Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 59, Ayat: 9-9)

Tafsir: al-Ǧāmiʿ li-aḥkām al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

فيه إحدى عشرة مسألة : الأولى قوله تعالى : { وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ وَٱلإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ } لا خلاف أن الذين تبوَّءوا الدار هم الأنصار الذين استوطنوا المدينة قبل المهاجرين إليها . « وَالإْيمَانَ » نصب بفعل غير تبوّأ لأن التبوّء إنما يكون في الأماكن . و { مِن قَبْلِهِمْ } « مِنْ » صلة تبوّأ والمعنى : والذين تبوّءوا الدار من قبل المهاجرين واعتقدوا الإيمان وأخلصوه لإن الإيمان ليس بمكان يتبوّأ ، كقوله تعالى : { فَأَجْمِعُوۤاْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ } [ يونس : 71 ] أي وادعوا شركاءهم ذكره أبو عليّ والزمخشريّ وغيرهما . ويكون من باب قوله : عَلَفْتُهَا تِبناً وماءً بارداً . ويجوز حمله على حذف المضاف كأنه قال : تبوّءوا الدار ومواضع الإيمان . ويجوز حمله على ما دل عليه تبوّأ كأنه قال : لزموا الدار ولزموا الإيمان فلم يفارقوهما . ويجوز أن يكون تبوّأ الإيمان على طريق المثل كما تقول : تبوّأ من بني فلان الصميم . والتبوُّء : التمكن والاستقرار . وليس يريد أن الأنصار آمنوا قبل المهاجرين ، بل أراد آمنوا قبل هجرة النبيّ صلى الله عليه وسلم إليهم . الثانية ـ : واختلف أيضاً هل هذه الآية مقطوعة مما قبلها أو معطوفة فتأوّل قوم أنها معطوفة على قوله : { لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ } وأن الآيات التي في الحشر كلها معطوفة بعضها على بعض . ولو تأملوا ذلك وأنصفوا لوجدوه على خلاف ما ذهبوا إليه لأن الله تعالى يقول : { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَخْرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ ٱلْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ } إلى قوله { ٱلْفَاسِقِينَ } فأخبر عن بني النضير وبني قَيْنُقاع . ثم قال : { وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ } فأخبر أن ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم لأنه لم يُوجف عليه حين خَلّوه . وما تقدم فيهم من القتال وقطع شجرهم فقد كانوا رجعوا عنه وانقطع ذلك الأمر . ثم قال : { مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ } وهذا كلام غير معطوف على الأول . وكذا { وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ وَٱلإِيمَانَ } ابتداء كلام في مدح الأنصار والثناء عليهم فإنهم سلّموا ذلك الفيء للمهاجرين وكأنه قال : الفيء للفقراء المهاجرين ، والانصار يحبون لهم لم يحسدوهم على ما صفا لهم من الفيء . وكذا . { وَٱلَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ } ابتداء كلام والخبر { يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا } . وقال إسماعيل ابن إسحاق : إن قوله { وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ } { وَٱلَّذِينَ جَآءُوا } معطوف على ما قبل ، وأنهم شركاء في الفيء أي هذا المال للمهاجرين والذين تبوّءوا الدار . وقال مالك بن أوس : قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذه الآية { إِنَّمَا ٱلصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ } [ التوبة : 60 ] فقال : هذه لهؤلاء . ثم قرأ { وَٱعْلَمُوۤا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ } [ الأنفال : 41 ] فقال : هذه لهؤلاء . ثم قرأ { وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ } حتى بلغ { لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ } ، { وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ وَٱلإِيمَانَ } { وَٱلَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ } ثم قال : لئن عشت ليأتين الراعي وهو بَسَرْوِ حمير نصيبه منها لم يَعْرَق فيها جبينه . وقيل : إنه دعا المهاجرين والأنصار واستشارهم فيما فتح الله عليه من ذلك ، وقال لهم : تثبتوا الأمر وتدبروه ثم اغدوا عليّ . ففكر في ليلته فتبين له أن هذه الآيات في ذلك أنزلت . فلما غدَوْا عليه قال : قد مررت البارحة بالآيات التي في سورة « الحشر » وتلا { مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ } إلى قوله { لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ } فلما بلغ قوله : { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ } قال : ما هي لهؤلاء فقط . وتلا قوله : { وَٱلَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ } إلى قوله { رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } . ثم قال : ما بقي أحد من أهل الإسلام إلا وقد دخل في ذلك . والله أعلم . الثالثة ـ : روى مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر قال : لولا من يأتي من آخر الناس ما فُتحت قريةٌ إلا قسمتها كما قسم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خَيبر . وفي الروايات المستفيضة من الطرق الكثيرة : أن عمر أبقى سواد العراق ومصر وما ظهر عليه من الغنائم لتكون من أعطيات المقاتلة وأرزاق الحِشْوة والذَّراري ، وأن الزبير وبلالاً وغير واحد من الصحابة أرادوه على قسم ما فتح عليهم فكره ذلك منهم واختلف فيما فعل من ذلك فقيل : إنه استطاب أنفس أهل الجيش فمن رضي له بترك حَظه بغير ثمن ليُبقيه للمسلمين قلة . ومن أبى أعطاه ثمن حظه . فمن قال : إنما أبقى الأرض بعد استطابة أنفس القوم جعل فعله كفعل النبي صلى الله عليه وسلم لأنه قسم خَيبر ، لأن اشتراءه إياها وترك من ترك عن طيب نفسه بمنزلة قسمها . وقيل : إنه أبقاها بغير شيء أعطاه أهل الجيوش . وقيل : إنه تأول في ذلك قول الله سبحانه وتعالى : { لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ } إلى قوله { رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } على ما تقدم . والله أعلم . الرابعة ـ : واختلف العلماء في قسمة العقار فقال مالك : للإمام أن يوقفها لمصالح المسلمين . وقال أبو حنيفة الإمام مخير بين أن يقسمها أو يجعلها وقفاً لمصالح المسلمين وقال الشافعيّ : ليس للإمام حبسها عنهم بغير رضاهم ، بل يقسمها عليهم كسائر الأموال . فمن طاب نفساً عن حقه للإمام أن يجعله وقْفاً عليهم فله . ومن لم تَطِب نفسُه فهو أحق بماله . وعمر رضي الله عنه استطاب نفوس الغانمين واشتراها منهم . قلت : وعلى هذا يكون قوله : { وَٱلَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ } مقطوعاً مما قبله ، وأنهم نُدبوا بالدعاء للأولين والثناء عليهم . الخامسة ـ : قال ابن وهب : سمعت مالكاً يذكر فضل المدينة على غيرها من الآفاق فقال : إن المدينة تُبُوِّئت بالإيمان والهجرة ، وإن غيرها من القُرى افتتِحت بالسيف ثم قرأ { وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ وَٱلإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } الآية . وقد مضى الكلام في هذا ، وفي فضل الصلاة في المسجدين : المسجد الحرام ومسجد المدينة فلا معنى للإعادة . السادسة ـ : قوله تعالى : { وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ } يعني لا يحسدون المهاجرين على ما خصوا به من مال الفيء وغيره كذلك قال الناس . وفيه تقدير حذف مضافين المعنى مَسَّ حاجةٍ من فَقد ما أوتوا . وكل ما يجد الإنسان في صدره مما يحتاج إلى إزالته فهو حاجة . وكان المهاجرون في دور الأنصار : فلما غَنم عليه الصلاة والسلام أموال بني النضير ، دعا الأنصار وشكرهم فيما صنعوا مع المهاجرين في إنزالهم إياهم في منازلهم ، وإشراكهم في أموالهم . ثم قال : " « إن أحببتم قسمت ما أفاء الله عليّ من بني النضير بينكم وبينهم ، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم وأموالكم وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دوركم » . فقال سعد بن عُبادة وسعد بن معاذ : بل نقسمه بين المهاجرين ، ويكونون في دورنا كما كانوا . ونادت الأنصار : رضينا وسلمنا يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار » " وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرين ولم يعط الأنصار شيئاً إلا الثلاثة الذين ذكرناهم . ويحتمل أن يريد به { وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ } إذا كان قليلاً بل يقنعون به ويرضون عنه . وقد كانوا على هذه الحالة حين حياة النبي صلى الله عليه وسلم دُنْيَا ، ثم كانوا عليه بعد موته صلى الله عليه وسلم بحكم الدنيا . وقد أنذرهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال : " سترون بعدي أَثَرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض " السابعة ـ : قوله تعالى : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } في الترمذي عن أبي هريرة : أن رجلاً بات به ضيف فلم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه فقال لامرأته : نَوِّمي الصِّبية وأطفئي السراج وقَرّبي للضيف ما عندك فنزلت هذه الآية { وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } قال : هذا حديث حسن صحيح . خرجه مسلم أيضاً . " وخرّج عن أبي هريرة قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني مجهود . فأرسل إلى بعض نسائه فقالت : والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء . ثم أرسل إلى الأخرى فقالت مثل ذلك حتى قلن كلُّهن مثل ذلك : لا والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء . فقال : من يُضيف هذا الليلة رحمه الله . ؟ فقام رجل من الأنصار فقال : أنا يا رسول الله . فانطلق به إلى رحله فقال لامرأته : هل عندك شيء ؟ قالت : لا ، إلا قوت صبياني . قال : فعلّلِيهم بشيء فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج وأريه أنا نأكل فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السراج حتى تطفئيه . قال : فقعدوا وأكل الضيف . فلما أصبح غدا على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : « قد عجِبَ الله عز وجل من صنيعكما بضيفكما الليلة » " وفي رواية عن أبي هريرة قال : " جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضيفه فلم يكن عنده ما يضيفه . فقال : « ألا رجل يضيف هذا رحمه الله ؟ » فقام رجل من الأنصار يقال له أبو طلحة . فانطلق به إلى رحله " … وساق الحديث بنحو الذي قبله ، وذكر فيه نزول الآية . وذكر المهدويّ عن أبي هريرة أن هذا نزل في ثابت بن قيس ورجل من الأنصار نزل به ثابت يقال له أبو المتوكل ، فلم يكن عند أبي المتوكل إلا قوته وقوت صبيانه فقال لامرأته : أطفئي السراج ونوّمي الصبية وقَدّم ما كان عنده إلى ضيفه . وكذا ذكر النحاس قال : قال أبو هريرة : نزل برجل من الأنصار يقال له أبو المتوكل ثابت بن قيس ضيفاً ، ولم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه فقال لامرأته : أطفئي السراج ونوّمي الصبية فنزلت { وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } إلى قوله { فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } . وقيل : إن فاعل ذلك أبو طلحة . وذكر القشيري أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم : وقال ابن عمر : أهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة فقال إن أخي فلاناً وعياله أحوج إلى هذا منّا فبعثه إليهم ، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى تداولها سبعة أبيات ، حتى رجعت إلى أولئك فنزلت { وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ } . ذكره الثعلبيّ عن أنس قال : أهْدِىَ لرجل من الصحابة رأس شاة وكان مجهوداً فوجّه به إلى جار له ، فتداولته سبعة أنفس في سبعة أبيات ، ثم عاد إلى الأول فنزلت : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ } الآية . وقال ابن عباس : " قال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار يوم بني النضير : « إن شئتم قسمت للمهاجرين من دياركم وأموالكم وشاركتموهم في هذه الغنيمة وان شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم نقسم لكم من الغنيمة شيئاً » فقالت الأنصار : بل نقسم لإخواننا من ديارنا وأموالنا ونؤثرهم بالغنيمة فنزلت { وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ } " الآية . والأول أصح . وفي الصحيحين عن أنس : أن الرجل كان يجعل للنبيّ صلى الله عليه وسلم النخلات من أرضه حتى فُتحت عليه قريظة والنضير ، فجعل بعد ذلك يرد عليه ما كان أعطاه . لفظ مسلم . وقال الزهري عن أنس بن مالك : لما قدم المهاجرون من مكة إلى المدينة قدموا وليس بأيديهم شيء ، وكان الأنصار أهل الأرض والعقار ، فقاسمهم الأنصار على أن أعطوهم أنصاف ثمار أموالهم كل عام ويكفونهم العمل والمؤونة وكانت أمّ أنس بن مالك تُدعى أم سُلَيم ، وكانت أم عبد الله بن أبي طلحة ، كان أخا لأنس لأمه وكانت أعطت أم أنس رسول الله صلى الله عليه وسلم عِذاقاً لها فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أيمن مولاته ، أم اسامة بن زيد . قال ابن شهاب : فأخبرني أنس بن مالك : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من قتال أهل خيبر وانصرف إلى المدينة ، رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم التي كانوا منحوهم من ثمارهم . قال : فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمي عِذاقها ، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أيمن مكانهن من حائطه . خرجّه مسلم أيضاً . الثامنة الإيثار : هو تقديم الغير على النفس وحظوظها الدنياوية ، ورغبة في الحظوظ الدينية . وذلك ينشأ عن قوة اليقين ، وتوكيد المحبة ، والصبر على المشقة . يقال : آثرته بكذا أي خصصته به وفضّلته . ومفعول الإيثار محذوف أي يؤثرونهم على أنفسهم بأموالهم ومنازلهم ، لا عن غنى بل مع احتياجهم إليها حسب ما تقدم بيانه . وفي موطأ مالك : « أنه بلغه عن عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم ، أن مسكيناً سألها وهي صائمة وليس في بيتها إلا رغيف فقالت لمولاة لها : أعطيه إياه فقالت : ليس لك ما تفطرين عليه ؟ فقالت : أعطيه إياه . قالت : ففعلت . قالت : فلما أمسينا أهدى لنا أهل بيت أو إنسان ما كان يُهدى لنا : شاةً وكفنها . فدعتني عائشة فقالت : كلي من هذا ، فهذا خير من قرصك . قال علماؤنا : هذا من المال الرابح ، والفعل الزاكي عند الله تعالى يعجّل منه ما يشاء ، ولا ينقص ذلك مما يدخر عنه . ومن ترك شيئاً لله لم يجد فَقْدَه . وعائشة رضي الله عنها في فعلها هذا من الذين أثنى الله عليهم بأنهم يؤثرون على أنفسهم مع ما هم فيه من الخصاصة ، وأن من فعل ذلك فقد وقى شُحّ نفسه وأفلح فلاحاً لا خسارة بعده . ومعنى شاة وكَفَنَها فإن العرب أو بعض العرب أو بعض وجوههم كان هذا من طعامهم ، يأتون إلى الشاة أو الخروف إذا سلخوه غَطّوه كله بعجين البُرِّ وكفنوه به ثم علقوه في التنور ، فلا يخرج من ودكه شيء إلا في ذلك الكفن وذلك من طيب الطعام عندهم . وروى النسائي عن نافع أن ابن عمر اشتكى واشتهى عنباً ، فاشترى له عنقود بدرهم ، فجاء مسكين فسأل فقال : أعطوه إياه فخالف إنسان فاشتراه بدرهم ، ثم جاء به إلى ابن عمر ، فجاء المسكين فسأل فقال : أعطوه إياه ثم خالف إنسان فاشتراه بدرهم ، ثم جاء به إليه فأراد السائل أن يرجع فمنع . ولو علم ابن عمر أنه ذلك العنقود ما ذاقه لأن ما خرج لله لا يعود فيه . وذكر ابن المبارك قال : أخبرنا محمد بن مطرّف قال : حدثنا أبو حازم عن عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع عن مالك الدار : أن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه أخذ أربعمائة دينار ، فجعلها في صرة ثم قال للغلام : اذهب بها إلى أبي عُبيدة بن الجرّاح ، ثم تَلَكَّأ ساعة في البيت حتى تنظر ماذا يصنع بها . فذهب بها الغلام إليه فقال : يقول لك أمير المؤمنين : اجعل هذه في بعض حاجتك فقال : وَصَلَه الله ورَحمه ، ثم قال : تعالي يا جارية ، اذهبي بهذه السبعة إلى فلان ، وبهذه الخمسة إلى فلان حتى أنفذها . فرجع الغلام إلى عمر ، فأخبره فوجده قد أعدّ مثلها لمعاذ بن جبل وقال : اذهب بهذا إلى معاذ بن جبل وتَلَكأ في البيت ساعة حتى تنظر ماذا يصنع ، فذهب بها إليه فقال : يقول لك أمير المؤمنين : اجعل هذه في بعض حاجتك ، فقال : رحمه الله ووَصَله ، وقال : يا جارية ، اذهبي إلى بيت فلان بكذا وبيت فلان بكذا ، فاطلعت امرأة معاذ فقالت : ونحن ! والله مساكين فأعطنا . ولم يبق في الخرقة إلا ديناران قد جاء بهما إليها . فرجع الغلام إلى عمر فأخبره فسُرّ بذلك عمر وقال : إنهم إخوة ! بعضهم من بعض . ونحوه عن عائشة رضي الله عنها في إعطاء معاوية إياها ، وكان عشرة آلاف وكان المُنْكَدِر دخل عليها . فإن قيل : وردت أخبار صحيحة في النهي عن التصدق بجميع ما يملكه المرء ، قيل له : إنما كره ذلك في حق من لا يوثق منه الصبر على الفقر ، وخاف أن يتعرض للمسألة إذا فقد ما ينفقه . فأما الأنصار الذين أثنى الله عليهم بالإيثار على أنفسهم ، فلم يكونوا بهذه الصفة ، بل كانوا كما قال الله تعالى : { وَٱلصَّابِرِينَ فِي ٱلْبَأْسَآءِ وٱلضَّرَّاءِ وَحِينَ ٱلْبَأْسِ } [ البقرة : 177 ] . وكان الإيثار فيهم أفضل من الإمساك . والإمساك لمن لا يصبر . ويتعرض للمسألة أولى من الإيثار . وروي أنّ رجلاً " جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بمثل البيضة من الذهب فقال : هذه صدقة ، فرماه بها وقال : « يأتي أحدكم بجميع ما يملكه فيتصدّق به ثم يقعد يتكفف الناس » " والله أعلم . التاسعة : والإيثار بالنفس فوق الإيثار بالمال وإن عاد إلى النفس . ومن الأمثال السائرة : @ والجُـودُ بالنَّفْس أقصَى غايـة الجُـودِ @@ ومن عبارات الصوفية الرشيقة في حدّ المحبة : أنها الإيثار ، ألا ترى أن امرأة العزيز لمّا تناهت في حُبّها ليوسف عليه السلام ، آثرته على نفسها فقالت : أنا راودته عن نفسه . وأفضل الجود بالنفس الجودُ على حماية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ففي الصحيح : أن أبا طَلْحة ترَسّ على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أُحُد ، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتطلّع ليرى القوم . فيقول له أبو طلحة : لا تُشرِف يا رسول الله ! لا يصيبونك ! نَحْرِي دون نحرك ! ووَقى بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم فشُلّت . وقال حُذيفة العدوِيّ : انطلقت يوم اليَرْمُوك أطلب ابن عم لي ومعي شيء من الماء وأنا أقول : إن كان به رَمقٌ سقيته ، فإذا أنا به ، فقلت له : أسقيك ، فأشار برأسه أنْ نَعم ، فإذا أنا برجل يقول : آه ! آه ! فأشار إليَّ ابن عمي أن انطلق إليه ، فإذا هو هشام بن العاص فقلت : أسقيك ؟ فأشار أن نعم . فسمع آخر يقول : آه ! آه ! فأشار هشام أن انطلق إليه فجئته فإذا هو قد مات . فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات . فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو مات . وقال أبو يزيد البِسْطَامِيّ : ما غَلَبني أحدٌ ما غلبني شابٌّ من أهل بَلْخ ! قدِم علينا حاجاً فقال لي : يا أبا يزيد ، ما حَدُّ الزهد عندكم ؟ فقلت : إنْ وَجَدْنا أكلنا . وإن فقدنا صبرنا . فقال : هكذا كلاب بَلْخ عندنا . فقلت : وما حَدّ الزهد عندكم ؟ قال : إن فقدنا شكرنا ، وإن وجدنا آثرنا . وسُئل ذو النُّون المصري : ما حَدُّ الزاهد المنشرح صدره ؟ قال ثلاث : تفريق المجموع ، وترك طلب المفقود ، والإيثار عند القوت . وحكي عن أبي الحسن الأنطاكي : أنه اجتمع عنده نيّف وثلاثون رجلاً بقرية من قُرَى الرَّيّ ، ومعهم أرغفة معدودة لا تُشبع جميعهم ، فكسروا الرغفان وأطفئوا السراج وجلسوا للطعام فلما رُفع فإذا الطعام بحاله لم يأكل منه أحد شيئاً إيثاراً لصاحبه على نفسه . العاشرة ـ : قوله تعالى : { وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } الخصاصة : الحاجة التي تختلّ بها الحال . وأصلها من الاختصاص وهو انفراد بالأمر . فالخصاصة الإنفراد بالحاجة أي ولو كان بهم فاقة وحاجة . ومنه قول الشاعر : @ أمّا الربيع إذا تكون خصاصةٌ عاش السقيم به وأَثْرَى الْمُقْترُ @@ الحادية عشرة قوله تعالى : { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } الشُّحّ والبُخْلُ سواء يقال : رجل شحيح بَيّن الشُّحّ والشَّح والشّحاحة . قال عمرو بن كلثوم : @ ترى اللَّحِزَ الشّحيحَ إذا أُمِرّتْ عليه لِمالِه فيها مُهِينا @@ وجعل بعض أهل اللغة الشُّحّ أشدّ من البخل . وفي الصحاح : الشّحُّ البخلُ مع حِرص تقول : شَحِحت بالكسر تَشَحّ . وشَحَحْتَ أيضاً تَشُحّ وتَشِحّ . ورجل شحيح ، وقومٌ شِحاح وأشِحّة . والمراد بالآية : الشّحُّ بالزكاة وما ليس بفرض من صلة ذوي الأرحام والضيافة ، وما شاكل ذلك . فليس بشحيح ولا بخيل من أنفق في ذلك وإن أمسك عن نفسه . ومن وَسّع على نفسه ولم ينفق فيما ذكرناه من الزكوات والطاعات فلم يُوقَ شُحَّ نفسه . وروى الأسْودُ عن ابن مسعود أن رجلا أتاه فقال له : إني أخاف أن أكون قد هلكت ؟ قال : وما ذاك ؟ قال : سمعت الله عز وجل يقول : { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } وأنا رجل شحيح لا أكاد أن أُخرج من يدي شيئاً . فقال ابن مسعود : ليس ذلك بالشُّح الذي ذكره الله تعالى في القرآن ، إنما الشّح الذي ذكره الله تعالى في القرآن أن تأكل مال أخيك ظلماً ، ولكنّ ذلك البخل ، وبئس الشَّيء البخل . ففرّق رضي الله عنه بين الشح والبخل . وقال طاوس : البخل أن يبخل الإنسان بما في يده ، والشّح أن يَشِح بما في أيدي الناس ، يحب أن يكون له ما في أيديهم بالحِلّ والحرام ، لا يقنع . ابن جبير : الشح منع الزكاة وادّخار الحرام . ابن عُيَيْنَة : الشح الظلم . الليث : ترك الفرائض وانتهاك المحارم . ابن عباس : من اتبع هواه ولم يقبل بالإيمان فذلك الشحيح . ابن زيد : من لم يأخذ شيئاً لشيء نهاه الله عنه ، ولم يَدْعُه الشح على أن يمنع شيئاً من شيء أمره الله به ، فقد وقاه الله شح نفسه . وقال أنس : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " بَرِىء من الشّح من أدّى الزكاة وقَرَى الضيف وأعطى في النائبة " وعنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يدعو " اللهم إني أعوذ بك من شُحّ نفسي وإسرافها ووساوسها " وقال أبو الهَيّاج الأسدي : رأيت رجلا في الطّواف يدعو : اللهم قِني شُحَّ نفسي . لا يزيد على ذلك شيئاً ، فقلت له ؟ فقال : إذا وقيت شُحّ نفسي لم أسرق ولم أزْنِ ولم أفعل . فإذا الرجل عبد الرحمن بن عَوْف . قلت : يدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم : " اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشّح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سَفَكوا دماءهم واستحلُّوا محارمهم " وقد بيناه في آخر « آل عمران » . وقال كِسرى لأصحابه : أي شيء أضرّ بابن آدم ؟ قالوا : الفقر . فقال كِسرى : الشح أضرّ من الفقر لأن الفقير إذا وجد شبع ، والشحيح إذا وجد لم يشبع أبداً .