Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 3-3)
Tafsir: al-Ǧāmiʿ li-aḥkām al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
فيها أربع عشرة مسألة : الأُولى قوله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ } شرط ، وجوابه « فَانْكِحُوا » . أي إن خفتم ألا تعدلوا في مهورهن وفي النفقة عليهن ، { فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ } أي غيرهن . وروى الأئمة واللفظ لمسلم عن عروة بن الزبير عن عائشة في قول الله تعالى { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي ٱلْيَتَامَىٰ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثْنَىٰ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } قالت : يا ابن أُختي هي اليتيمة تكون في حِجر وَلِيِّها تشاركه في ماله فيُعجِبُه مالُها وجمالُها فيريد ولِيُّها أن يتزوّجها من غير أن يُقسِط في صداقها فيُعطِيَها مثل ما يعطِيها غيره ، فنُهوا أن ينكِحوهنّ إلاّ أن يُقسطوا لهن ويبلغُوا بهنّ أعلى سُنّتهن من الصّدَاق وأُمِروا أن يَنكِحوا ما طاب لهم من النساء سِواهنّ . وذكر الحديث . وقال ابن خُويْزِ مَنْدَادَ : ولهذا قلنا إنه يجوز أن يشتري الوصيّ من مال اليتيم لنفسه ، ويبيع من نفسه من غير مُحَابَاة . وللموكل النظرُ فيما اشترى وكيلُه لنفسه أو باع منها . وللسلطان النظرُ فيما يفعله الوصيّ من ذلك . فأما الأب فليس لأحد عليه نظر ما لم تظهر عليه المحاباة فيعترض عليه السلطان حينئذ وقد مضى في « البقرة » القول في هذا . وقال الضحاك والحسن وغيرهما : إن الآية ناسخة لما كان في الجاهلية وفي أوّل الإسلام من أن للرجل أن يتزوّج من الحرائر ما شاء ، فقصرتهنّ الآية على أربع . وقال ابن عباس وابن جبير وغيرهما : المعنى وإن خفتم ألا تُقسطوا في اليتامى فكذلك خافوا في النساء لأنهم كانوا يتحرّجون في اليتامى ولا يتحرّجون في النساء و « خِفْتُمْ » من الأضداد فإنه يكون المخوف منه معلوم الوقوع ، وقد يكون مظنوناً فلذلك اختلف العلماء في تفسير هذا الخوف . فقال أبو عبيدة : « خِفْتُمْ » بمعنى أيقنتم . وقال آخرون : « خِفتم » ظننتم . قال ابن عطية : وهذا الذي ٱختاره الحُذّاق ، وأنه على بابه من الظن لا من اليقين . التقدير من غلب على ظنه التقصير في القسط لليتيمة فليعدِل عنها . و « تقسِطوا » معناه تعدلوا . يقال : أقسط الرجل إذا عدل . وقَسَط إذا جار وظلم صاحبَه . قال الله تعالى : { وَأَمَّا ٱلْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } [ الجن : 15 ] يعني الجائرون . وقال عليه السلام : " المقسطون في الدين على منابر من نور يوم القيامة " يعني العادلين . وقرأ ابن وَثّاب والنخعيّ « تَقْسِطُوا » بفتح التاء من قَسَط على تقدير زيادة « لا » كأنه قال : وإن خفتم أن تجوروا . الثانية قوله تعالى : { فَٱنْكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ } إن قيل : كيف جاءت { ما } للآدميِّين وإنما أصلها لما لا يعقِل فعنه أجوبة خمسةٌ : الأوّل أنّ { مَنْ } و « مَا » قد يتعاقبان قال الله تعالى : { وَٱلسَّمَآءِ وَمَا بَنَاهَا } [ الشمس : 5 ] أي ومَن بناها . وقال { فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ منْ يَمْشِي عَلَىٰ رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ أَرْبَعٍ } [ النور : 45 ] . فما هٰهنا لمن يعقل وهنّ النساء لقوله بعد ذلك { مِنَ النِّسَاءِ } مبيِّناً لمبهَم . وقرأ ابن أبي عَبْلَة « مَنْ طَابَ » على ذكر مَن يعقل . الثاني : قال البصريون : « ما » تقع للنعوت كما تقع لِما لا يعقل يقال : ما عندك ؟ فيقال : ظريف وكريم . فالمعنى فانكحوا الطيب من النساء أي الحلال ، وما حرمه الله فليس بطيّب . وفي التنزيل { وَمَا رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 23 ] فأجابه موسى على وفق ما سأل وسيأتي . الثالث : حكى بعض الناس أن { ما } في هذه الآية ظرفية ، أي ما دمتم تستحسنون النكاح . قال ابن عطية : وفي هذا المنزع ضعف . جواب رابع قال الفرّاء : { ما } هٰهنا مصدر . وقال النحاس : وهذا بعيد جداً لا يصح فانكحوا الطيبة . قال الجوهري : طاب الشيء يَطِيب طيْبَة وتَطْيابا . قال علقمة : @ كأنّ تَطْيَابَها فِي الأنفِ مَشْمُومُ @@ جواب خامس : وهو أن المراد بما هنا العقد أي فٱنكحوا نكاحاً طيباً . وقراءة ٱبن أبي عَبْلَة تردّ هذه الأقوال الثلاثة . وحكى أبو عمرو بن العلاء أن أهل مكة إذا سمعوا الرعد قالوا : سبحان ما سبّح له الرعد . أي سبحان مَن سبّح له الرعد . ومثله قولهم : سبحان ما سخركُن لنا . أي من سخركن . وٱتفق كل من يُعاني العلومَ على أن قوله تعالى { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي ٱلْيَتَامَىٰ } ليس له مفهوم إذْ قد أجمع المسلمون على أنّ من لم يخَف القَسْطَ في اليتامى له أن ينكح أكثر من واحدة : ٱثنتين أو ثلاثاً أو أربعاً كمن خاف . فدَلّ على أن الآية نزلت جواباً لمن خاف ذلك ، وأن حكمها أعم من ذلك . الثالثة تعلق أبو حنيفة بهذه الآية في تجويزه نكاح اليتيمة قبل البلوغ . وقال : إنما تكون يتيمة قبل البلوغ ، وبعد البلوغ هي امرأة مطلقَة لا يتيمة بدليل أنه لو أراد البالغة لما نهى عن حَطِّها عن صداق مثلها لأنها تختار ذلك فيجوز إجماعاً . وذهب مالك والشافعيّ والجمهور من العلماء إلى أن ذلك لا يجوز حتى تبلغ وتستأمر لقوله تعالى : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي ٱلنِّسَآءِ } [ النساء : 127 ] والنساء ٱسم ينطلق على الكبار كالرجال في الذكور ، وٱسم الرجل لا يتناول الصغير فكذلك اسم النساء ، والمرأة لا يتناول الصغيرة . وقد قال : { فِي يَتَامَى ٱلنِّسَآءِ } [ النساء : 127 ] والمراد به هناك اليتامى هنا كما قالت عائشة رضي الله عنها . فقد دخلت اليتيمةُ الكبيرة في الآية فلا تُزَوَّج إلا بإذنها ، ولا تُنكح الصغيرة إذْ لا إذن لها ، فإذا بلغت جاز نكاحها لكن لا تُزوّج إلا بإذنها . كما رواه الدارقطنيّ من حديث محمد بن إسحاق عن نافع " عن ابن عمر قال : زوّجني خالي قُدَامة بن مَظْعُون بنت أخيه عثمان بنِ مظعون ، فدخل المغيرة بن شعبة على أُمها ، فأرغبها في المال وخطبها إليها ، فرُفع شأنُها إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال قُدامة : يا رسول الله ٱبنة أخي وأنا وصيّ أبيها ولم أقصّر بها ، زوّجتها من قد علمتَ فضلَه وقرابتَه . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إنها يتيمة واليتيمة أولى بأمرها » فنزعت مني وزوّجها المغيرة بن شعبة " قال الدَّارَقُطْنِيّ : لم يسمعه محمد بن إسحاق من نافع ، وإنما سمعه من عمر بن حسين عنه . ورواه ابن أبي ذئب عن عمر بن حسين عن نافع عن عبد الله بن عمر : أنه تزوّج بنت خاله عثمان بن مظعون قال : فذهبت أُمها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إنّ ابنتي تكره ذلك . فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يفارقها ففارقها . وقال : " ولا تنكحوا اليتامى حتى تستأمروهنّ فإذا سكتْن فهو إذنها " فتزوّجها بعد عبد الله المغيرةُ بن شعبة . فهذا يردّ ما يقوله أبو حنيفة من أنها إذا بلغت لم تحتج إلى وليّ ، بناء على أصله في عدم اشتراط الوليّ في صِحَّة النكاح . وقد مضى في « البقرة » ذكره فلا معنى لقولهم : إنّ هذا الحديث محمول على غير البالغة لقوله : " إلا بإذنها " فإنه كان لا يكون لذكر اليتيم معنى والله أعلم . الرابعة وفي تفسير عائشة للآية من الفقه ما قال به مالك من صداق المِثل ، والردّ إليه فيما فسد من الصداق ووقع الغبْن في مقداره لقولها : بأدنى من سُنّة صداقها . فوجب أن يكون صداق المثل معروفاً لكل صِنف من الناس على قدر أحوالهم . وقد قال مالك : للناس مناكح عُرفت لهم وعُرفوا لها . أي صَدُقات وأكفاء . وسئل مالك عن رجل زوّج ٱبنته غنية من ٱبن أخ له فقير فٱعترضت أُمّها فقال : إني لأرى لها في ذلك متكلّماً . فسوّغ لها في ذلك الكلام حتى يظهر هو من نظره ما يسقط اعتراض الأُم عليه . وروي « لا أرى » بزيادة الألف والأوّل أصح . وجائز لغير اليتيمة أن تنكح بأدنى من صداق مثلها لأن الآية إنما خرجت في اليتامى . هذا مفهومها وغير اليتيمة بخلافها . الخامسة : فإذا بلغت اليتيمة وأقسط الوليّ في صداقها جاز له أن يتزوّجها ، ويكون هو الناكح والمنكح على ما فسرته عائشة . وبه قال أبو حنيفة والأُوزاعيّ والثوريّ وأبو ثور ، وقاله من التابعين الحسن وربيعة ، وهو قول الليث . وقال زُفر والشافعيّ : لا يجوز له أن يتزوّجها إلا بإذن السلطان ، أو يزوّجها منه وليّ لها هو أقعد بها منه أو مثله في القَعْدُد وأما أن يتولّى طرفي العقد بنفسه فيكون ناكحاً منكِحاً فلا . وٱحتجوا بأن الولاية شرط من شروط العقد لقوله عليه السلام : " لا نكاح إلا بولِيّ وشاهدي عدل " فتعديد الناكح والمنكِح والشهود واجب فإذا ٱتّحد اثنان منهم سقط واحد من المذكورين . وفي المسألة قول ثالث ، وهو أن تجعل أمرها إلى رجل يزوّجها منه . رُوي هذا عن المغيرة بن شعبة ، وبه قال أحمد ، ذكره ابن المنذر . السادسة : قوله تعالى : { مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ } معناه ما حَلّ لكم عن الحسن وٱبن جبير وغيرهما . واكتفى بذكر من يجوز نكاحه لأن المحرمات من النساء كثير . وقرأ ابن إسحاق والجَحْدَريّ وحمزة « طاب » « بالإمالة » وفي مصحف أُبَيّ « طيب » بالياء فهذا دليل الإمالة . { مِنَ النِّسَاءِ } دليل على أنه لا يقال نساء إلا لمن بلغ الحُلُم . وواحد النساء نسوة ، ولا واحد لنِسوة من لفظه ، ولكن يقال امرأة . السابعة : قوله تعالى : { مَثْنَىٰ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } وموضعها من الإعراب نصب على البدل من { ما } وهي نكرة لا تنصرف لأنها معدولة وصفة كذا قال أبو عليّ . وقال الطبري : هي معارف لأنها لا يدخلها الألف واللام ، وهي بمنزلة عُمَر في التعريف قاله الكوفي . وخطّأ الزجاج هذا القول . وقيل : لم ينصرف لأنه معدول عن لفظه ومعناه ، فأُحَادَ معدول عن وَاحد واحد ، ومَثْنى معدولة عن ٱثنين ٱثنين ، وثُلاثَ معدولة عن ثلاثة ثلاثة ، ورُباعَ عن أربعة أربعة . وفي كل واحد منها لغتان : فُعَالَ ومَفْعَل يقال أُحادُ ومَوْحَد وثُنَاء ومَثْنَى وثلاث ومَثْلَث ورُباع ومَرْبع ، وكذلك إلى مَعْشَر وعُشَار . وحكى أبو إسحاق الثعلبيّ لغة ثالثة : أُحَد وثُنَى وثُلَث ورُبَع مثل عُمَر وزُفَر . وكذلك قرأ النخعِيّ في هذه الآية . وحكى المهدوي عن النخعِيّ وابن وثَاب « ثُلاَثَ وَرُبَعَ » بغير ألف في رُبَع فهو مقصور من رباع استخفافاً كما قال : @ أقبل سَيْلُ جاء من عند اللَّهِ يَحْرِد حرد الجنةِ المُغِلهْ @@ قال الثعلبيّ : ولا يزاد من هذا البناء على الأربع إلا بيتٌ جاء عن الكُمَيت : @ فلم يَسْتَرِيثُوك حتى رميـ ـتَ فوق الرجالِ خِصالا عُشَارا @@ يعني طعنت عشرة . وقال ابن الدّهَّان : وبعضهم يقف على المسموع وهو من أُحَاد إلى رُباع ولا يعتبر بالبيت لشُذُوذه . وقال أبو عمرو بن الحاجب : ويقال أُحَاد ومَوْحَد وثُنَاء ومَثْنَى وثُلاثَ ومَثْلَث ورُباع ومَرْبَع . وهل يقال فيما عداه إلى التسعة أو لا يقال ؟ فيه خلاف أصحها أنه لم يثبت . وقد نص البخاريّ في صحيحه على ذلك . وكونه معدولاً عن معناه أنه لا يستعمل في موضع تستعمل فيه الأعداد غير المعدولة تقول : جاءني اثنان وثلاثة ، ولا يجوز مَثْنَى وثُلاَثَ حتى يتقدّم قبله جمْعٌ ، مثل جاءني القوم أُحَادَ وثُنَاء وثُلاثَ ورُبَاع من غير تكرار . وهي في موضع الحال هنا وفي الآية ، وتكون صفةً ومثال كون هذه الأعداد صفةً يتبيّن في قوله تعالى : { أُوْلِيۤ أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } فهي صفة للأجنحة وهي نكرة . وقال ساعدة بن جُؤَيّة : @ ولكنّما أهلي بِوادٍ أنيسُه ذئابٌ تَبغَّى الناس مَثْنَى وَمَوْحَدُ @@ وأنشد الفرّاء : @ قتلنا به من بَيْن مَثْنَى وَمَوْحَدِ بأربعة منكم وآخرَ خامِسِ @@ فوصف ذئاباً وهي نكرة بمثنى وموحد ، وكذلك بيت الفرّاء أي قتلنا به ناساً ، فلا تنصرف إذاً هذه الأسماء في معرفة ولا نكرة . وأجاز الكسائيّ والفرّاء صرفه في العدد على أنه نكرة . وزعم الأخفش أنه إن سمي به صرفه في المعرفة والنكرة لأنه قد زال عنه العدل . الثامنة : ٱعلم أن هذا العدد مَثْنَى وثُلاث ورُباع لا يدل على إباحة تِسعِ ، كما قاله من بَعدُ فهمُه للكتاب والسنّة ، وأعرض عما كان عليه سلف هذه الأُمة ، وزعم أن الواو جامعة وعَضَد ذلك بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم نكح تسعاً ، وجمع بينهن في عِصْمته . والذي صار إلى هذه الجهالة ، وقال هذه المقالَة الرافِضةُ وبعض أهل الظاهر فجعلوا مثنى مثل اثنين ، وكذلك ثُلاث ورُباع . وذهب بعض أهل الظاهر أيضاً إلى أقبح منها ، فقالوا بإباحة الجمع بين ثمانِ عشرة : تمسُّكاً منه بأن العدل في تلك الصيغ يفيد التكرار والواو للجمع فجعل مثنى بمعنى ٱثنين ٱثنين وكذلك ثُلاث ورُباع . وهذا كله جهلٌ باللسان والسُّنة ، ومخالفَةٌ لإجماع الأُمة إذ لم يُسمع عن أحد من الصحابة ولا التابعين أنه جمع في عصمته أكثر من أربع . وأخرج مالك في موطئه ، والنّسائي والدَّارَقُطْنِيّ في سننهما " أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لغَيْلان بن أُمَيَّة الثَّقَفِيّ وقد أسلم وتحته عشر نسوة : « ٱختر منهن أربعاً وفارق سائرهن » " وفي كتاب أبي داود " عن الحارث بن قيس قال : أسلمتُ وعندي ثمان نسوة ، فذكرت ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : « ٱختر منهن أربعاً » " وقال مقاتل : إن قيس بن الحارث كان عنده ثمان نسوة حرائر فلما نزلت هذه الآية أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطلّق أربعاً ويُمسك أربعاً . كذا قال : « قيس بن الحارث » ، والصواب أن ذلك كان حارث بن قيس الأسدي كما ذكر أبو داود . وكذا روى محمد بن الحسن في كتاب السير الكبير : أن ذلك كان حارث بن قيس ، وهو المعروف عند الفقهاء . وأما ما أُبيح من ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم فذلك من خصوصياته على ما يأتي بيانه في « الأحزاب » . وأما قولهم : إن الواو جامعة فقد قيل ذلك ، لكن الله تعالى خاطب العرب بأفصح اللغات . والعرب لا تدع أن تقول تسعة وتقول اثنين وثلاثة وأربعة . وكذلك تستقبح ممن يقول : أعطِ فلاناً أربعة ستة ثمانية ، ولا يقول ثمانية عشر . وإنما الواو في هذا الموضع بدل أي انكحوا ثلاثاً بدلاً من مثنى ، ورباع بدلاً من ثلاث ولذلك عطف بالواو ولم يعطف بأو . ولو جاء بأو لجاز ألا يكون لصاحب المثنى ثلاث ، ولا لصاحب الثلاث رباع . وأما قولهم : إن مَثْنَى تقتضي ٱثنين ، وثُلاَثَ ثلاثة ، ورباع أربعة ، فتحكُّم بما لا يوافقهم أهلُ اللسان عليه ، وجهالةٌ منهم . وكذلك جهل الآخرين بأن مَثْنَى تقتضي اثنين اثنين ، وثُلاثَ ثلاثة ثلاثة ، ورُباع أربعة أربعة ، ولم يعلموا أن اثنين اثنين ، وثلاثاً ثلاثاً ، وأربعاً أربعاً ، حصرٌ للعدد . ومثنى وثلاث ورباع بخلافها . ففي العدد المعدول عند العرب زيادةُ معنىً ليست في الأصل وذلك أنها إذا قالت : جاءت الخيل مثنى ، إنما تعني بذلك اثنين اثنين أي جاءت مزدوجة . قال الجوهريّ : وكذلك معدول العدد . وقال غيره : إذا قلت جاءني قوم مثنى أو ثُلاث أو أُحَاد أو عُشار ، فإنما تريد أنهم جاءوك واحداً واحداً ، أو اثنين اثنين ، أو ثلاثة ثلاثة ، أو عشرة عشرة ، وليس هذا المعنى في الأصل : لأنك إذا قلت جاءني قوم ثلاثة ثلاثة ، أو قوم عشرة عشرة ، فقد حصرت عِدّة القوم بقولك ثلاثة وعشرة . فإذا قلت جاءوني رُباع وثُناء فلم تحصر عِدّتهم . وإنما تريد أنهم جاءوك أربعة أربعة أو اثنين اثنين . وسواء كثر عددهم أو قلّ في هذا الباب ، فقصرهم كل صيغة على أقل ما تقتضيه بزعمه تحكّم . وأما اختلاف علماء المسلمين في الذي يتزوّج خامسة وعنده أربع وهي : التاسعة : فقال مالك والشافعيّ : عليه الحدّ إن كان عالماً . وبه قال أبو ثَوْر . وقال الزُّهرِيّ : يُرجَم إذا كان عالماً ، وإن كان جاهلاً أدْنَى الحدّين الذي هو الجلد ، ولها مهرها ويُفَرّق بينهما ولا يجتمعان أبداً . وقالت طائفة : لا حدّ عليه في شيء من ذلك . هذا قول النعمان . وقال يعقوب ومحمد : يُحدّ في ذات المحرّم ولا يحدّ في غير ذلك من النكاح . وذلك مثلُ أن يتزوّج مجوسيّةً أو خمسةً في عُقدة أو تزوّج متعة أو تزوّج بغير شهود ، أو أَمَةً تزوّجها بغير إذن مولاها . وقال أبو ثَوْر : إذا علم أن هذا لا يحلّ له يجب أن يحدّ فيه كلّه إلا التزوّج بغير شهود . وفيه قول ثالث قاله النَّخَعِيّ في الرجل ينكح الخامسة متعمّداً قبل أن تنقضي عدّة الرابعة من نسائه : جلدُ مائة ولا يُنْفَى . فهذه فُتْيَا علمائنا في الخامسة على ما ذكره ابن المنذر فكيف بما فوقها . العاشرة : ذكر الزبير بن بَكّار حدّثني إبراهيم الحِزاميّ عن محمد بن مَعْن الغِفارِيّ قال : أتت ٱمرأة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقالت : يا أمير المؤمنين ، إنّ زوجي يصوم النهار ويقوم الليل وأنا أكره أن أشكوه ، وهو يعمل بطاعة الله عز وجل . فقال لها : نعِم الزوجُ زوجُك . فجعلت تكرّر عليه القول و هو يكرّر عليها الجواب . فقال له كعبٌ الأسديّ : يا أمير المؤمنين ، هذه المرأة تشكو زوجها في مباعدته إيّاها عن فِراشه . فقال عمر : كما فهمت كلامها فٱقض بينهما . فقال كعب : عليّ بزوجها فأُتِيَ به فقال له : إن ٱمرأتك هذه تشكوك . قال : أفي طعام أم شراب ؟ قال لا . فقالت المرأة : @ يا أيها القاضي الحكِيمُ رَشَدُهْ ألْهَى خلِيلي عن فِراشِي مسجِدُهْ زهّده في مَضْجَعي تعبُّدُهْ فٱقضِ القضا كَعْبُ ولا تُرَدِّدُهْ نهاره وليله ما يرقُدُهْ فلستُ في أمرِ النساءِ أحمَدُه @@ فقال زوجهـا : @ زهّدني في فَرْشها وفي الحَجَلْ أني ٱمرؤ أذْهَلَنِي ما قد نَزَلْ في سورة النّحل وفي السبع الطّوَلْ وفي كتاب اللَّه تخويفٌ جَلَلْ @@ فقال كعب : @ إن لها عليك حقّاً يا رَجُلْ نصيبُها في أربع لمن عَقَل فأعطها ذاك ودَعْ عنك العِلَلْ @@ ثم قال : إن الله عز وجل قد أحلّ لك من النساء مَثْنى وثُلاثَ ورُباع ، فلك ثلاثة أيام ولياليهنّ تعبد فيهنّ ربك . فقال عمر ، والله ما أدري من أيّ أَمْرَيْك أعجب ؟ أمِنْ فهمك أمرَهُما أم من حكمك بينهما ؟ ٱذهب فقد ولّيتك قضاء البصرة . وروى أبو هُدْبة إبراهيمُ بنُ هُدبة حدّثنا أنس بن مالك قال : " أتت النبيّ صلى الله عليه وسلم ٱمرأةٌ تستعدِي زوجَها ، فقالت : ليس لي ما للنساء زوجي يصوم الدهر . قال : « لك يومٌ وله يومٌ ، للعبادة يوم وللمرأة يوم » " . الحادية عشرة : قوله تعالى : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً } قال الضحاك وغيره : في المَيْل والمحَبّة والجِماع والعِشرة والقَسْم بين الزوجات الأربع والثلاث والاثنتين ، { فواحدةً } . فمنع من الزيادة التي تؤدّي إلى ترك العدل في القَسْم وحُسن العِشرة . وذلك دليل على وجوب ذلك ، والله أعلم . وقرئت بالرفع ، أي فواحدةٌ فيها كفاية أو كافية . وقال الكِسائيّ : فواحدة تقنع . وقرئت بالنصب بإضمار فعل ، أي فانكحوا واحدةً . الثانية عشرة : قوله تعالى : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } يريد الإماء . وهو عطف على { فَوَاحِدَةً } أي إن خاف ألاّ يعدل في واحدة فما مَلكت يمينهُ . وفي هذا دليل على ألاّ حقّ لِملك اليمين في الوطء ولا القَسْم لأن المعنى { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ } في القَسْم { فَوَٰحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُمْ } فجعل مِلك اليمين كلّه بمنزلة واحدة ، فانتفى بذلك أن يكون للإماء حقٌّ في الوطء أو في القَسْم . إلا أنّ مِلك اليمين في العدل قائم بوجوب حُسن المَلكَة والرّفق بالرّقيق . وأسند تعالى المِلْك إلى اليمين إذ هي صفةُ مدح ، واليمين مخصوصة بالمحاسن لتمكّنها . ألا ترى أنها المنفِقة ؟ كما قال عليه السلام : " حتّى لا تعلم شماله ما تُنفق يمينه " وهي المعاهِدة المبايِعة ، وبها سميت الألِيّة يميناً ، وهي المتلقّية لرايات المجد كما قال : @ إذا ما رَايةٌ رُفعتْ لمَجْد تلقّاها عَرَابةُ باليمين @@ الثالثة عشرة قوله تعالى : { ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلاَّ تَعُولُواْ } أي ذلك أقرب إلى ألاّ تميلوا عن الحق وتجوروا عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما . يقال : عالَ الرجل يَعُول إذا جار ومال . ومنه قولهم : عال السّهمُ عن الهَدَف مال عنه . قال ابن عمر : إنه لعائل الكيل والوزن قال الشاعر : @ قالوا ٱتَّبَعنا رسولَ اللَّه وٱطّرحوا قولَ الرسولِ وعالُوا في الموازِين @@ أي جاروا . وقال أبو طالب : @ بِميزانِ صدقٍ لا يُغِلّ شعِيرةً له شاهِدٌ من نفسه غيرُ عائِلِ @@ يريد غير مائل . وقال آخر : @ ثلاثة أنفُسٍ وثلاثُ ذَوْدٍ لقد عال الزمانُ على عِيالِي @@ أي جار ومال . وعال الرجل يعِيلُ إذا ٱفتقر فصار عالَةً . ومنه قوله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً } [ التوبة : 28 ] ومنه قول الشاعر : @ وما يَدرِي الفقيرُ متى غِناهُ وما يَدرِي الغنيّ متى يَعِيلُ @@ وهو عائِل وقوم عَيْلة ، والعَيْلة والعالة الفاقة ، وعالني الشيء يعُولني إذا غلبني وثقُل عليّ ، وعال الأمر اشتدّ وتفاقم . وقال الشافعيّ { ألاّ تَعُولُوا } ألا تكثر عيالكم . قال الثّعلبيّ : وما قال هذا غيره ، وإنما يقال : أعال يُعِيل إذا كثر عِياله . وزعم ابن العربيّ أن عال على سبعة معان لا ثامن لها ، يقال : عال مال ، الثاني زاد ، الثالث جار ، الرابع افتقر ، الخامس أثقل حكاه ابن دريد . قالت الخنساء : @ ويكفي العشِيرة ما عالها @@ السادس عال قام بمئونة العيال ومنه قوله عليه السلام : " وٱبدأ بمن تَعُول " السابع عال غلب ومنه عِيلَ صَبره . أي غُلِب . ويقال : أعال الرجل كثر عِياله . وأمّا عال بمعنى كثُر عياله فلا يصحّ . قلت : أما قول الثعلبي « ما قاله غيره » فقد أسنده الدّارَقُطْنِيّ في سننه عن زيد بن أسلم ، وهو قول جابر بن زيد فهذان إمامان من علماء المسلمين وأئمتهم قد سبقا الشافعيّ إليه . وأما ما ذكره ابن العربيّ من الحصر وعدم الصحة فلا يصحّ . وقد ذكرنا : عال الأمر ٱشتدّ وتفاقم حكاه الجوهريّ . وقال الهَروِيّ في غريبيه : « وقال أبو بكر : يقال عال الرجل في الأرض يعِيل فيها أي ضرب فيها . وقال الأحمر : يقال عالني الشيء يَعيلني عَيْلاً ومَعِيلاً إذا أعجزك » . وأما عال كَثُر عياله فذكره الكسائي وأبو عمر الدُّورِي وابن الأعرابيّ . قال الكسائي أبو الحسن علي بن حمزة : العرب تقول عال يعول وأعال يُعِيل أي كثر عياله . وقال أبو حاتم : كان الشافعيّ أعلمَ بلغة العرب منا ، ولعلّه لغة . قال الثّعلبي المفسِّر : قال أُستاذنا أبو القاسم بن حبيب : سألت أبا عمر الدُّورِي عن هذا وكان إماماً في اللغة غير مدافع فقال : هي لغة حِميْر وأنشد : @ وإن الموت يأخذ كل حَيّ بلا شك وإن أمْشَى وعالاَ @@ يعني وإن كثرت ماشيته وعياله . وقال أبو عمرو بن العلاء : لقد كثرت وجوه العرب حتى خشيت أن آخذ عن لاحن لَحْناً . وقرأ طلحة بن مُصَرِّف « ألاّ تُعيلوا » وهي حجة الشافعيّ رضي الله عنه . قال ابن عطية : وقدح الزجاج وغيره في تأويل عال من العيال بأن قال : إن الله تعالى قد أباح كثرة السَّراري وفي ذلك تكثير العيال ، فكيف يكون أقربَ إلى ألاّ يكثر العيال . وهذا القدح غير صحيح لأن السَّراري إنما هي مال يُتصرّف فيه بالبيع ، وإنما العيال القادح الحرائرُ ذوات الحقوق الواجبة . وحكى ٱبن الأعرابيّ أن العرب تقول : عال الرجل إذا كثر عياله . الرابعة عشرة تعلّق بهذه الآية من أجاز للمملوك أن يتزوّج أربعاً لأن الله تعالى قال : « فانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ » يعني ما حل « مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ » ولم يخصّ عبداً من حُر . وهو قول داود والطبريّ وهو المشهور عن مالك وتحصيل مذهبه على ما في موطئّه ، وكذلك روى عنه ابن القاسم وأشهب . وذكر ابن الموّاز أن ٱبن وهب روى عن مالك أن العبد لا يتزوّج إلا ٱثنتين قال وهو قول الليث . قال أبو عمر : قال الشافعيّ وأبو حنيفة وأصحابهما والثوريّ واللّيث بن سعد : لا يتزوّج العبد أكثر من ٱثنتين وبه قال أحمد وإسحاق . وروي عن عمر بن الخطاب وعليّ بن أبي طالب وعبد الرحمن بن عوف في العبد لا ينكح أكثر من اثنتين ولا أعلم لهم مخالفاً من الصحابة . وهو قول الشعبيّ وعطاء وابن سيرين ، والحكم وإبراهيم وحماد . والحجة لهذا القول القياسُ الصحيح على طلاقه وحدّه . وكلّ من قال حدّه نصف حدّ الحر ، وطلاقه تطليقتان ، وإيلاؤه شهران ، ونحو ذلك من أحكامه فغير بعيد أن يقال : تناقض في قوله « ينكح أربعاً » والله أعلم .