Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 55, Ayat: 1-13)
Tafsir: al-Ǧāmiʿ li-aḥkām al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { ٱلرَّحْمَـٰنُ . عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ } قال سعيد بن جبير وعامر الشَّعْبي : { ٱلرَّحْمَـٰنُ } فاتحة ثلاث سور إذا جُمعن كن ٱسماً من أسماء الله تعالى « الۤر » و « حۤم » و « نۤ » فيكون مجموع هذه { ٱلرَّحْمَـٰنُ . عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ } أي علّمه نبيّه صلى الله عليه وسلم حتى أدّاه إلى جميع الناس . وأنزلت حين قالوا : وَمَا الرَّحْمٰنُ ؟ وقيل : نزلت جواباً لأهل مكة حين قالوا : إنما يعلّمه بشر وهو رحمٰن اليمامة يعنون مسيلِمة الكذّاب ، فأنزل الله تعالى : { ٱلرَّحْمَـٰنُ } { عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ } وقال الزجاج : معنى « عَلَّمَ الْقُرْآنَ » أي سهّله لأن يُذكر ويُقرأ كما قال : { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ٱلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ } [ القمر : 17 ] وقيل : جعله علامة لما تعبد الناس به . { خَلَقَ ٱلإِنسَانَ } قال ٱبن عباس وقتادة والحسن يعني آدم عليه السلام . { عَلَّمَهُ ٱلبَيَانَ } أسماء كل شيء . وقيل : علمه اللغات كلها . وعن ٱبن عباس أيضاً وٱبن كيسان : الإنسان هاهنا يراد به محمد صلى الله عليه وسلم والبيان بيان الحلال من الحرام ، والهدى من الضلال . وقيل : ما كان وما يكون لأنه بَيّن عن الأوّلين والآخرين ويوم الدِّين . وقال الضحاك : « البيان » الخير والشر . وقال الربيع بن أنس : هو ما ينفعه وما يضره وقاله قتادة . وقيل : « الإنْسَانَ » يراد به جميع الناس فهو ٱسم للجنس و « الْبَيَانَ » على هذا الكلامُ والفهم ، وهو مما فُضّل به الإنسان على سائر الحيوان . وقال السديّ : علّم كل قوم لسانهم الذي يتكلمون به . وقال يمان : الكتابة والخط بالقلم . نظيره : { عَلَّمَ بِٱلْقَلَمِ . عَلَّمَ ٱلإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } [ العلق : 4 - 5 ] { ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ } أي يجريان بحساب معلوم فأضمر الخبر . قال ٱبن عباس وقتادة وأبو مالك : أي يجريان بحساب في منازل لا يعدوانها ولا يحيدان عنها . وقال ٱبن زيد وٱبن كيسان : يعني أن بهما تحسب الأوقات والآجال والأعمار ، ولولا الليل والنهار والشمس والقمر لم يدر أحد كيف يَحسب شيئاً لو كان الدهر كلّه ليلاً أو نهاراً . وقال السديّ : « بِحُسْبَانٍ » تقدير آجالهما أي تجري بآجال كآجال الناس ، فإذا جاء أجلهما هلكا نظيره : { كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّـى } [ الزمر : 5 ] وقال الضحاك : بقدر . مجاهد : « بِحُسْبَانٍ » كحسبان الرَّحَى يعني قطبها يدوران في مثل القطب . والحُسْبان قد يكون مصدر حَسَبته أحْسُبُه بالضم حَسْباً وحُسْباناً ، مثل الغُفْران والكُفْران والرُّجْحان ، وِحسابة أيضاً أي عددته . وقال الأخفش : ويكون جماعة الحساب مثل شِهاب وشُهبان . والحُسْبان أيضاً بالضم العذاب والسهام القصار ، وقد مضى في « الكهف » الواحدة حُسْبانة ، والحُسْبانة أيضاً الوسادة الصغيرة تقول منه : حَسَّبتُه إذا وسَّدْته قال : @ … لَثَوَيْـتَ غيـر مُحَسَّـب @@ أي غير موسَّد يعني غير مكَرَّم ولا مكَفَّن { وَٱلنَّجْمُ وَٱلشَّجَرُ يَسْجُدَانِ } قال ٱبن عباس وغيره : النجم ما لا ساق له والشجر ما له ساق ، وأنشد ٱبن عباس قول صفوان بن أسد التميمي : @ لَقَد أَنْجَمَ الْقَاعُ الكَبيرُ عِضَاهَه وتَمَّ به حيّاً تَميم ووَائلِ @@ وقال زهير بن أبي سُلْمى : @ مُكَلَّلٌ بأُصولِ النَّجْم تَنْسِجُه ريحُ الجَنوبِ لِضاحِي مائه حُبُكُ @@ واشتقاق النجم من نَجَم الشيءُ ينجُم بالضم نجوماً ظهر وطلع ، وسجودهما بسجود ظلالهما قاله الضحاك . وقال الفرّاء : سجودهما أنهما يستقبلان الشمس إذا طلعت ثم يميلان معها حتى ينكسر الفيء . وقال الزجاج : سجودهما دوران الظل معهما ، كما قال تعالى : { يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ } [ النحل : 48 ] . وقال الحسن ومجاهد : النجم نجم السماء ، وسجوده في قول مجاهد دوران ظله ، وهو ٱختيار الطبري ، حكاه المهدوي . وقيل : سجود النجم أفوله ، وسجود الشجر إمكان الاجتناء لثمرها ، حكاه الماوردي . وقيل : إن جميع ذلك مسخر لله ، فلا تعبدوا النجم كما عبد قوم من الصابئين النجوم ، وعبد كثير من العجم الشجر . والسجود الخضوع ، والمعنىّ به آثار الحدوث ، حكاه القشيري . النحاس : أصل السجود في اللغة الاستسلام والانقياد لله عز وجل ، فهو من الموات كلها ٱستسلامها لأمر الله عز وجل وٱنقيادها له ، ومن الحيوان كذلك ويكون من سجود الصلاة ، وأنشد محمد بن يزيد في النجم بمعنى النجوم قال : @ فباتَتْ تَعُدُّ النَّجْمَ في مَسْتَحيرة سَرِيعٍ بأَيْدي الآكِلينَ جُمُودُهَا @@ { وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَا } وقرأ أبو السمَّال « والسَّمَاءُ » بالرفع على الابتداء وٱختار ذلك لما عطف على الجملة التي هي : { وَٱلنَّجْمُ وَٱلشَّجَرُ يَسْجُدَانِ } فجعل المعطوف مركباً من مبتدإ وخبر كالمعطوف عليه . الباقون بالنصب على إضمار فعل يدل عليه ما بعده . { وَوَضَعَ ٱلْمِيزَانَ } أي العدل عن مجاهد وقتادة والسدي ، أي وضع في الأرض العدل الذي أمر به ، يقال : وضع الله الشريعة . ووضع فلان كذا أي ألقاه وقيل : على هذا الميزان القرآن ، لأن فيه بيان ما يحتاج إليه وهو قول الحسين بن الفضل . وقال الحسن وقتادة أيضاً والضحاك : هو الميزان ذو اللسان الذي يوزن به لينتصف به الناس بعضهم من بعض ، وهو خبر بمعنى الأمر بالعدل ، يدل عليه قوله تعالى : { وَأَقِيمُواْ ٱلْوَزْنَ بِٱلْقِسْطِ } والقسط العدل . وقيل : هو الحكم . وقيل : أراد وضع الميزان في الآخرة لوزن الأعمال . وأصل مِيزان مِوزان وقد مضى في « الأعراف » القول فيه . { أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي ٱلْمِيزَانِ } موضع « أَنْ » يجوز أن يكون نصباً على تقدير حذف حرف الجرّ كأنه قال : لئلا تطغوا كقوله تعالى : { يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ } [ النساء : 176 ] ويجوز ألا يكون لـ « أن » موضع من الإعراب فتكون بمعنى أي و « تَطْغَوْا » على هذا التقدير مجزوماً كقوله تعالى : { وَٱنطَلَقَ ٱلْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ ٱمْشُواْ } أي امشوا . والطغيان مجاوزة الحدّ . فمن قال : الميزان العدل قال طغيانه الجور . ومن قال : إنه الميزان الذي يوزن به قال طغيانه البخس . قال ٱبن عباس : أي لا تخونوا من وزنتم له . وعنه أنه قال : يا معشر الموالي ! وليتم أمرين بهما هلك الناس : المكيال والميزان . ومن قال إنه الحُكْم قال : طغيانه التحريف . وقيل : فيه إضمار أي وضع الميزان وأمركم ألا تَطْغَوْا فيه . { وَأَقِيمُواْ ٱلْوَزْنَ بِٱلْقِسْطِ } أي ٱفعلوه مستقيماً بالعدل . وقال أبو الدرداء رضي الله عنه : أقيموا لسان الميزان بالقسط والعدل . وقال ٱبن عيينة : الإقامة باليد والقسط بالقلب . وقال مجاهد : القسط العدل بالرومية . وقيل : هو كقولك أقام الصلاة أي أتى بها في وقتها ، وأقام الناس أسواقهم أي أتوها لوقتها . أي لا تدعوا التعامل بالوزن بالعدل . { وَلاَ تُخْسِرُواْ ٱلْمِيزَانَ } ولا تنقصوا الميزان ولا تبخسوا الكيل والوزن ، وهذا كقوله : { وَلاَ تَنقُصُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ } [ هود : 84 ] وقال قتادة في هذه الآية : ٱعدل يا بن آدم كما تحبّ أن يُعدَل لك ، وأوف كما تحبّ أن يُوفّى لك فإن العدل صلاح الناس . وقيل : المعنى ولا تخسروا ميزان حسناتكم يوم القيامة فيكون ذلك حسرة عليكم . وكرر الميزان لحال رؤوس الآي . وقيل : التكرير للأمر بإيفاء الوزن ورعاية العدل فيه . وقراءة العامة « تُخْسِرُوا » بضم التاء وكسر السين . وقرأ بلال بن أبي بُرْدة وأبان عن عثمان « تَخْسَرُوا » بفتح التاء والسين وهما لغتان ، يقال : أخسرت الميزان وخسرته كأجبرته وجبرته . وقيل : « تَخْسَرُوا » بفتح التاء والسين محمول على تقدير حذف حرف الجرّ والمعنى ولا تخسروا في الميزان . { وَٱلأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ } الأنام الناس عن ٱبن عباس . الحسن : الجنّ والإنس . الضحاك : كل ما دبّ على وجه الأرض ، وهذا عام . { فِيهَا فَاكِهَةٌ } أي كل ما يتفكه به الإِنسان من ألوان الثمار . { وَٱلنَّخْلُ ذَاتُ ٱلأَكْمَامِ } الأكمام جمع كِمٍّ بالكسر . قال الجوهري : والكِمَّة بالكسر والكِمَامة وعاء الطلع وغِطاء النَّوْر والجمع كِمَام وأَكِمَّة وأَكْمَام والأكاميم أيضاً . وكُمَّ الفصيلُ إذا أُشفق عليه فَسُتِر حتى يَقْوَى قال العجاج : @ بَلْ لَوْ شَهِدْتَ الناسَ إذْ تُكُمُّوا بغُمَّةٍ لَوْ لَمْ تُفَرَّجْ غُمُّوا @@ وتُكُمُّوا أي أغمي عليهم وغُطُّوا . وأَكَمَّت النَّخلةُ وكَمَّمت أي أخرجت أكمامها . والكِمَام بالكسر والكِمَامة أيضاً ما يُكَمّ به فم البعير لئلا يَعضّ تقول منه : بعير مكموم أي مَحْجوم . وكَمَّمت الشيء غّطيته . والكَمُّ ما ستر شيئاً وغطّاه ومنه كُمُّ القميص بالضم والجمع أَكْمَام وكممة ، مثل حُبّ وحِبَبَة . والكُمَّة القَلَنْسوة المدوَّرة لأنها تغطِّي الرأس . قال : @ فقلتُ لهمْ كِيلو بكُمَّةِ بعضِكُمْ دَرَاهمَكُمْ إنِّي كذلك أَكْيَلُ @@ قال الحسن : { ذَاتُ ٱلأَكْمَامِ } أي ذات الليف فإن النخلة قد تُكَمّم بالليف ، وكِمَامها ليفها الذي في أعناقها . ٱبن زيد : ذات الطلع قبل أن يتفتق . وقال عكرمة : ذات الأحمال . { وَٱلْحَبُّ ذُو ٱلْعَصْفِ وَٱلرَّيْحَانُ } الحبّ الحِنطة والشعير ونحوهما والعصف التِّبْن عن الحسن وغيره . مجاهد : ورق الشجر والزرع . ٱبن عباس : تِبْن الزرع وورقه الذي تَعصِفه الرياح . سعيد بن جبير : بَقْل الزرع أي أوّل ما ينبت منه وقاله الفرّاء . والعرب تقول : خرجنا نَعصِف الزرع إذا قطعوا منه قبل أن يُدرِك . وكذا في الصحاح : وعَصَفتُ الزَّرعَ أي جززته قبل أن يُدرِك . وعن ٱبن عباس أيضاً : العصف ورق الزرع الأخضر إذا قطع رؤوسه ويبس نظيره : { فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ } [ الفيل : 6 ] الجوهري : وقد أَعصفَ الزرعُ ، ومكان مُعْصِف أي كثير الزرع . قال أبو قيس بن الأَسْلت الأنصاريّ : @ إذا جُمَادَى مَنَعَتْ قَطْرَهَا زَانَ جَنَابِي عَطَنٌ مُعْصِفُ @@ والعَصْف أيضاً الكَسْب ومنه قول الراجز : @ بغيـرِ مـا عَصْـفٍ ولا ٱصْطِـرَافِ @@ وكذلك الاعتصاف . والعَصِيفة الورق المجتمع الذي يكون فيه السُّنْبل . وقال الهرويّ : والعصف والعَصِيفة ورق السُّنْبل . وحكى الثعلبي : وقال ٱبن السِّكِّيت تقول العرب لورق الزرع العصف والعَصِيفة والجِلُّ بكسر الجيم . قال عَلْقَمة بن عَبَدة : @ تَسْقِي مَذَانِبَ قد مَالتْ عَصِيفَتُهَا حَدُورُها من أَتِيِّ الماءِ مَطْمُومُ @@ وفي الصحاح : والجِلُّ بالكسر قصب الزرع إذا حُصِد . والريحان الرزق عن ٱبن عباس ومجاهد . الضحاك : هي لغة حِمْير . وعن ٱبن عباس أيضاً والضحاك وقتادة : أنه الريحان الذي يشمّ ، وقاله ٱبن زيد . وعن ٱبن عباس أيضاً : أنه خضرة الزرع . وقال سعيد بن جبير : هو ما قام على ساق . وقال الفراء : العصف المأكول من الزرع ، والريحان ما لا يؤكل . وقال الكلبي : إن العصف الورق الذي لا يؤكل ، والريحان هو الحبّ المأكول . وقيل : الريحان كل بقلة طيبة الريح سميت رَيْحاناً لأن الإنسان يَراحُ لها رائحةً طيبة . أي يشمّ فهو فَعْلان رَوْحان من الرائحة وأصل الياء في الكلمة واو قلب ياء للفرق بينه وبين الرُّوحانيّ وهو كل شيء له رُوح . قال ٱبن الأعرابي : يقال شيء رُوحاني ورُيحاني أي له روح . ويجوز أن يكون على وزن فَيْعَلان فأصله رَيْوَحان فأبدل من الواو ياء وأدغم كهَيِّن ولَيِّن ، ثم ألزم التخفيف لطوله ولحاق الزائدتين الألفِ والنونِ ، والأصل فيما يتركب من الراء والواو والحاء الاهتزاز والحركة . وفي الصحاح : والرَّيحان نبت معروف والريحان الرزق تقول : خرجت أبتغي رَيْحَان اللَّهِ قال النَّمِرُ بن تَوْلَب : @ سلامُ الإلٰهِ ورَيْحَانُهُ ورَحْمَتُهُ وسَمَاءٌ دِرَرْ @@ وفي الحديث : " الولد من ريحان الله " وقولهم : سبحانَ الله وريحانه ، نصبوهما على المصدر يريدون تنزيهاً له وٱسترزاقاً . وأما قوله : { وَٱلْحَبُّ ذُو ٱلْعَصْفِ وَٱلرَّيْحَانُ } فالعصف ساق الزرع ، والريحان ورقه عن الفرّاء . وقراءة العامة { وَٱلْحَبُّ ذُو ٱلْعَصْفِ وَٱلرَّيْحَانُ } بالرفع فيها كلها على العطف على الفاكهة . ونصبها كلها ٱبن عامر وأبو حيوة والمغيرة عطفاً على الأرض . وقيل : بإضمار فعل ، أي وخلق الحبّ ذا العصف والريحان فمن هذا الوجه يحسن الوقف على « ذَاتُ الأَكْمَامِ » . وجرّ حمزة والكسائي « الريحان » عطفاً على العصف أي فيها الحب ذو العصفِ والريحانِ ، ولا يمتنع ذلك على قول من جعل الريحان الرزق ، فيكون كأنه قال : والحب ذو الرزق . والرزق من حيث كان العصف رزقاً لأن العصف رزق للبهائم ، والريحان رزق للناس ، ولا شبهة فيه في قول من قال إنه الريحان المشموم . قوله تعالى : { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } خطاب للإنس والجنّ لأن الأنام واقع عليهما . وهذا قول الجمهور ، يدل عليه حديث جابر المذكور أول السورة ، وخرجه الترمذي وفيه « لَلْجِنُّ أحسنُ منكم ردًّا » . وقيل : لما قال : { خَلَقَ ٱلإِنسَانَ } و { وَخَلَقَ ٱلْجَآنَّ } دل ذلك على أن ما تقدّم وما تأخر لهما . وأيضاً قال : { سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا ٱلثَّقَلاَنِ } وهو خطاب للإنس والجنّ وقد قال في هذه السورة : { يَامَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ } . وقال الجرجاني : خاطب الجنّ مع الإنس وإن لم يتقدّم للجنّ ذكر كقوله تعالى : { حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِٱلْحِجَابِ } [ ص : 32 ] وقد سبق ذكر الجنّ فيما سبق نزوله من القرآن ، والقرآن كالسورة الواحدة فإذا ثبت أنهم مكلّفون كالإنس خوطب الجنسان بهذه الآيات . وقيل : الخطاب للإنس على عادة العرب في الخطاب للواحد بلفظ التثنية حسب ما تقدّم من القول في { أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ } [ ق : 24 ] وكذلك قوله : @ قِفَا نَبْكِ … @@ و @ خَلِيلَيَّ مُرَّابِي … @@ فأما ما بَعْدَ { خَلَقَ ٱلإِنسَانَ } و { وَخَلَقَ ٱلْجَآنَّ } فإنه خطاب للإنس والجنّ ، والصحيح قول الجمهور لقوله تعالى : { وَٱلأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ } والآلاء النعم ، وهو قول جميع المفسرين ، واحدها إِلىً وألىً مثل مِعًى وعصاً ، وإِلْيٌ وأَلْيٌ أربع لغات حكاها النحاس قال : وفي واحد { آنَآءِ ٱلْلَّيْلِ } ثلاث تسقط منها المفتوحة الألف المسكنة اللام ، وقد مضى في « الأعراف » و « النجم » . وقال ٱبن زيد : إنها القدرة وتقدير الكلام فبأيّ قدرة ربكما تكذّبان وقاله الكلبي وٱختاره الترمذيّ محمد بن علي ، وقال : هذه السورة من بين السور عَلَم القرآن ، والعَلَم إمام الجند والجند تتبعه ، وإنما صارت عَلَماً لأنها سورة صفة الملك والقدرة فقال : { ٱلرَّحْمَـٰنُ } { عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ } فٱفتتح السورة بٱسم الرحمن من بين الأسماء ليعلم العباد أن جميع ما يصفه بعد هذا من أفعاله ومن ملكه وقدرته خرج إليهم من الرحمة العظمى من رحمانيته فقال : { ٱلرَّحْمَـٰنُ } { عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ } ثم ذكر الإنسان فقال : « خَلَقَ الإِنْسَانَ » ثم ذكر ما صنع به وما منّ عليه به ، ثم ذكر حسبان الشمس والقمر وسجود الأشياء مما نَجَم وشَجَر ، وذكر رفع السماء ووضع الميزان وهو العدل ، ووضع الأرض للأنام فخاطب هذين الثقلين الجنّ والإنس حين رأوا ما خرج من القدرة والملك برحمانيته التي رحمهم بها من غير منفعة ولا حاجة إلى ذلك ، فأشركوا به الأوثان وكل معبود ٱتخذوه من دونه ، وجحدوا الرحمة التي خرجت هذه الأشياء بها إليهم ، فقال سائلاً لهم : { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي بأيّ قدرة ربكما تكذبان ، فإنما كان تكذيبهم أنهم جعلوا له في هذه الأشياء التي خرجت من ملكه وقدرته شريكاً يملك معه ويقدر معه ، فذلك تكذيبهم . ثم ذكر خلق الإنسان من صلصال ، وذكر خلق الجانّ من مارج من نار ، ثم سألهم فقال : { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي بأيّ قدرة ربّكما تكذبان فإن له في كل خلق بعد خلق قدرة بعد قدرة فالتكرير في هذه الآيات للتأكيد والمبالغة في التقرير ، وٱتخاذ الحجة عليهم بما وقفهم على خلقٍ خلقٍ . وقال القُتَبيّ : إن الله تعالى عدّد في هذه السورة نعماءه ، وذكّر خلقه آلاءه ، ثم أتبع كل خَلَّة وصفها ونعمة وضعها بهذه ، وجعلها فاصلة بين كل نعمتين لينبههم على النعم ويقررهم بها كما تقول لمن تتابع فيه إحسانك وهو يكفره وينكره : ألم تكن فقيراً فأغنيتك أفتنكر هذا ؟ ! ألم تكن خاملاً فعززتك أفتنكر هذا ؟ ! ألم تكن صَرُورة فحججت بك أفتنكر هذا ؟ ! ألم تكن راجلاً فحملتك أفتنكر هذا ؟ ! والتكرير حَسن في مثل هذا . قال : @ كَمْ نِعْمَةٍ كانتْ لَكُمْ كَمْ كَمْ وَكَمْ @@ وقال : @ لا تَقْتُلِي مُسْلِماً إنْ كنتِ مُسْلِمَةً إيّاكِ مِنْ دَمِهِ إيَّاكِ إيَّاكِ @@ وقال آخر : @ لا تَقطعنَّ الصديقَ ما طَرَفتْ عيناكَ من قول كاشح أشِرِ ولا تمَلَّنَّ من زيارته زُرْهُ وزُرْهُ وزُرْ وزُرْ وزُرِ @@ وقال الحسين بن الفضل : التكرير طرداً للغفلة ، وتأكيداً للحجة .