Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 101-102)
Tafsir: al-Ǧāmiʿ li-aḥkām al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
فيه عشر مسائل : الأُولىٰ روى البخاريّ ومسلم وغيرهما واللفظ للبخاريّ عن أنَس قال : " قال رجل يا نبيّ الله من أَبِي ؟ قال : « أبوك فلان » " قال فنزلت { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } الآية . وخرّج أيضاً عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه : " « فواللَّهِ لا تسألوني عن شيء إلاَّ أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا » فقام إليه رجل فقال : أين مدخلي يا رسول الله ؟ قال : « النار » . فقام عبد الله بن حذافة فقال : من أبِي يا رسول الله فقال : « أبوك حُذَافة » " وذكر الحديث قال ابن عبد البر : عبد الله بن حُذَافة أسلم قديماً ، وهاجر إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية ، وشهد بَدْراً وكانت فيه دُعَابة ، وكان رسولَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسله إلى كسرى بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما قال من أبي يا رسول الله قال : " « أَبوكَ حُذافة » قالت له أُمُّه : ما سمعتُ بابن أعقّ منك آمنتَ أن تكون أُمك قَارَفْت ما يُقارِف نساء الجاهلية فتفضحها على أعين الناس " ! . فقال : والله لو ألحقنى بعبد أسود للحقت به . وروى الترمذيّ والدَّارَقُطْنِيّ " عن عليّ رضي الله عنه قال : لما نزلت هذه الآية { وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } [ آل عمران : 97 ] قالوا : يا رسول الله أفي كلّ عام ؟ فسكت ، فقالوا : أفي كلّ عام ؟ قال : « لا ولو قلتُ نعم لَوَجَبَت » " فأنزل الله تعالىٰ : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } إلى آخر الآية . واللفظ للدَّارَقُطْنِيّ سِئل البخاريّ عن هذا الحديث فقال : هو حديث حسن إلاَّ أنه مُرسَل أبو البَخْتَرِيّ لم يُدرك علياً ، واسمه سعيد . وأخرجه الدَّارَقُطْنِيّ أيضاً عن أبي عِياض " عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يأيها الناس كتب عليكم الحج » فقام رجل فقال : في كل عام يا رسول الله ؟ فأعرض عنه ، ثم عاد فقال : في كل عام يا رسول الله ؟ فقال : « ومن القائل » قالوا : فلان قال : « والذي نفسي بيده لو قلت نَعَم لَوَجَبت ولو وَجَبت ما أطقتموها ولو لم تُطيقوها لكفَرتم » فأنزل الله تعالى { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } الآية " وقال الحسن البصري في هذه الآية : سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن أمور الجاهلية التي عفا الله عنها ، ولا وجه للسؤال عما عفا الله عنه . ورَوى مجاهد عن ابن عباس أنها نزلت في قوم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البَحِيرة والسَّائبة والوَصِيلة والحَام وهو قول سعيد بن جُبَير وقال : ألا ترى أن بعده { مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ } [ المائدة : 103 ] قلت : وفي الصحيح والمسند كفاية . ويحتمل أن تكون الآية نزلت جواباً للجميع ، فيكون السؤال قريباً بعضه من بعض . والله أعلم . و « أشياء » وزنه أفعال ولم يصرف لأنه مشبه بحمراء قاله الكسائي . وقيل : وزنه أَفْعلاء كقولك : هَيْن وأَهْوِناء عن الفرّاء والأخفش ويُصغّر فيقال : « أُشَيَّاء قال المازِني : يجب أن يُصغَر شُيَيْآت كما يصغر أصدقاء في المؤنث صُدَيْقات وفي المذكر صُدَيْقون . الثانية قال ابن عون : سألت نافعاً عن قوله تعالى : { لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } فقال : لم تزل المسائل منذ قطّ تكره . روى مسلم عن المغيرة بن شُعْبة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنّ الله حرّم عليكم عُقوق الأمهات وَوَأْد البنات وَمَنْعاً وهات وكرِه لكم ثلاثاً قِيلَ وقالَ وكثرةَ السّؤالِ وإضاعة المالِ " قال كثير من العلماء : المراد بقوله « وكثرة السؤال » التكثير من السؤال في المسائل الفقهية تَنطُّعاً ، وتكلفاً فيما لم ينزل ، والأغلوطات وتشقيق المولدات ، وقد كان السّلف يكرهون ذلك ويرونه من التكليف ويقولون إذا نزلت النازلة وُفِّق المسؤولُ لها . قال مالك : أدركت أهل هذا البلد وما عندهم علم غير الكتاب والسنة ، فإذا نزلت نازلة جمع الأمير لها من حضر من العلماء فما اتفقوا عليه أنفذه ، وأنتم تكثرون المسائل وقد كرهها رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقيل المُرَاد بكثرة المسائل كثرة سؤال الناس الأموال والحوائج إلحاحاً واستكثاراً وقاله أيضاً مالك . وقيل : المراد بكثرة المسائل السؤال عما لا يعني من أحوال الناس بحيث يؤدّي ذلك إلى كشف عوراتهم والاطلاع على مساوئهم . وهذا مثل قوله تعالى : { وَلاَ تَجَسَّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً } [ الحجرات : 12 ] قال آبن خُوَيْزِ مَنْدَاد : ولذلك قال بعض أصحابنا متى قُدِّم إليه طعام لم يسأل عنه من أين هذا أو عُرض عليه شيء يشتريه لم يسأل من أين هو ، وحَمَل أمور المسلمين على السلامة والصحة . قلت : والوجه حمل الحديث على عمومه فيتناول جميع تلك الوجوه كلها . والله أعلم . الثالثة قال ابن العربي : اعتقد قوم من الغافلين تحريم أسئلة النوازل حتى تقع تعلقاً بهذه الآية وليس كذلك لأن هذه الآية مصرّحة بأن السؤال المنهي عنه إنما كان فيما تقع المسَاءةُ في جوابه ، ولا مَسَاءَة في جواب نوازل الوقت فافترقا . قلت : قوله اعتقد قوم من الغافلين فيه قبح ، وإنما كان الأولى به أن يقول : ذهب قوم إلى تحريم أسئلة النوازل ، لكنه جرى على عادته ، وإنما قلنا كان أولى به لأنه قد كان قوم من السلف يكرهها . وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يلعن من سأل عما لم يكن ذكره الدَّارِمي في مسنده وذكر عن الزهري قال : بلغنا أن زيد بن ثابت الأنصاري كان يقول إذا سئل عن الأمر : أكان هذا ؟ فإن قالوا : نعم قد كان حدّث فيه بالذي يَعلم ، وإن قالوا : لم يكن قال فذروه حتى يكون . وأسند عن عَمَار بن يَاسِر وقد سئل عن مسئلة فقال : هل كان هذا بعد ؟ قالوا : لا قال : دعونا حتى يكون ، فإذا كان تجشَّمناها لكم . قال الدَّارِمي : حدّثنا عبدالله بن محمد بن أبي شيبة ، قال حدثنا ابن فُضَيل عن عطاء عن ابن عباس قال : ما رأيت قوماً كانوا خيراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسئلة حتى قُبض ، كلهن في القرآن منهن { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ } [ البقرة : 217 ] ، { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْمَحِيضِ } [ البقرة : 222 ] وشبهه ما كانوا يسألون إلا عمّا ينفعهم . الرابعة قال ابن عبد البر : السؤال اليوم لا يُخاف منه أن ينزل تحريم ولا تحليل من أجله ، فمن سأل مستفهماً راغباً في العلم ونَفى الجهل عن نفسه ، باحثاً عن معنى يجب الوقوف في الديانة عليه ، فلا بأس به ، فشفاء العِي السؤال ومن سأل متعنتاً غير متفقه ولا متعلم فهو الذي لا يحل قليل سؤاله ولا كثيره قال ابن العربي : الذي ينبغي للعالم أن يشتغل به هو بسط الأدلة ، وإيضاح سُبُل النظر ، وتحصيل مقدّمات الاجتهاد ، وإعداد الآلة المعينة على الاستمداد فإذا عرضت نازلة أُتيت من بابها ، ونُشدت في مظانها ، والله يفتح في صوابها . الخامسة قوله تعالى : { وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ ٱلْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ } فيه غموض ، وذلك أن في أوّل الآية النهي عن السؤال ، ثم قال : { وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ ٱلْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ } فأباحه لهم فقيل : المعنى وإن تسألوا عن غيرها فيما مست الحاجة إليه ، فحذف المضاف ، ولا يصح حمله على غير الحذف . قال الجُرْجاني : الكناية في « عنها » ترجع إلى أشياء أخر كقوله تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } يعني آدم ، ثم قال : { ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً } [ المؤمنون : 13 ] أي ابن آدم لأن آدم لم يجعل نطفة في قرار مكين ، لكن لما ذكر الإنسان وهو آدم دلّ على إنسان مثله ، وعُرف ذلك بقرينة الحال فالمعنى وإن تسألوا عن أشياء حين يُنزَّل القرآن من تحليل أو تحريم أو حُكْم ، أو مسّت حاجتكم إلى التفسير ، فإذا سألتم فحينئذٍ تُبد لكم فقد أباح هذا النوع من السؤال : ومثاله أنه بيّن عِدّة المطلقة والمتوفى عنها زوجها والحامل ، ولم يجر ذكر عِدّةِ التي ليست بذات قُرء ولا حامل ، فسألوا عنها فنزل { وَٱللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ ٱلْمَحِيضِ } [ الطلاق : 4 ] . فالنهي إذا في شيء لم يكن بهم حاجة إلى السؤال فيه فأما ما مسّت الحاجة إليه فلا . السادسة قوله تعالى : { عَفَا ٱللَّهُ عَنْهَا } أي عن المسئلة التي سلفت منهم . وقيل : عن الأشياء التي سألوا عنها من أمور الجاهلية وما جرى مجراها . وقيل : العفو بمعنى الترك أي تركها ولم يُعرف بها في حلال ولا حرام فهو معفو عنها فلا تبحثوا عنه فلعله إن ظهر لكم حكمه ساءكم . وكان عُبيد بن عُمير يقول : إن الله أحل وحرّم فما أحلّ فاستحلوه ، وما حرّم فاجتنبوه ، وترك بين ذلك أشياء لم يحلّلها ولم يحرمها ، فذلك عفو من الله ، ثم يتلو هذه الآية . وخرّج الدَّارقُطْني عن أبي ثَعْلبة الخُشَني قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله تعالى فرض فرائض فلا تُضيعوها وحَرّم حُرُمات فلا تَنتهكوها وحَدّد حدوداً فلا تعتدوها وسكت عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها " والكلام على هذا التقدير فيه تقديم وتأخير أي لا تسألوا عن أشياء عفا الله عنها إن تبد لكم تسؤكم ، أي أمسك عن ذكرها فلم يوجب فيها حُكماً . وقيل : ليس فيه تقديم ولا تأخير بل المعنى قد عفا الله عن مسألتكم التي سلفت ، وإن كرهها النبي صلى الله عليه وسلم ، فلا تعودوا لأمثالها . فقوله : « عنها » أي عن المسئلة ، أو عن السؤالات كما ذكرناه . السابعة قوله تعالى : { قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ } أخبر تعالى أن قوماً من قبلنا قد سألوا آياتٍ مثلها ، فلما أعطوها وفرضت عليهم كفروا بها ، وقالوا : ليست من عند الله وذلك كسؤال قوم صالح الناقة ، وأصحاب عيسى المائدة وهذا تحذير ممّا وقع فيه من سبق من الأمم . والله أعلم . الثامنة إن قال قائل : ما ذكرتم من كراهية السّؤال والنّهي عنه ، يعارضه قوله تعالى : { فَٱسْأَلُواْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } [ النحل : 43 والأنبياء : 7 ] فالجواب أن هذا الذي أمر الله به عباده هو ما تقرّر وثبت وجوبه مما يجب عليهم العمل به ، والذي جاء فيه النهي هو ما لم يتعبد الله عباده به ولم يذكره في كتابه . والله أعلم . التاسعة روى مسلم عن عامر بن سعد عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنّ أعظم المسلمين في المسلمين جُرماً من سأل عن شيء لم يُحرَّم على المسلمين فحُرم عليهم من أجل مسئلته " ، قال القُشَيْري أبو نصر : ولو لم يسأل العَجْلاني عن الزِّنى لما ثبت اللِّعَان . قال أبو الفرج الجَوْزي : هذا محمول على من سأل عن الشيء عَنَتاً وعَبثاً فعوقب بسوء قصده بتحريم ما سأل عنه والتحريم يَعمّ . العاشرة قال علماؤنا : لا تعلق للقَدَرية بهذا الحديث في أن الله تعالى يفعل شيئاً من أجل شيء وبسببه ، تعالى الله عن ذلك فإنّ الله على كل شيء قدير ، وهو بكل شيء عليم بل السبب والداعي فعل من أفعاله ، لكن سبق القضاء والقدر أن يحرم الشيء المسئول عنه إذا وقع السؤال فيه لا أن السؤال موجب للتحريم ، وعلّة له . ومثله كثير { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } [ الأنبياء : 23 ] .