Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 9, Ayat: 111-112)
Tafsir: Taysīr at-tafsīr li-l-qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الجَنَّةَ } شبه بذلهم أَنفسهم فى الجهاد على رجاءِ الثواب ببيع الشىءِ وقبوله ، وإِعطاءِ الجنة على ذلك بالشراء على الاستعارة التمثيلية لا المفردة التبعية إِلا أَنه قال بأَن لهم الجنة ولم يقل بالجنة لأَنه أَبلغ فى وصول الثمن واختصاصه بهم ، ولم يقل باع لهم الجنة بأَنفسهم وأَموالهم ، لأَن المقصود فى العقد الجنة والأَنفس والأَموال وسيلة إِليها ففى ذلك كمال العناية بأَنفسهم وأَموالهم ، وذلك كناية للإِقراض إِليه فإِن كل شىءٍ مملوك لله عز وجل ، وفى الاية استعارة تمثيلية ، قال عبدالله بن رواحة فى العقبة من سبعين رجلا : " اشترط لربك ولنفسك ما شئت ، قال أَشترط لربى أَن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ، وأَشترط لنفسى أَن تمنعونى مما تمنعون منه أَنفسكم وأَموالكم . قال : إِذا فعلنا ذلك فما لنا ؟ قال : الجنة . قال : ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل . فنزل { إِن الله اشترى } الآية " ، والعقبة الثانية لقيه فيها اثنا عشر بايعوه بيعة النساءِ لا نشرك بالله شيئاً ولا نسرق ولا نزنى ولا نقتل أَولادنا ولا نأْتى بهتانا ولا نعصى فى معروف ، وبايعوا فى العقبة الأُولى ستة حضروا بأَنفسهم مع ستة أُخرى فى الثانية إِلا جابر بن عبدالله بن رياب رضى الله عنه لم يحضر فى الثانية ، وقال ابن إِسحاق فى الثالثة ثلاثة وسبعون ، وبسطت هذا فى الهميان وغيره ، وبين البيع بقوله { يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ } لأَن بذل أَنفسهم لله هو البيع لا الشراءُ ، وإِن شئْت فقل بيان للشراءِ أَيضاً لأَن بيان البيع للشراءِ وبالعكس ، وفى ذكر القتال ذكر لإِنفاق المال ، لأَنه بالمال ذهابا ومباشرة ورجوعاً ، وفى ذلك شمول من لم يتفق له القتال لعيره ، وقد قصده ، وشمول من لم يتفق أَنه مقتول فإِن القتال المدافعة وقعت القاتلية أَو المقتولية أَولا ، وقيل : يقاتلون أَمر فى صورة الإِخبار ، ولا دليل عليه ولا يناسبه ما بعده بخلاف تجاهدون فإِن جزم يغفر فى جوابه يدل أَنه أَمر ، والمقتولية إِن كانت إِخباراً نافرت وإِن كانت أَمراً فإِنه لا يعتاد أَن يأْمرهم الله بأَن يكونوا مقتولين ثم إِن بعضاً قاتل مقتول بعد أَو غير مقتول ، وبعض مقتول غير قاتل ، والآية على التوزيع ، وأَيضاً فعل البعض أَو صفته قد يسند إِلى الكل . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من غازية تغزو فى سبيل الله فيصيبون الغنيمة إِلا تعجلوا ثلثى أَجرهم من الآخرة ويبقى لهم الثلث ، وإِن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أَجرهم " ، وفى رواية " إِن مات فى الغزو تم أَجره أَى ولو غنم أَو مات بلا قتل " قلت إِنما ينقص ثلثاً الأَجر إِن نوى الجهاد للتقرب إِلى الله تعالى وللغنيمة ، وإِن لم ينو الغنيمة تم له الأَجر وإِن نواها وحدها فلا شىءَ له فى الآخرة ، وفى صحيح البخارى ومسلم : " إِن المجاهد يرجع بما نال من غنيمة وأَجر " ، وظاهره رجوعه بالأَجر التام { وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا } مصدران مؤكدان لغيرهما لأَن معنى الشراءِ بأَن لهم الجنة وعد لهم بها أَى وعد الله ذلك على نفسه وعدا وحقه حقاً ، أَو حق أَى ثبت ذلك حقاً كقولك أَنت ابنى حقاً ، ويجوز كون حقاً نعت وعداً والأَول آكد وكون عليه نعتاً لوعدا أَو حالا من حقاً . وزعم بعض المحققين أَن وعدا منصوب مضمون اشترى من الوعد ، وفيه أَن هذا المضمون هو الذى دل على تعدى الناصب لأَن الآية ليست من باب قمت وقوفاً { فِى التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ } فالوعد بالجنة لهذه الأمة مذكور فى كتب الله السابقة { وَالْقُرْآنِ } من غير هذه الآية ، من كل آية ذكر فيها ثواب الجهاد أو أُشير فيها إِليه ، ويجوز دخول هذه الآية كشاة الأَربعين أَثرت فى نفسها وفى غيرها ، وهو متعلق بحقاً أَو بوعداً ، أَو نعت لأَحدهما ، وإِن علق باشترى شملت الآية أَمر أَهل التوراة والإِنجيل بالقتال الثواب لهم ، وشملت الأُمة ، قيل فى الآية دليل على أَن الأَمر بالجهاد مشروع فى جميع الشرائِع ، وليس كذلك فإِن كثيراً من الأَنبياءِ لم يؤمر بالقتال كعيسى عليه السلام { وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ } استفهام إِنكار أَى لا أَوفى به منه ، والوفاءُ بالعهد هو الأَصل طبعاً وشرعاً ولا سيما من الأَكابر ، فكيف من الخالق ، وهذا فى غاية التأْكيد للوعد ، وزاد التأْكيد بأَن سماه عهدا فقد أكد الشراءَ بكونه من الله الغنى الذى لا يحتاج ، وبوعدا وبحقاً وبعلى وبذكره فى الكتب ، وبمن أَوفى وبتسميته عهداً { فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ } إِذا كان الأَمر كذلك ، فاستبشروا أَى افرحوا به لأَن لكم به النجاة من النار دار الغضب ، والفوز بالجنة دار الرضى وجوار الله ، والاستبشار إِظهار الفرح على البشرة أَى الجلدة ، جلدة الوجه ، والسين والتاء للتأكيد أَو للمطاوعة ، بمعنى عالجوا الفرح فيحصل ، وأَولى من هذا أَن يقال لموافقة ما ليستا فيه كأَنه قيل أَبشروا وليس هذا مطاوعة ، ولعل من عبر بالمطاوعة أَراد بها الموافقة لا المطاوعة المعهودة فى النحو والصرف ، ثم إِن الاستبشار إِما أَن يكون مما لا يكسب فالأَمر به مجاز عن وقوعه بعد العلم ، وإِما أَن يراد به ما يكسب بنطق بتشديد الوجه إِلى الجوانب وبسطه ، فهو أضمر على ظاهر ، وفى استبشروا التفات من الغيبة إِلى الخطاب ، ومقتضى الظاهر فليستبشروا بشراءِ الله ، ولكن المراد أبشروا بأَن فعلكم الذى هو البيع أَصاب المقصود الأَعظم وهو الجنة ، فليرغب الراغب فى مثل ذلك الفعل ، والرابط ضمير به وهو فى الأَصل مفعول مطلق أَى بايعتموه ، والمراد بايعتم الله به وليست الآية التفاتاً إِلى الخطاب من الغيبة ، لأَن المراد بالمؤمنين فى قوله { إِن الله اشترى } إِلخ أَنه على طريق العموم ، ولو صدق بالمخاطبين فى قوله استبشروا . { وَذَلِكَ } البيع { هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * التَّائِبُونَ } خبر لمحذوف ، أَى أُولئك المؤْمنون همُ التائِبون من الشرك والمعاصى ومساوىءُ الأَخلاق على طريق قطع النعت ، ويدل له قراءَة عبدالله وأُبى التائِبين بالياءِ على أَنه نعت للمؤمنين ، ولا دليل على أَن مقطوع إِلى النصب أَو مبتدأٌ خبره محذوف أَى التائبون لهم الجنة أَو من أَهل الجنة ، وإِن لم يجاهدوا حيث أُبيح لهم ترك الجهاد ، قال الله تعالى : { وكلاًّ وَعَد اللهُ الحسنى } [ النساء : 95 ] أَو خبره قوله { الْعَابِدُونَ } وما بعد هذا نعوت أَو أَخبار متعددة ، أَو الخبر الآمرون والمراد العابدون لله بإِخلاص عبادتهم على وجهها ودوامها فى مدة حياتهم ، { وأَوصانى بالصلٰوة والزكاة ما دمت حياً } [ مريم : 31 ] { الْحَامِدُونَ } لله فى السراءِ والضراءِ . قال صلى الله عليه وسلم : " أَول من يدعى إِلى الجنة يوم القيامة الذين يحمدون الله على كل حال فى السراءِ والضراءِ " والحمد الوصف بالجميل ، وقيل : المراد هنا الشكر فى مقابلة النعمة ، وعن عائِشة رضى الله عنها : كان النبى صلى الله عليه وسلم إِذا أَتاه الأَمر يسره قال : " الحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات " ، وإِذا أَتاه الأَمر يكرهه قال : " الحمد لله على كل حال " { السَّائِحُونَ } الصائِمون قال : ابن عباس كل سياحة فى القرآن صوم ، قال صلى الله عليه وسلم : " سياحة أُمتى الصيام " ، وذلك أَن السائح يكتفى بما وجد من قوت والصائِم يمتنع عما حل له قبل وعما حرم ، على الاستعارة ، ومن حقق الصوم لم يحتفل بما يلتذ به وقت الإِفطار ، أَو السائحون فى عالم الروحانيات بالانتقال فى المعارف على مراكب الفكر ، أَو بترك ما يعوق من اللذات ، وعن علي هم الغزاة يقطعون الأَرض إلى العدو ، وعن عكرمة طلاب العلم من بلد إِلى بلد ، ولا مانع من تفسيره بالسير فى الأَرض للعبادة كطلب العلم والزيارة والغزو والحج . وسئِل صلى الله عليه وسلم عن السياحة فى الآية ففسرها بالصوم وكذا عن عائِشة وعنه صلى الله عليه وسلم الجهاد { الرَّاكِعُونَ السَاجِدُونَ } فى الصلاة ، أَو كَانه قيل والمصلون وخصهما لامتياز المصلى بها عن غيره . ولذم من لا يركع فى صلاته أَو لا يسجد وهم أَهل الكتاب ، والقرآن ولو كان أَعظم لكن هما أَدل على الخضوع ، والآية فى الفرض والنفل فالمراد أَكثر الصلاة ، وفسرها بعض بصلاة الفرض ولم يعطف فيما مر لأَنه صفات للشخص فى نفسه ، ولا بد لكل شخص منها ، فترك العطف لشدة الاتصال بخلاف الأَمر والنهى والحد كالرجم والجلد فيجوز اختلاف فاعلها ، وقدم التوبة والعبادة والحمد والسياحة والركوع والسجود ، لأَن الإِنسان يكمل بها فلا يكون مكملا لغيره بالأَمر والنهى وإِقامة الحدود حتى يكون كاملا فى نفسه ، ولا يقال : الصحيح فى الحدود أَن لا تفسر بنحو الجلد والرجم لأَنا نقول نفسرها بالعموم فهو يعمهما ونحوهما من الفرائِض { الآمِرُونَ بِالمَعْرُوفِ } من واجب وما دونه ومكارم الأَخلاق . { وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ } من شرك وما دونه ومساوىءِ الأَخلاق { وَالحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ } أَى لحدوده الشرعية التى لم تذكر من القلب والجارحة ، أَو عطف عام على خاص ، فقيل : العطف تنبيه على أَن ما قبله مفصل الفضائِل وهذا مجملها ، نحو زيد وعمر وسائِر قبيلته كرماء ، وقيل عطف على ما قبله من الأَمر والنهى لأَن من لم يصدق قوله فعله لا يقيد أَمره نفعاً ولا نهيه منعاً ، وقيل الحدود القصاص والرجم والجلد والأَدب ، وعطف الناهون يتبادر أَنه موصول بما يناسبه وهو الآمرون ، كلاهما طلب : الأَول طلب فعل والثانى طلب ترك فهو معطوف على الآمرون ، وما شهر من أَن العطف على الأَول إِذا كان العاطف لا يرتب إِنما هو إِذا لم يقم دليل على غيره ، وعطف على الحافظون لأَنه ثامن ، والعدد تم بالسبعة وهو واو الثمانية ، كما قيل فى وثامنهم كلبهم ، فالعطف لمغايرة ما بعد التمام لما قبله ، قال بعض النحويين واو الثمانية لغة فصيحة ، قال القرطبى : لغة قريش وإِنما جعلنا هذه واو الثمانية لأَنا جعلنا الآمرين والناهين قسماً واحدا ، ولا سيما أَن الآمر بالمعروف ناه عن المنكر ، وهو ترك المعروف والناهى عن المنكر ناه أَيضاً عن ترك المعروف آمر بالمعروف ، وإِلا فواو الثمانية و كقوله والناهون ولم يرض أَكثر النحويين بواو الثمانية ، والحق عندى جواز واو الثمانية مع أَنها للعطف أَو غيره من معانى الواو ، لا على أَن معناها الثمانية ، ولعل من قال بها أَراد ما ذكرت . وقيل العطف فى الناهون إِلخ لما بين الأَمر والنهى من التقابل فإِن الأَمر والنهى من حيث هما أَمر ونهى متقابلان بخلاف الصفات الباقية ، فإِن الآمر ناه والناهى آمر فأُشير إِلى الاعتداد بكل من الوصفين ، وأَنه لا يكفى عن واحد ما فى ضمن الآخر ، ولأَن بينهما تلازما فى الذهن والخارج ، لأَن الأَوامر تتضمن النواهى وبالعكس ، وتنافرا بحسب الظاهر لأَن الأَمر طلب فعل والنهى طلب ترك ، فكانا بين كمال الاتصال والانقطاع المقتضى للعطف ، وقيل : العطف فيهما للدلالة على أَنهما فى حكم خصلة واحدة كأَنه قيل : الجامعون بين الأَمر والنهى . واعترض بأَن الركوع والسجود فى حكم خصلة واحدة ، أَى الجامعون بين الركوع والسجود ، ويدفع بأَن كلا غير الاخر بخلاف الأَمر والنهى كما مر { وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ } بالجنة ، وحذفه للتعظيم كأَنه قال : بشرهم بما لا يطيق الخلق تفصيله واختصاره الجنة . أَو رضى الله وأَلـ للعهد ، وهم من ذكر فمقتضى الظاهر بشرهم لكن أظهر للفاصلة ولبيان أَن إيمانهم كامل حتى استحق ذلك الفضل ، وليؤذن بعلة التبشير وهى الإِيمان .