Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 66, Ayat: 1-1)
Tafsir: al-Ǧāmiʿ li-aḥkām al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ } فيه خمس مسائل : الأولى ـ : قوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ } ثبت في صحيح مسلم " عن عائشة رضي الله عنها : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، كان يمكث عند زينب بنت جَحْش فيشرب عندها عَسَلاً قالت : فتواطأتُ أنا وحفصة أنّ أيَّتَنَا ما دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلتقل : إني أجد منك رِيح مَغَافِير ! أَكَلْتَ مَغَافِير ؟ فدخل على إحداهما فقالت له ذلك . فقال : « بل شربت عسلاً عند زينب بنت جحش ولن أعود له » " فنزل : { لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ } إلى قوله { إِن تَتُوبَآ } لعائشة وحفصة ، { وَإِذَ أَسَرَّ ٱلنَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً } لقوله : " « بل شربتُ عسلاً » . وعنها أيضاً قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحَلْواء والعسل ، فكان إذا صلّى العصر دار على نسائه فيَدْنُو منهنّ فدخل على حفصة فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبِس فسألتُ عن ذلك فقيل لي : أهدت لها امرأةٌ من قومها عُكّةً من عسل ، فسقت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم منه شَرْبَةً . فقلت : أمَا والله لَنَحْتَالَنَّ له ، فذكرت ذلك لسَوْدةَ وقلت : إذا دخل عليكِ فإنه سَيَدْنُو منكِ فقولي له : يا رسول الله ، أكَلْتَ مَغَافِير ؟ فإنه سيقول لكِ لا . فقولي له : ما هذه الريح ؟ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتدّ عليه أن يوجد منه الريح فإنه سيقول لكِ سَقَتْني حَفْصَةُ شربةَ عسلٍ . فقولي له : جَرَسَتْ نَحلُه العُرْفُطَ . وسأقول ذلك له ، وقوليه أنتِ يا صفِيّة . فلما دخل على سَوْدَةَ قالت : تقول سَوْدَةَ والله الذي لا إلٰه إلا هو لقد كِدْتُ أن أبادِئه بالذي قلتِ لي ، وإنه لعلى الباب ، فَرَقاً منك . فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : يا رسول الله ، أكَلْتَ مَغَافِيرَ ؟ قال : « لا » قالت : فما هذه الريح ؟ قال : « سَقَتني حَفْصَةُ شَرْبَةَ عسلٍ » قالت : جَرَسَتْ نَحْلُه الْعُرْفُطَ . فلما دخل عليّ قلت له مثل ذلك . ثم دخل على صَفِيّة فقالت بمثل ذلك . فلما دخل على حَفْصَة قالت : يا رسول الله ، ألا أسقيك منه . قال « لا حاجة لي به » قالت : تقول سَوْدَة سبحان الله ! والله لقد حَرَمناه . قالت : قلت لها اسكتي " ففي هذه الرواية أن التي شرب عندها العسل حفصة . وفي الأولى زينب . وروى ابن أبي مليكة عن ابن عباس أنه شربه عند سودة . وقد قيل : إنما هي أمّ سلمة رواه أسباط عن السّديّ . وقاله عطاء بن أبي مسلم . ابن العربي : وهذا كله جهل أو تصوّر بغير علم . فقال باقي نسائه حَسَداً وغَيْرَةً لمن شرب ذلك عندها : إنا لنجد منك ريح المغافير . والمغافير : بقلة أو صمغة متغيرة الرائحة ، فيها حلاوة . واحدها مَغْفُور ، وجَرَست : أكلت . والعُرْفُطُ : نبت له ريح كريح الخمر . وكان عليه السلام يعجِبه أن يوجد منه الريح الطيبة أو يجدها ، ويكره الريح الخبيثة لمناجاة المَلَك . فهذا قول . وقول آخر أنه أراد بذلك المرأة التي وهبت نفسها للنبيّ صلى الله عليه وسلم فلم يقبلها لأجل أزواجه قاله ابن عباس وعِكرمة . والمرأة أمّ شريك . وقول ثالث إن التي حرم مارية القبطية ، وكان قد أهداها له المُقَوْقِس ملك الإسكندرية . قال ابن إسحاق : هي من كُورة أنْصِنا من بلد يقال له حَفْن فواقعها في بيت حفصة . روى الدَّارَقُطنيّ عن ابن عباس عن عمر قال : " دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمّ ولده مارية في بيت حفصة ، فوجدته حفصة معها وكانت حفصة غابت إلى بيت أبيها فقالت له : تُدخلها بيتي ! ما صنعت بي هذا من بين نسائك إلا من هَوانِي عليك . فقال لها : « لا تَذْكُرِي هذا لعائشة فهي عليّ حرام إن قَرُبْتُها » قالت حفصة : وكيف تحرّم عليك وهي جاريتك ؟ فحلف لها ألا يَقْرَبها . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « لا تذكريه لأحد » . فذكرته لعائشة ، فآلَى لا يدخل على نسائه شهراً ، فاعتزلهنّ تسعا وعشرين ليلة " فأنزل الله عز وجل { لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ } الآية . الثانية ـ : أصحّ هذه الأقوال أوّلها . وأضعفها أوسطها . قال ابن العربيّ : « أما ضعفه في السند فلعدم عدالة رواته ، وأما ضعفه في معناه فلأن ردّ النبيّ صلى الله عليه وسلم للموهوبة ليس تحريماً لها لأن من ردّ ما وُهب له لم يَحْرُم عليه ، إنما حقيقة التحريم بعد التحليل . وأما من روى أنه حَرّم مارية القبطية فهو أمثل في السند وأقرب إلى المعنى لكنه لم يدوّن في الصحيح . وروي مرسلاً . وقد روى ابن وهب عن مالك عن زيد بن أسلم قال : " حرّم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمّ إبراهيم فقال : « أنت عليّ حرام والله لا آتينّك » . فأنزل الله عز وجل في ذلك : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ } " وروى مثله ابن القاسم عنه . وروى أشهب عن مالك قال : راجعتْ عمرَ امرأةٌ من الأنصار في شيء فاقشعرّ من ذلك وقال : ما كان النساء هكذا ! قالت : بلى ، وقد كان أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم يراجعنه . فأخذ ثوبه فخرج إلى حفْصة فقال لها : أتراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : نعم ، ولو أعلم أنك تكره ما فعلت . فلما بلغ عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هجر نساءه قال : رَغِمَ أنْفُ حفصة . وإنما الصحيح أنه كان في العسل وأنه شربه عند زينب ، وتظاهرت عليه عائشة وحفصة فيه ، فجرى ما جرى فحلف ألا يشربه وأسرّ ذلك . ونزلت الآية في الجميع . الثالثة ـ : قوله تعالى : { لِمَ تُحَرِّمُ } إن كان النبيّ صلى الله عليه وسلم حرّم ولم يحلف فليس ذلك بيمين عندنا . ولا يحرّم قول الرجل : « هذا عليّ حرام » شيئاً حاشا الزوجة . وقال أبو حنيفة : إذا أطلق حمِل على المأكول والمشروب دون الملبوس ، وكانت يميناً توجب الكفارة . وقال زُفَر : هو يمين في الكل حتى في الحركة والكون . وعوّل المخالف على أن النبيّ صلى الله عليه وسلم حرّم العسل فلزمته الكفارة . وقد قال الله تعالى : { قَدْ فَرَضَ ٱللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } فسماه يميناً . ودليلُنا قول الله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوۤاْ } [ المائدة : 87 ] ، وقوله تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى ٱللَّهِ تَفْتَرُونَ } [ يونس : 59 ] . فذمّ الله المحرِّم للحلال ولم يوجب عليه كفارة . قال الزجاج : ليس لأحد أن يحرّم ما أحلّ الله . ولم يجعل لنبيّه صلى الله عليه وسلم أن يحرّم إلا ما حرّم الله عليه . فمن قال لزوجته أو أَمتِه : أنتِ عليّ حرام ولم يَنْوِ طلاقاً ولا ظِهاراً فهذا اللفظ يوجب كفارة اليمين . ولو خاطب بهذا اللفظ جمعاً من الزوجات والإماء فعليه كفارة واحدة . ولو حرّم على نفسه طعاماً أو شيئاً آخر لم يلزمه بذلك كفارة عند الشافعيّ ومالك . وتجب بذلك كفارة عند ابن مسعود والثَّوْرِي وأبي حنيفة . الرابعة ـ : واختلف العلماء في الرجل يقول لزوجته : « أنت عليّ حرام » على ثمانية عشر قولا : أحدها ـ : لا شيء عليه . وبه قال الشعبيّ ومسروق وربيعة وأبو سلمة وأَصْبَغ . وهو عندهم كتحريم الماء والطعام قال الله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمْ } [ المائدة : 87 ] والزوجة من الطيبات ومما أحلّ الله . وقال تعالى : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ ٱلْكَذِبَ هَـٰذَا حَلاَلٌ وَهَـٰذَا حَرَامٌ } [ النحل : 116 ] . وما لم يحرّمه الله فليس لأحد أن يحرّمه ، ولا أن يصير بتحريمه حراماً . ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لما أحلّه الله هو عليّ حرام . وإنما امتنع من مارية ليمين تقدمت منه وهو قوله : " والله لا أقربها بعد اليوم " فقيل له : لم تحرّم ما أحلّ الله لك أي لم تمتنع منه بسبب اليمين . يعني اقْدم عليه وكَفّر . وثانيها ـ : أنها يمين يكفرها قاله أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم والأوزاعيّ وهو مقتضى الآية . قال سعيد بن جُبير عن ابن عباس : إذا حرّم الرجل عليه امرأته فإنما هي يمين يكفرها . وقال ابن عباس : لقد كان لكم في رَسُول الله أُسْوَةٌ حَسَنة يعني أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان حرّم جاريته فقال الله تعالى : { لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ } إلى قوله { قَدْ فَرَضَ ٱللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } فكفّر عن يمينه وصيّر الحرام يميناً . خرّجه الدَّارَقُطْنيّ . وثالثها ـ : أنها تجب فيها كفارة وليست بيمين قاله ابن مسعود وابن عباس أيضاً في إحدى روايتيه ، والشافعي في أحد قوليه ، وفي هذا القول نظر . والآية تردّه على ما يأتي . ورابعها ـ : هي ظِهار ففيها كفارة الظِّهار ، قاله عثمان وأحمد بن حنبل وإسحاق . وخامسها ـ : أنه إن نوى الظِّهار وهو ينوي أنها محرّمة كتحريم ظَهْر أمّه كان ظِهاراً . وإن نوى تحريم عَيْنها عليه بغير طلاق تحريماً مطلقاً وجبت كفارة يمين . وإن لم ينو شيئاً فعليه كفارة يمين ، قاله الشافعيّ . وسادسها ـ : أنها طلقة رجعية ، قاله عمر بن الخطاب والزُّهْرِيّ وعبد العزيز بن أبي سلمة وابن الماجِشُون . وسابعها ـ : أنها طلقة بائنة ، قاله حماد ابن أبي سليمان وزيد بن ثابت . ورواه ابن خُوَيْزِمَنْدَاد عن مالك . وثامنها ـ : أنها ثلاث تطليقات ، قاله علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت أيضاً وأبو هريرة . وتاسعها ـ : هي في المدخول بها ثلاث ، وينوى في غير المدخول بها ، قاله الحسن وعلي ابن زيد والحكم . وهو مشهور مذهب مالك . وعاشرها ـ : هي ثلاث ولا ينوي بحال ولا في محل وإن لم يدخل قاله عبد الملك في المبسوط ، وبه قال ابن أبي لَيْلَى . وحادي عشرها ـ : هي في التي لم يدخل بها واحدة ، وفي التي دخل بها ثلاث قاله أبو مصعب ومحمد ابن عبد الحكم . وثاني عشرها ـ : أنه إن نوى الطلاق أو الظِّهار كان ما نَوَى . فإن نوى الطلاق فواحدة بائنة إلا أن ينوي ثلاثاً . فإن نوى ثنتين فواحدة . فإن لم ينوِ شيئاً كانت يميناً وكان الرجل مُولِياً من امرأته قاله أبو حنيفة وأصحابه . وبمثله قال زُفَر إلا أنه قال : إذا نوى اثنتين ألزمناه . وثالث عشرها ـ : أنه لا تنفعه نِيّة الظِّهار وإنما يكون طلاقاً قاله ابن القاسم . ورابع عشرها ـ : قال يحيى بن عمر : يكون طلاقاً فإن ارتجعها لم يجز له وَطْؤُها حتى يكفر كفّارة الظِّهار . وخامس عشرها ـ : إن نوى الطلاق فما أراد من أعداده . وإن نوى واحدة فهي رجعية . وهو قول الشافعيّ رضي الله عنه . وروي مثله عن أبي بكر وعمر وغيرهم من الصحابة والتابعين . وسادس عشرها ـ : إن نوى ثلاثاً فثلاثاً ، وإن واحدةً فواحدةً . وإن نوى يميناً فهي يمين . وإن لم يَنْو شيئاً فلا شيء عليه . وهو قول سفيان . وبمثله قال الأوزاعي وأبو ثور إلا أنهما قالا : إن لم يَنْو شيئاً فهي واحدة . وسابع عشرها ـ : له نِيّتُه ولا يكون أقل من واحدة قاله ابن شهاب . وإن لم يَنْو شيئاً لم يكن شيء قاله ابن العربي . ورأيت لسعيد بن جُبير وهو : الثامن عشر ـ : أن عليه عِتْق رَقَبة وإن لم يجعلها ظِهاراً . ولست أعلم لها وجهاً ولا يبعد في المقالات عندي . قلت : قد ذكره الدَّارَقُطْنيّ في سننه عن ابن عباس فقال : حدّثنا الحسين بن إسماعيل قال حدّثنا محمد بن منصور قال حدّثنا رَوْح قال : حدّثنا سفيان الثَّوْرِي عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه أتاه رجل فقال : إني جعلت امرأتي عليّ حراماً . فقال : كذبت ! ليست عليك بحرام ثم تلا { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ } عليك أغلظ الكفارات : عِتْقُ رَقَبة . وقد قال جماعة من أهل التفسير : إنه لما نزلت هذه الآية كفّر عن يمينه بعتق رقبة ، وعاد صلى الله عليه وسلم إلى مارية قاله زيد بن أسلم وغيره . الخامسة ـ : قال علماؤنا : سبب الاختلاف في هذا الباب أنه ليس في كتاب الله ولا في سُنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم نصٌّ ولا ظاهرٌ صحيحٌ يعتمد عليه في هذه المسألة ، فتجاذبها العلماء لذلك . فمن تمسَّك بالبراءة الأصلية فقال : لا حكم ، فلا يلزم بها شيء . وأما من قال إنها يمين فقال : سَمّاها الله يميناً . وأما من قال : تجب فيها كفارة وليست بيمين فبناه على أحد أمرين : أحدهما أنه ظن أن الله تعالى أوجب الكفارة فيها وإن لم تكن يميناً . والثاني أن معنى اليمين عنده التحريم ، فوقعت الكفارة على المعنى . وأما من قال : إنها طلقة رجعية فإنه حمل اللفظ على أقلّ وجوهه ، والرجعية محرِّمة الوطء كذلك فيحمل اللفظ عليه . وهذا يلزم مالكاً ، لقوله : إن الرجعية محرِّمة الوطء . وكذلك وجه من قال : إنها ثلاث ، فحمله على أكبر معناه وهو الطلاق الثلاث . وأما من قال : إنه ظهار ، فلأنه أقلّ درجات التحريم ، فإنه تحريم لا يرفع النكاح . وأما من قال : إنه طلقة بائنة ، فَعَوَّل على أن الطلاق الرجعيّ لا يحرّم المطلقة ، وأن الطلاق البائن يحرّمها . وأما قول يحيى بن عمر فإنه احتاط بأن جعله طلاقاً ، فلما ارتجعها احتاط بأن يلزمه الكفّارة . ابن العربي : « وهذا لا يصح ، لأنه جمع بين المتضادين ، فإنه لا يجتمع ظِهار وطلاق في معنى لفظ واحد ، فلا وجه للاحتياط فيما لايصح اجتماعه في الدليل . وأما من قال : إنه يُنَوَّى في التي لم يدخل بها ، فلأن الواحد تُبينُها وتحرّمها شرعاً إجماعاً . وكذلك قال من لم يحكم باعتبار نيته : إن الواحدة لا تكفي قبل الدخول في التحريم بالإجماع ، فيكفي أخذاً بالأقل المتفَق عليه . وأما من قال : إنه ثلاث فيهما ، فلأنه أخذ بالحكم الأعظم ، فإنه لو صرح بالثلاث لنفذت في التي لم يدخل بها نفوذها في التي دخل بها . ومن الواجب أن يكون المعنى مثله وهو التحريم » . والله أعلم . وهذا كله في الزوجة . وأما في الأمَة فلا يلزم فيها شيء من ذلك ، إلا أن ينوي به العتق عند مالك . وذهب عامة العلماء إلى أن عليه كفارة يمين . ابن العربي : والصحيح أنها طلقة واحدة ، لأنه لو ذكر الطلاق لكان أقلّه وهو الواحدة إلا أن يعدّده . كذلك إذا ذكر التحريم يكون أقلّه إلا أن يقّيده بالأكثر ، مثل أن يقول : أنت عليّ حرام إلا بعد زوج ، فهذا نص على المراد . قلت : أكثر المفسرين على أن الآية نزلت في حفصة لما خلا النبيّ صلى الله عليه وسلم في بيتها بجاريته ذكره الثعلبيّ . وعلى هذا فكأنه قال : لا يَحْرُم عليك ما حرّمتَه على نفسك ولكن عليك كفارة يمين ، وإن كان في تحريم العسل والجارية أيضاً . فكأنه قال : لم يَحْرُم عليك ما حَرَّمته ، ولكن ضَمَمْتَ إلى التحريم يميناً فكفّر عن اليمين . وهذا صحيح ، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم حرّم ثم حلف ، كما ذكره الدَّارَقُطْنيّ . وذكر البخاريّ معناه في قصة العَسَل عن عبيد بن عُمير " عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب عند زينب بنت جَحْش عسلاً ويمكث عندها ، فتواطأتُ أنا وحفصة على أيّتنا دخل عليها فلْتَقُلْ : أكلتَ مَغَافِير ؟ إني لأجد منك رِيح مَغَافير ! قال : « لا ولكن شربتُ عسلاً ولن أعود له وقد حلفت لا تخبري بذلك أحداً » " يبتغي مرضات أزواجه . فيعني بقوله : « ولن أعود له » على جهة التحريم . وبقوله : « حلفت » أي بالله ، بدليل أن الله تعالى أنزل عليه عند ذلك معاتبته على ذلك ، وحوالته على كفّارة اليمين بقوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ } يعني العسل المحرّم بقوله : « لن أعود له » . { تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ } أي تفعل ذلك طلباً لرضاهن . { وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } غفورٌ لما أوجب المعاتبة ، رحيمٌ برفع المؤاخذة . وقد قيل : إن ذلك كان ذنباً من الصغائر . والصحيح أنه معاتبة على ترك الأولى ، وأنّه لم تكن له صغيرة ولا كبيرة .