Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 1-1)
Tafsir: al-Ǧāmiʿ li-aḥkām al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
فيه ست مسائل : الأولى : قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ } قد مضى في « البقرة » اشتقاق { الناس } ومعنى التقوى والرب والخلق والزوج والبث ، فلا معنى للإعادة . وفي الآية تنبيه على الصانع . وقال { وَاحِدَةٍ } على تأنيث لفظ النفس . ولفظ النفس يؤنث وإن عني به مذكر . ويجوز في الكلام { من نفس واحد } وهذا على مراعاة المعنى إذ المراد بالنفس آدم عليه السلام قاله مجاهد وقتادة . وهي قراءة ابن أبي عبلة « واحد » بغير هاء . { وبثَّ } معناه فرّق ونشر في الأرض ومنه { وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ } [ الغاشية : 16 ] وقد تقدّم في « البقرة » و { مِنْهُمَا } يعني آدام وحوّاء . قال مجاهد : خلقت حوّاء من قُصَيْرَي آدم . وفي الحديث : " خلقت المرأة من ضِلع عَوْجاء " ، وقد مضى في البقرة . { رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً } حَصَر ذريتهما في نوعين فاقتضى أن الخُنْثى ليس بنوع ، لكن له حقيقة تردّه إلى هذين النوعين وهي الآدمية فيلحق بأحدهما ، على ما تقدم ذكره في « البقرة » من اعتبار نقص الأعضاء وزيادتها . الثانية قوله تعالى : { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَٱلأَرْحَامَ } كرّر الاتقاء تأكيداً وتنبيهاً لنفوس المأمورين . و « الذي » في موضع نصب على النعت . « وَالأَرحَامَ » معطوف . أي اتقوا الله أن تعصوه . واتقوا الأرحام أن تقطعوها . وقرأ أهل المدينة « تَسَّاءلُونَ » بإدغام التاء في السين . وأهل الكوفة بحذف التاء ، لاجتماع تائين ، وتخفيف السين لأن المعنى يعرف وهو كقوله : { وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ } [ المائدة : 2 ] و « تَنَزَّلُ » وشبهه . وقرأ إبراهيم النخعي وقتادة والأعْمَش وحَمْزة { وَٱلأَرْحَامِ } بالخفض . وقد تكلم النحويون في ذلك . فأما البصريون فقال رؤساؤهم : هو لَحْن لا تحِلّ القراءة به . وأما الكوفيون فقالوا : هو قبيح ولم يزيدوا على هذا ولم يذكروا عِلّة قبحه قال النحاس : فيما علمتُ . وقال سيبويه : لم يعطف على المضمر المخفوض لأنه بمنزلة التنوين ، والتنوين لا يعطف عليه . وقال جماعة : هو معطوف على المكنِيّ فإنهم كانوا يتساءلون بها ، يقول الرجل : سألتك بالله والرحِم هكذا فسره الحسن والنخعِيّ ومجاهد ، وهو الصحيح في المسألة ، على ما يأتي . وضعّفه أقوام منهم الزجاج ، وقالوا : يقبح عطف الاسم الظاهر على المضمر في الخفض إلا بإظهار الخافض كقوله { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ ٱلأَرْضَ } [ القصص : 81 ] ويقبح « مررت به وزيدٍ » قال الزجاج عن المازني : لأن المعطوف والمعطوف عليه شريكان ، يحل كل واحد منهما محل صاحبه فكما لا يجوز « مررت بزيد وبك » كذلك لا يجوز « مررت بك وزيد » . وأما سيبويه فهي عنده قبيحة ولا تجوز إلاّ في الشعر كما قال : @ فاليوم قرّبتَ تَهجُونا وتشتِمُنا فاذهبْ فما بكَ والأيامِ من عَجَب @@ عطف « الأيام » على الكاف في « بك » بغير الباء للضرورة . وكذلك قول الآخر : @ نعلِّق في مِثل السَّوَارِي سيوفنا وما بينها والكَعْبِ مَهْوى نَفَانِفُ @@ عطف « الكعب » على الضمير في « بينها » ضرورة . وقال أبو عليّ : ذلك ضعيف في القياس . وفي كتاب التذكرة المهدية عن الفارسي أن أبا العباس المبرّد قال : لو صليتُ خلف إمام يقرأ { مَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيِّ } و « اتَّقُوا الله الذَّي تَسَاءَلُوَن بِه وَالأْرحَامِ » لأخذت نعلي ومضيت . قال الزجاج : قراءة حَمْزَةَ مع ضعفها وقبحها في العربية خطأ عظيم في أصول أمر الدين لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تحلفوا بآبائكم " فإذا لم يجز الحلف بغير الله فكيف يجوز بالرّحِم . ورأيت إسماعيل بن إسحاق يذهب إلى أن الحلِف بغير الله أمر عظيم ، وأنه خاص لله تعالى . قال النحاس : وقول بعضهم { وَٱلأَرْحَامَ } قَسَمٌ خطأ من المعنى والإعراب لأن الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يدل على النصب . وروى شعبة عن عون بن أبي جحيفة عن المنذر بن جرير عن أبيه قال : " كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم حتى جاء قوم من مضر حُفاةً عراةً ، فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتغير لِما رأى من فاقتهم ، ثم صلى الظهر وخطب الناس فقال : { يَأَيُّها النَّاسُ ٱتقُوا رَبَّكُمُ } ، إلى { وَالأَرْحَامَ } ثم قال : « تصدّق رجل بديناره تصدّق رجل بدرهمه تصدّق رجل بصاع تمره » " وذكر الحديث . فمعنى هذا على النصب لأنه حضّهم على صلة أرحامهم وأيضاً فقد صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم : " من كان حالِفا فليحلف بالله أو ليصمت " فهذا يرّد قول من قال : المعنى أسألك بالله وبالرّحم . وقد قال أبو إسحاق : معنى { تَسَاءَلُونَ بِهِ } يعني تطلبون حقوقكم به . ولا معنى للخفض أيضاً مع هذا . قلت : هذا ما وقفت عليه من القول لعلماء اللسان في منع قراءة « وَالأَرْحَامِ » بالخفض ، واختاره ابن عطية . وردّه الإمام أبو النصر عبد الرحيم بن عبد الكريم القشيريّ ، واختار العطف فقال : ومثل هذا الكلامِ مردود عند أئمة الدين لأن القراءات التي قرأ بها أئمة القرّاء ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم تواتراً يعرفه أهل الصنعة ، وإذا ثبت شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم فمن ردّ ذلك فقد ردّ على النبي صلى الله عليه وسلم ، واستقبح ما قرأ به وهذا مقام محذور ، ولا يقلَّد فيه أئمة اللغة والنحو فإن العربية تُتلقّى من النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يشك أحد في فصاحته . وأما ما ذكر من الحديث ففيه نظر لأنه عليه السلام قال لأبي العُشَرَاء . " وأبِيك لو طعنت في خاصرته " ثم النهي إنما جاء في الحلفِ بغير الله ، وهذا توسل إلى الغير بحق الرّحم فلا نهي فيه . قال القشيري : وقد قيل هذا إقسام بالرّحم ، أي اتقوا الله وحق الرحم ، كما تقول : افعل كذا وحقِّ أبيك . وقد جاء في التنزيل : « والنَّجْمِ ، والطّورِ ، والتِّينِ ، لَعْمرُك » وهذا تكلفٌ . قلت : لا تكلف فيه فإنه لا يبعد أنه يكون « وَالأَرْحَامِ » من هذا القبيل ، فيكون أقسم بها كما أقسم بمخلوقاته الدالة على وحدانيته وقدرته تأكيداً لها حتى قرنها بنفسه . والله أعلم . ولِلّهِ أن يُقسِم بما شاء ويبيح ما شاء ، فلا يبعد أن يكون قسماً . والعرب تُقسم بالرحم . ويصح أن تكون الباء مرادةً فحذفها كما حذفها في قوله : @ مَشائيمُ ليسوا مُصلِحِينَ عَشِيرةً ولا ناعِبٍ إلاّ بِبَيْنٍ غُرابُها @@ فجر وإن لم يتقدّم باء . قال آبن الدَّهان أبو محمد سعيد بن مبارك : والكوفي يُجيز عطف الظاهر على المجرور ولا يمنع منه . ومنه قوله : @ آبَكَ أيِّهْ بِيَ أو مُصَدَّرِ من حُمُر الجِلّةِ جَأْبٍ حَشْوَرِ @@ ومنه : @ فاذْهَبْ فما بِكَ والأيَّامِ مِنْ عَجَبِ @@ وقـول الآخـر : @ وما بَيْنها والكَعْبِ غَوْطٌ نَفَانِفُ @@ ومنه : @ فحسبُك والضَّحّاكِ سَيْفٌ مُهَنَّدُ @@ وقول الآخر : @ وقد رَامَ آفاقَ السّماءِ فلم يَجِدْ له مَصعَداً فيها ولا الأرْضِ مَقْعَدَا @@ وقول الآخر : @ ما إنْ بها والأُمورِ مِنْ تَلَفٍ ما حُمّ مِنْ أمرِ غَيْبِهِ وَقَعَا @@ وقول الآخر : @ أمُرُّ على الكَتِيبَة لَسْتُ أدرِي أحَتْفِيَ كان فيها أمْ سِواها @@ فـ « سواها » مجرور الموضع بفِي . وعلى هذا حمل بعضهم قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ } [ الحجر : 20 ] فعطف على الكاف والميم . وقرأ عبدالله بن يزيد « وَالأَرْحَامُ » بالرفع على الآبتداء ، والخبر مقدر ، تقديره : والأرحام أهل أن توصل . ويحتمل أن يكون إغراء لأن من العرب من يرفع المغرى . وأنشد الفراء : @ إن قوما منهم عُمَيْرٌ وأشْبَا هُ عُمَيْرٍ ومنهم السفّاحُ لَجَديرون باللِّقاء إذا قا ل أخو النّجْدَةِ السلاحُ السلاحُ @@ وقد قيل : إنّ { وَالأَرحَامَ } بالنصب عطف على موضع به لأن موضعه نصب ، ومنه قوله : @ فلسنا بالجبال ولا الحديدا @@ وكانوا يقولون : أنشُدُك بالله والرّحِمَ . والأظهر أنه نصب بإضمار فعلٍ كما ذكرنا . الثالثة اتفقت المِلة على أن صلة الرحم واجبة وأن قطيعتها محرّمة . وقد صح " أن النبي صلى الله عليه وسلم : قال لأَسْمَاءَ وقد سألته أأصِلُ أمِّي « نعم صِلي أمك » " فأمرها بصلتها وهي كافرة . فلتأكيدها دخل الفضل في صلة الكافر ، حتى انتهى الحال بأبي حنيفة وأصحابه فقالوا بتوارث ذوِي الأرحام إن لم يكن عصبةٌ ولا فرضٌ مُسَمَّى ، ويُعتَقُون على مَن ٱشتراهم من ذوِي رَحِمهم لحُرمة الرّحم وعَضَدُوا ذلك بما رواه أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من ملك ذا رحم محرم فهو حرّ " وهو قول أكثر أهل العلم . روي ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعبدالله بن مسعود ، ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة . وهو قول الحسن البصري وجابر بن زيد وعطاء والشعبي والزهِريّ ، وإليه ذهب الثوري وأحمد وإسحاق . ولعلمائنا في ذلك ثلاثة أقوال : الأول أنه مخصوص بالآباء والأجداد . الثاني الجناحان يعني الأخوة . الثالث كقول أبي حنيفة . وقال الشافعيّ : لا يَعتِق عليه إلا أولاده وآباؤه وأمهاته ، ولا يعتِق عليه إخوتُه ولا أحدٌ من ذوي قرابته ولُحمته . والصحيح الأول للحديث الذي ذكرناه وأخرجه الترمِذيّ والنسائي . وأحسن طرقِه رواية النسائِي له رواه من حديث ضَمرة عن سفيان عن عبدالله بن دينار عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من ملك ذا رحمٍ محرمٍ فقد عتق عليه " وهو حديث ثابت بنقل العدل عن العدل ولم يقدح فيه أحد من الأئمة بِعلّةٍ توجِب تركه غير أن النسائي قال في آخره : هذا حديث مُنكَر . وقال غيره : تفرّد به ضمرة . وهذا هو معنى المنكر والشاذّ في اصطلاح المحدّثين . وضمرة عدل ثِقة ، وانفِراد الثقةِ بالحديث لا يضره . والله أعلم . الرابعة واختلفوا من هذا الباب في ذوي المحارِمِ من الرضاعة . فقال أكثر أهلِ العلم لا يدخلون في مقتضى الحديث . وقال شريك القاضي بعتقهم . وذهب أهلُ الظاهر وبعض المتكلمين إلى أن الأب لا يعتق على الابن إذا ملكه واحتجوا بقوله عليه السلام : " لا يَجْزِي ولدٌ والداً إلا أن يَجِده مملوكاً فيشتريه فيعتِقَه " قالوا : فإذا صحّ الشراء فقد ثبت الملك ، ولصاحب الملك التصرف . وهذا جهل منهم بمقاصد الشرع فإن الله تعالى يقول : { وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } [ الإسراء : 23 ] فقد قرن بين عبادته وبين الإحسان للوالدين في الوجوب ، وليس من الإحسان أن يبقى والده في ملكه وتحت سلطانه فإذاً يجب عليه عِتقُه إما لأجْل الملك عملا بالحديث " فيشترِيَه فيعتقَه " ، أو لأجْل الإحسان عملا بالآية . ومعنى الحديث عند الجمهور أنّ الولد لما تسبب إلى عِتق أبيه باشترائه نسبَ الشرعُ العتقَ إليه نسبةَ الإيقاعِ منه . وأما اختلاف العلماء فيمن يعتِق بالمِلك ، فوجه القول الأوّل ما ذكرناه من معنى الكتاب والسُّنة ، ووجه الثاني إلحاق القرابة القريبة المحرّمة بالأب المذكور في الحديث ، ولا أقربَ للرجل من ابنه فيحمل على الأب ، والأخُ يقاربه في ذلك لأنه يُدْلي بالأبوّة فإنه يقول : أنا ٱبن أبيه . وأمّا القول الثالث فمتعلَّقُه حديث ضمرة وقد ذكرناه . والله أعلم . الخامسة قوله تعالى : { وَٱلأَرْحَامَ } الرحِم اسم لكافّة الأقارب من غير فرق بين المَحْرم وغيره . وأبو حنيفة يعتبر الرحِم المحرَّم في منع الرجوع في الهبة ، ويجوز الرجوع في حق بني الأعمام مع أن القطيعة موجودة والقرابة حاصلة ولذلك تعلق بها الإرث والولاية وغيرهما من الأحكام . فاعتبار المحْرّم زيادة على نص الكتاب من غير مُستَند . وهم يرون ذلك نسْخا ، سيما وفيه إشارة إلى التعليل بالقطيعة ، وقد جوّزوها في حق بني الأعمام وبني الأخوال والخالات . والله أعلم . السادسة : قوله تعالى { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } أي حفيظاً عن ابن عباس ومجاهد . ابن زيد : عليماً . وقيل : { رقيباً } حافظاً قيل : بمعنى فاعل . فالرّقيب من صفات الله تعالى ، والرّقيب الحافظ والمنتظِر تقول : رَقَبْت أرْقُب رِقْبَة ورِقْبَاناً إذا انتظرت . والْمَرْقَب : المكان العالي المشرِف ، يقف عليه الرقيب . والرّقيب : السهم الثالث من السبعة التي لها أنصباء . ويقال : إن الرقيب ضرب من الحَيَّات ، فهو لفظٌ مُشتركٌ . والله أعلم .