمان قد وضع خاتمه تحت فراشه ، فأخذه الشيطان من تحته . وقال مجاهد : أخذه الشيطان من يد سليمان لأن سليمان سأل الشيطان وكان اسمه آصف : كيف تضلون الناس ؟ فقال له الشيطان : أعطني خاتمك حتى أخبرك . فأعطاه خاتمه ، فلما أخذ الشيطان الخاتم جلس على كرسيّ سليمان ، متشبهاً بصورته ، داخلاً على نسائه ، يقضي بغير الحق ، ويأمر بغير الصواب . واختلف في إصابته لنساء سليمان ، فحكي عن ابن عباس ووهب بن منبّه : أنه كان يأتيهنّ في حيضهنّ . وقال مجاهد : منع من إتيانهنّ . وزال عن سليمان ملكه فخرج هارباً إلى ساحل البحر يتضيّف الناس ويحمل سموك الصيادين بالأجر ، وإذا أخبر الناس أنه سليمان أكذبوه . قال قتادة : ثم إن سليمان بعد أن استنكر بنو إسرائيل حكم الشيطان أخذ حوتة من صياد . قيل : إنه استطعمها . وقال ابن عباس : أخذها أجرة في حمل حوت . وقيل : إن سليمان صادها فلما شق بطنها وجد خاتمه فيها ، وذلك بعد أربعين يوماً من زوال ملكه ، وهي عدد الأيام التي عُبِد فيها الصنم في داره ، وإنما وجد الخاتم في بطن الحوت لأن الشيطان الذي أخذه ألقاه في البحر . وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه : بينما سليمان على شاطىء البحر وهو يعبث بخاتمه ، إذ سقط منه في البحر وكان ملكه في خاتمه . وقال جابر بن عبد الله : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " كان نقش خاتم سليمان بن داود لا إلٰه إلا الله محمد رسول الله " وحكى يحيـى بن أبي عمرو الشيباني أن سليمان وجد خاتمه بعسقلان ، فمشى منها إلى بيت المقدس تواضعاً لله تعالى . قال ابن عباس وغيره : ثم إن سليمان لما ردّ الله عليه ملكه ، أخذ صخراً الذي أخذ خاتمه ، ونقر له صخرة وأدخله فيها ، وسدّ عليه بأخرى وأوثقها بالحديد والرصاص ، وختم عليها بخاتمه وألقاها في البحر وقال : هذا محبسك إلى يوم القيامة . وقال علي رضي الله عنه : لما أخذ سليمان الخاتم ، أقبلت إليه الشياطين والجن والإنس والطير والوحش والريح ، وهرب الشيطان الذي خلف في أهله ، فأتى جزيرة في البحر ، فبعث إليه الشياطين فقالوا : لا نقدر عليه ، ولكنه يَرِد عينا في الجزيرة في كل سبعة أيام يوماً ، ولا نقدر عليه حتى يسكر ! قال : فنزح سليمان ماءها وجعل فيها خمراً ، فجاء يوم وروده فإذا هو بالخمر ، فقال : والله إنك لشراب طيب إلا أنك تطيشين الحليم ، وتزيدين الجاهل جهلا . ثم عطش عطشاً شديداً ثم أتاه فقال مثل مقالته ، ثم شربها فغلبت على عقله فأرَوه الخاتم فقال : سمعاً وطاعة . فأتوا به سليمان فأوثقه وبعث به إلى جبل ، فذكروا أنه جبل الدخان فقالوا : إن الدخان الذي ترون من نفسه ، والماء الذي يخرج من الجبل من بوله . وقال مجاهد : اسم ذلك الشيطان آصف . وقال السدي اسمه حبقيق فالله أعلم . وقد ضعف هذا القول من حيث إن الشيطان لا يتصوّر بصورة الأنبياء ، ثم من المحال أن يلتبس على أهل مملكة سليمان الشيطان بسليمان حتى يظنوا أنهم مع نبيهم في حقّ ، وهم مع الشيطان في باطل . وقيل : إن الجسد وَلدٌ وُلِدَ لسليمان ، وأنه لما ولد اجتمعت الشياطين وقال بعضهم لبعض : إن عاش له ابن لم ننفك مما نحن فيه من البلاء والسخرة ، فتعالوا نقتل ولده أو نخبله . فعلم سليمان بذلك فأمر الريح حتى حملته إلى السحاب ، وغدا ابنه في السحاب خوفاً من مضرة الشياطين ، فعاقبه الله بخوفه من الشياطين ، فلم يشعر إلا وقد وقع على كرسيه ميتاً . قال معناه الشعبي . فهو الجسد الذي قال الله تعالى : { وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَداً } . وحكى النقاش وغيره : إن أكثر ما وطىء سليمان جواريه طلباً للولد ، فولد له نصف إنسان ، فهو كان الجسد الملقى على كرسيه جاءت به القابلة فألقته هناك . وفي صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قال سليمان لأطوفنّ الليلة على تسعين امرأة كلهن تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله فقال له صاحبه قل إن شاء الله ، فلم يقل إن شاء الله فطاف عليهنّ جميعاً فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل ، وايمُ الذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون " وقيل : إن الجسد هو آصف بن برخيا الصدّيق كاتب سليمان ، وذلك أن سليمان لما فُتِن سقط الخاتم من يده وكان فيه ملكه ، فأعاده إلى يده فسقط فأيقن بالفتنة فقال له آصف : إنك مفتون ولذلك لا يتماسك في يدك ، ففِرّ إلى الله تعالى تائباً من ذلك ، وأنا أقوم مقامك في عالمك إلى أن يتوب الله عليك ، ولك من حين فتنت أربعة عشر يوماً . ففرّ سليمان هارباً إلى ربه ، وأخذ آصف الخاتم فوضعه في يده فثبت ، وكان عنده علم من الكتاب . وقام آصف في ملك سليمان وعياله ، يسير بسيره ويعمل بعمله ، إلى أن رجع سليمان إلى منزله تائباً إلى الله تعالى ، وردّ الله عليه ملكه فأقام آصف في مجلسه ، وجلس على كرسيه وأخذ الخاتم . وقيل : إن الجسد كان سليمان نفسه وذلك أنه مرض مرضاً شديداً حتى صار جسداً . وقد يوصف به المريض المضنى فيقال : كالجسد الملقى . صفة كرسيّ سليمان وملكه روي عن ابن عباس قال : كان سليمان يوضع له ستمائة كرسيّ ، ثم يجيء أشراف الناس فيجلسون مما يليه ، ثم يأتي أشراف الجن فيجلسون مما يلي الإنس ، ثم يدعو الطير فتظلّهم ، ثم يدعو الريح فتقلّهم ، وتسير بالغداة الواحدة مسيرة شهر . وقال وهب وكعب وغيرهما : إن سليمان عليه السلام لما مَلَك بعد أبيه ، أمر باتخاذ كرسي ليجلس عليه للقضاء ، وأمر أن يعمل بديعاً مهولاً بحيث إذا رآه مبطل أو شاهد زور ارتدع وتهيب فأمر أن يعمل من أنياب الفيلة مُفصَّصة بالدر والياقوت والزبرجد ، وأن يحفَّ بنخيل الذهب فحف بأربع نخلات من ذهب ، شماريخها الياقوت الأحمر والزمرد الأخضر ، على رأس نخلتين منهما طاووسان من ذهب ، وعلى رأس نخلتين نسران من ذهب بعضها مقابل لبعض ، وجعلوا من جنبي الكرسيّ أسدين من ذهب ، على رأس كل واحد منهما عمود من الزمرد الأخضر . وقد عقدوا على النخلات أشجار كروم من الذهب الأحمر واتخذوا عناقيدها من الياقوت الأحمر ، بحيث أظل عريش الكروم النخل والكرسي . وكان سليمان عليه السلام إذا أراد صعوده وضع قدميه على الدرجة السفلى ، فيستدير الكرسيّ كلّه بما فيه دوران الرحى المسرعة ، وتنشر تلك النُّسور والطواويس أجنحتها ، ويبسط الأسدان أيديهما ، ويضربان الأرض بأذنابهما . وكذلك يفعل في كل درجة يصعدها سليمان ، فإذا استوى بأعلاه أخذ النسران اللذان على النخلتين تاج سليمان فوضعاه على رأسه ، ثم يستدير الكرسي بما فيه ، ويدور معه النسران والطاووسان والأسدان مائلان برؤوسهما إلى سليمان ، وينضحن عليه من أجوافهن المسك والعنبر ، ثم تناوله حمامة من ذهب قائمة على عمود من أعمدة الجواهر فوق الكرسي التوراة ، فيفتحها سليمان عليه السلام ويقرؤها على الناس ويدعوهم إلى فصل القضاء . قالوا : ويجلس عظماء بني إسرائيل على كراسي الذهب المفصصة بالجواهر ، وهي ألف كرسيّ عن يمينه ، ويجلس عظماء الجن على كراسي الفضة عن يساره وهي ألف كرسيّ ، ثم تحف بهم الطير تظلهم ، ويتقدّم الناس لفصل القضاء . فإذا تقدّمت الشهود للشهادات ، دار الكرسيّ بما فيه وعليه دوران الرحى المسرعة ، ويبسط الأسدان أيديهما ويضربان الأرض بأذنابهما ، وينشر النسران والطاووسان أجنحتهما ، فتفزع الشهود فلا يشهدون إلا بالحق . وقيل : إن الذي كان يدور بذلك الكرسيّ تِنِّين من ذهبٍ ذلك الكرسي عليه ، وهو عظيم مما عمله له صخر الجنيّ فإذا أحست بدورانه تلك النسور والأسد والطواويس التي في أسفل الكرسيّ إلى أعلاه دُرْن معه ، فإذا وقفن وقفْن كلهنّ على رأس سليمان وهو جالس ، ثم ينضحن جميعاً على رأسه ما في أجوافهنّ من المسك والعنبر . فلما توفي سليمان بعث بُخْتَنصَّر فأخذ الكرسيّ فحمله إلى أنطاكية ، فأراد أن يصعد إليه ولم يكن له علم كيف يصعد إليه فلما وضع رجله ضرب الأسد رجله فكسرها ، وكان سليمان إذا صعد وضع قدميه جميعاً . ومات بُخْتَنصَّر وحُمل الكرسيّ إلى بيت المقدس ، فلم يستطع قط ملك أن يجلس عليه ، ولكن لم يدر أحد عاقبة أمره ، ولعله رُفع . قوله تعالى : { ثُمَّ أَنَابَ } أي رجع إلى الله وتاب . وقد تقدّم . قوله تعالى : { قَالَ رَبِّ ٱغْفِرْ لِي } أي اغفر لي ذنبي { وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِيۤ } يقال : كيف أقدم سليمان على طلب الدنيا ، مع ذمها من الله تعالى ، وبغضه لها ، وحقارتها لديه ؟ . فالجواب أن ذلك محمول عند العلماء على أداء حقوق الله تعالى وسياسة ملكه ، وترتيب منازل خلقه ، وإقامة حدوده ، والمحافظة على رسومه ، وتعظيم شعائره ، وظهور عبادته ، ولزوم طاعته ، ونظم قانون الحكم النافذ عليهم منه ، وتحقيق الوعود في أنه يعلم ما لا يعلم أحد من خلقه حسب ما صرّح بذلك لملائكته فقال : { إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 30 ] وحوشي سليمان عليه السلام أن يكون سؤاله طلباً لنفس الدنيا لأنه هو والأنبياء أزهد خلق الله فيها ، وإنما سأل مملكتها لله ، كما سأل نوح دمارها وهلاكها لله فكانا محمودين مجابين إلى ذلك ، فأجيب نوح فأهلك من عليها ، وأعطي سليمان المملكة . وقد قيل : إن ذلك كان بأمر من الله جل وعز على الصفة التي علم الله أنه لا يضبطه إلا هو وحده دون سائر عباده ، أو أراد أن يقول ملكاً عظيماً فقال : { لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِيۤ } وهذا فيه نظر . والأوّل أصح . ثم قال له : { هَـٰذَا عَطَآؤُنَا فَٱمْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } قال الحسن : ما من أحد إلا ولله عليه تبعة في نعمه غير سليمان بن داود عليه السلام فإنه قال : { هَـٰذَا عَطَآؤُنَا } الآية . قلت : وهذا يردّ ما روي في الخبر : إن آخر الأنبياء دخول الجنة سليمان بن داود عليه السلام لمكان ملكه في الدنيا . وفي بعض الأخبار : يدخل الجنة بعد الأنبياء بأربعين خريفاً ذكره صاحب القوت وهو حديث لا أصل له لأنه سبحانه إذا كان عطاؤه لا تبعة فيه لأنه من طريق المنّة ، فكيف يكون آخر الأنبياء دخولاً الجنة ، وهو سبحانه يقول : { وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىٰ وَحُسْنَ مَآبٍ } . وفي الصحيح : " لكل نبيّ دعوة مستجابة فتعجل كل نبيّ دعوته " الحديث . وقد تقدّم فجعل له من قبل السؤال حاجة مقضية ، فلذلك لم تكن عليه تبعة . ومعنى قوله : { لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِيۤ } أي أن يسأله . فكأنه سأل منع السؤال بعده ، حتى لا يتعلق به أمل أحد ، ولم يسأل منع الإجابة . وقيل : إن سؤاله مُلكاً لا ينبغي لأحد من بعده ليكون محلّه وكرامته من الله ظاهراً في خلق السموات والأرض فإن الأنبياء عليهم السلام لهم تنافس في المحلّ عنده ، فكل يحب أن تكون له خصوصية يستدل بها على محلّه عنده ، ولهذا : لما أخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم العفريت الذي أراد أن يقطع عليه صلاته وأمكنه الله منه ، أراد ربطه ثم تذكر قول أخيه سليمان : « ربِّ اغْفِرْ لِي وَهْب لي مُلْكاً لاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بعْدِي » فردّه خاسِئاً . فلو أعطى أحد بعده مثله ذهبت الخصوصية ، فكأنه كره صلى الله عليه وسلم أن يزاحمه في تلك الخصوصية ، بعد أن علم أنه شيء هو الذي خُصَّ به من سخرة الشياطين ، وأنه أجيب إلى ألا يكون لأحد بعده . والله أعلم . قوله تعالى : { فَسَخَّرْنَا لَهُ ٱلرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً } أي لَيِّنة مع قوّتها وشدّتها حتى لا تضرّ بأحد ، وتحمله بعسكره وجنوده وموكبه . وكان موكبه فيما روي فرسخاً في فرسخ ، مائة درجة بعضها فوق بعض ، كل درجة صنف من الناس ، وهو في أعلى درجة مع جواريه وحشمه وخدمه صلوات الله وسلامه عليه . وذكر أبو نعيم الحافظ قال : حدّثنا أحمد بن جعفر ، قال حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال : حدّثنا أحمد بن محمد بن أيوب ، قال حدّثنا أبو بكر بن عياش عن إدريس بن وهب بن منبّه ، قال حدّثني أبي قال : كان لسليمان بن داود عليه السلام ألف بيت أعلاه قوارير وأسفله حديد ، فركب الريح يوماً فمرّ بحرّاث فنظر إليه الحرّاث فقال : لقد أوتي آل داود ملكاً عظيما فحملت الريح كلامه فألقته في أذن سليمان ، قال فنزل حتى أتى الحرّاث فقال : إني سمعت قولك ، وإنما مشيت إليك لئلا تتمنى ما لا تقدر عليه لتسبيحةٌ واحدة يقبلها الله منك لخيرٌ مما أوتي آل داود . فقال الحرّاث : أذهب الله هَمَّك كما أذهبتَ هَمِّي . قوله تعالى : { حَيْثُ أَصَابَ } أي أراد قاله مجاهد . والعرب تقول : أصاب الصواب وأخطأ الجواب . أي أراد الصواب وأخطأ الجواب قاله ابن الأعرابي . وقال الشاعر : @ أَصَابَ الكلامَ فلم يَستطِعْ فأَخْطأ الجوابَ لَدى المفصَلِ @@ وقيل : أصاب أراد بلغة حِمْير . وقال قتادة : هو بلسان هَجَر . وقيل : « حيْثُ أَصَابَ » حيثما قصد ، وهو مأخوذ من إصابة السهم الغرض المقصود . { وَٱلشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ } أي وسخرنا له الشياطين وما سُخرت لأحد قبله . « كُلَّ بنَّاءٍ » بدل من الشياطين أي كل بناء منهم ، فهم يبنون له ما يشاء . قال : @ إلاَّ سُلَيْمَانَ إذ قال الإلٰهُ لَهُ قُمْ في البرِيَّةِ فاحْدُدْهَا عنِ الفَنَدِ وَخَيِّسِ الجِنَّ إِني قَد أَذِنْتُ لَهُمْ يَبْنُونَ تَدْمُرَ بالصُّفَّاحِ والعُمُدِ @@ « وَغَوَّاصٍ » يعني في البحر يستخرجون له الدرّ . فسليمان أوّل من استخرج له اللؤلؤ من البحر . { وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي ٱلأَصْفَادِ } أي وسخرنا له مردة الشياطين حتى قرنهم في سلاسل الحديد وقيود الحديد قاله قتادة . السدّي : الأغلال . ابن عباس : في وثاق . ومنه قول الشاعر : @ فآبوا بالنِّهاب وبالسَّبايا وأُبنا بالملوك مصفدينا @@ قال يحيـى بن سلام : ولم يكن يفعل ذلك إلا بكفارهم ، فإذا آمنوا أطلقهم ولم يسخّرهم . قوله تعالى : { هَـٰذَا عَطَآؤُنَا } الإشارة بهذا إلى الملك ، أي هذا الملك عطاؤنا ، فأعطِ من شئت أو امنع من شئت لا حساب عليك عن الحسن والضحاك وغيرهما . قال الحسن : ما أنعم الله على أحد نعمة إلا عليه فيها تبعة إلا سليمان عليه السلام فإن الله تعالى يقول : { هَـٰذَا عَطَآؤُنَا فَٱمْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } . وقال قتادة : الإشارة في قوله تعالى : { هَـٰذَا عَطَآؤُنَا } إلى ما أعطيه من القوّة على الجماع ، وكانت له ثلاثمائة امرأة وسبعمائة سرية ، وكان في ظهره ماء مائة رجل رواه عكرمة عن ابن عباس . ومعناه في البخاري . وعلى هذا « فَامْنُنْ » من المنيِّ يقال : أَمْنى يُمنِي ومنَى يمنِي لغتان ، فإذا أمرت من أمنى قلت أَمْنِ ويقال : من منَى يَمْنِي في الأمر ٱمنِ ، فإذا جئت بنون الفعل نون الخفيفة قلت امنن . ومن ذهب به إلى المِنّة قال : مَنَّ عليه فإذا أخرجه مخرج الأمر أبرز النونين لأنه كان مضاعفاً فقال امنُنْ . فيروى في الخبر أنه سخر له الشياطين ، فمن شاء منّ عليه بالعتق والتخلية ، ومن شاء أمسكه قاله قتادة والسّدي . وعلى ما روى عكرمة عن ابن عباس : أي جامع من شئت من نسائك ، واترك جماع من شئت منهن لا حساب عليك . { وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىٰ وَحُسْنَ مَآبٍ } أي إن أنعمنا عليه في الدنيا فله عندنا في الآخرة قربة وحسن مرجع .