Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 9, Ayat: 118-119)
Tafsir: Taysīr at-tafsīr li-l-qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ وَعَلَى الثَّلاَثَةِ } عطف على قوله على النبى لأَنه ذكر أَولا وغيره مثله وتبع له ، أَو على الأَنصار لأَنه آخر ، ومن جنسهم والقسم منسحب على الثلاثة كأَنه قيل لقد تاب الله على النبى والمهاجرين والأَنصار وعلى الثلاثة ، ولكن إِذا عطف على الأَنصار كان من باب العطف على المعنى المقول له فى غير القرآن عطف توهم لأَن على فى المعطوف لا فى المعطوف عليه ، وهى فيه معنى وكأَنه قيل وعلى الأَنصار وعلى الثلاثة ، ولا يصح العطف على عليهم لأَن الثلاثة لم يتصفوا بكيد زيغ قلوبهم فلا تهم { الَّذِينَ خُلِّفُوا } خلفهم رسول الله والغزاة تركوهم ولو لم يقولوا اقعدوا خلفنا ، تقول خلفت عمراً خلفى ولو لم تقل له اقعد خلفى ولا تسرع لأَجل أَن يكون خلفك ، أَو خلفوا أَنفسهم أَو خلفهم الشيطان عن الغزو ، أَو خلفهم الله عن قبول التوبة لأَنهم المرجون ، أَو خلفهم أَمرهم عمن قبلت توبته من أَبى لبابة ونحوه . والثلاثة كعب بن مالك وهو من بنى سلمة وهلال بن أُمية من بنى واقف ومرارة بن الربيع من بنى عمرو بن عوف ، ويقال فيه ابن ربيعة ، وفى مسلم مرارة بن الربيع العامرى ، والواضح أَن يقول العمرى بفتح العين وإِسكان الميم نسباً إِلى بنى عمرو بن عوف ، قال كعب : معنى خلفوا أُرجِىءَ أَمرنا لا على معنى تخلفنا عن الغزو ، أَو خلفوا أَنفسهم عن الاعتذار والتوبة كما اعتذر أَبو لبابة وأَصحابه { حَتَّى إِذَا } خرجت عن الشرط ونصب الظرفية إِلى الجر بحتى أَو ثم زائدة فى جوابها بعد وهو ضعيف أَو جوابها يقدر بعد ليتوبوا هكذا تنشرح أَنفسهم { ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ } برحبها أَى مع رحبها ، وذلك لضيق قلوبهم حتى لا تسكن إِلى شىءٍ منها ولا إِلى شىءٍ من أَحوال أَهلها والرحب والسعة ، ندماً عن فراق رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدم مرافقته فى الغزو وخوفاً من أَن يموتوا فلا يصلى عليهم ، أَو يموت صلى الله عليه وسلم فلا يصلى عليهم ، ولا يكلمون دائماً { وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ } قلوبهم لذلك ولإِعراض الناس عنهم بالكلية ، وفرط الغم والوحشة وضيق نفس الإِنسان عليه أَشد من ضيق الأَرض عليه فذلك ترق ، وضيق الأَرض كناية عن الوحشة ولكن تكون بكل ما أَمكن ، ويجوز أَن يكون فسرها بضيق الأَنفس وذلك بسط للكلام ، وإِن شئت فضيق الأَرض انقباض الناس وضيق الأَنفس همها به ، وبمخالفة الرسول . قال كعب : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس عن كلامنا أَيتها الثلاثة ، فاجتنبنا الناس حتى تنكرت فى نفسى الأَرض فما هى التى أَعرف ولزم صاحباى بيوتهما يبكيان ، قال : لقد شهدت ليلة العقبة وما أُحب أَن لى بها بدرا ، ولو كان بدر أَشهر فى الناس ولم أَشهده ، لأَنه صلى الله عليه وسلم لم يعزم على الناس لأَنه خرج للعير فوفقه الله تعالى إِلى القتال ولم يعاتب أَحداً على عدم مشهده ولم أَتخلف إِلا فى غزوة تبوك ، وكنت كل يوم أَقصد التجهز لأَلحق به وأَكسل حتى بعدوا ، واشتد همى لأَنى لا أَرى فى المدينة إِلا معذوراً أَو منافقاً ، ولما بلغ تبوك قال ما فعل كعب بن مالك ؟ فقال رجل : يا رسول الله حبسه برداه والنظر فى عطفيه . فقال معاذ بن جبل : بئس ما قلت ، والله يا رسول الله ما علمنا فيه إِلا خيراً ، ولما سمع ملك غسان بهجرنا أرسل إِلى كتاباً : أَلحق بنا نواسك لم يخلفك الله بدار مضيعة . فقلت : هذه بلية أُخرى ، فأَلقيت كتابه فى التنور ، وقلت : يا رسول الله ما كنت أَيسر قط منى حين سافرت وإِنى ذو لسان واحتجاج ، لكن إِن كذبت أَخبرك الله وإِن صدقت رجوت العفو . وقد اعتذر ثمانون رجلا منافقون ففضحهم الله عز وجل وكنت أَشبه القوم وأَجلدهم ، أَشهد الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأَطوف فى الأَسواق ولا يكلمنى أَحد ، وأُسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مجلسه بعد الصلاة ، وأَقول فى نفسى هل حرك شفتيه بالرد وأُسارقه النظر ، وإِذا أَقبلت على صلاتى أَقبل إِلى وأَنا قريب منه ، وإِذا التفت نحوه أَعرض عنى ، وتسورت على أَبى قتادة جدار حائطه وهو ابن عمى وأَحب الناس إِلىّ فسلمت عليه فوالله ما رد على ، فقلت : أَنشدك الله هل تعلمنى أَحب الله ورسوله ، وسكت وأَعدت له وفى الثالثة قال : الله ورسوله أَعلم ، ولما مضت أَربعون ليلة أَرسل إِلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اعتزلوا أَزواجكم " ، فأَمرتها أَن تذهب إِلى أَهلها حتى يقضى الله ، ولما تمت خمسون وقيل أَكثر قعدت على ظهر بيتى عقب صلاة الفجر ونزلت توبتنا ، فسعى ساع وركض فارس للتبشير وافى على سلع رجل من أَسلم وهو جبل ونادى : يا كعب بن مالك أَبشر ، فخررت ساجدا والصوت أَسرع من الفرس فأَعطيته ثوبين ما لى سواهما ، فاستعرت ثوبين ولبستهما إِليه صلى الله عليه وسلم والناس يهنئوننى حتى سلمت عليه صلى الله عليه وسلم فى المسجد والناس حوله فقال : " أَبشر بخير يوم مر عليك من حين ولدت " فقلت : أَمن عندك يا رسول الله أَم من الله ؟ قال : " لا بل من الله " ، ووجهه يبرق فى حينه ، وكان إِذا سر برق وجهه كأَنه قطعة قمر ، وقام إِلى طلحة يهرول حتى صافحنى وهنأَنى ، والله ما قام إِلى رجل من المهاجرين غيره ولا أَنساها لطلحة ونزل { لقد تاب الله … إِلى الصادقين } وحصته من ذلك هو الصدق إِذ لم يعتذر بكذب وإِلا فإِنه لم يغز العسرة : { وَظَنُّوا } أَيقنوا ، مبدأ العلم واليقين الظن ، فالظن الباب فتحوه ووصلوا المطلوب ، أَو حكمة التعبير بالظن التلويح إِلى أَن الظن الذى هو العلم ولو لم يبلغ اليقين كاف { أَنْ لاَ مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ } من سخط الله إِلى شىء إِلا إِلى استغفاره والتضرع إِليه { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُو } أَنزل قبول توبتهم فى القرآن فى نفس هذه الآية أَو بإِيحائها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أَو أَظهرها ليعدوا من جملة التوابين ، أَو رجع عليهم بالقبول والرحمة بعد ما وقعا ليستقيموا على توبتهم أَو وفقهم للتوبة ليوقعوها ، وفى هذا تكون ثم بمعنى الواو لأَنه وفقهم للتوبة حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك ، أَو على ظاهرها بمعنى إِتمامها وإِكمالها . وذلك تحقق بعد الخمسين ، وقيل المعنى قبل توبتهم ليتوبوا بعد من كل ما صدر منهم ولا يقنطوا { إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } المتفضل ، ولو عاد فى اليوم مائة مرة أَلا ترى إِلى صفتى المبالغة فعَّال وفعيل . قال كعب : غزو العسرة حين كانت الثمار والظلال ولم أَخرج وليتنى خرجت ، وما تخلفت عن غزوة إِلا هذه ، ولما جلس صلى الله عليه وسلم فى تبوك قال : " ما فعل كعب بن مالك " ، وما ذكرنى قبل . فقال رجل من بنى سلمة : يا رسول الله حبسه برداه ونظره فى عطفه . فقال معاذ بن جبل : بئس ما قلت . والله يا رسول الله ما علمنا عليه إِلا خيراً ، فسكت صلى الله عليه وسلم ، ولما بلغنى قفوله من تبوك جعلت أَنظر كذباً أَعتذر به وأَشاور أَهل الرأْى والحيل ، ثم انشرح صدرى إِلى الصدق حين قرب وصوله ، فجاءَ فدخل المسجد على عادته إِذا قدم وصلى ركعتين وجلس للناس ، فجاءَ المخلفون يعتذرون ويحلفون وهم بضعة وثمانون رجلا ، فقبل منهم على ظاهرهم واستغفر لهم ، ولما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب وجلست بين يديه ، فقال : " ما خلفك ؟ أَلم تكن قد ابتعت مر كوبك ؟ " فقلت : بلى والله يا رسول الله لو جلست عند غيرك لاعتذرت ، ولقد أُوتيت جدلا لكن إِن كذبت فضحنى الله وأَسخطك على وإِن صدقت تغضب على وأَرجو عفو الله ، لا عذر لى تخلفت وأَنا موسر قادر . فقال : " أما هذا فقد صدق ، فقم حتى يقضى الله فيك " ، فقمت واتبعنى رجل من نبى سلمة يقولون ما أَذنبت قبل هذا ، فاعتذر كما اعتذروا يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما زالوا حتى كنت أُطاوعهم ، ثم قلت : هل معى مثلى ؟ قالوا : هلال ومرارة ، فذكروا صالحين شهدا بدرا ولى فيهما أًسوة فلم أَعتذر . قال فى هذا الصدق نزل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ } خطاب عام ، وقيل لمن أَسلموا من أَهل الكتاب { وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } كما مر عنه ولا يعارضه { يا أَيها الذين آمنوا اتقوا الله } ولا الأَمر بالمعية فلا مانع من أَن يقول الله للمؤمنين اتقوا الكذب والمعاصى ، وكونوا مع من صدق ككعب ابن مالك ومرارة وهلال فى الصدق مع التوبة فى إِخباركم وإِيمانكم ، وعهودكم وأَحوالكم وأَفعالكم وأَقوالكم ديناً ودنيا ، هكذا بحسب الإِمكان ، لا فى خصوص الصدق فى التخلف ولا يتوهم ذلك فلا إِشكال فلا تهم ، وقيل : المراد بالصادقين هؤلاءِ الثلاثة ، وقيل محمد وأَصحابه ، وقيل أَبو بكر وعمر وأَصحابهما ، وقيل : الصادقون كل الصادقين لا خصوص الثلاثة وهو المشهور ، وأَكذب الخلق إِبليس العياذ بالله منه ، وإِنما لم يكذب بترك { إِلا عِبَادَكَ منهمُ المُخْلَصِينَ } [ الحجر : 40 ] لأَنه تكلم مع الله ولا يخفى عنه شىءٌ ، لا لكونه استقبح الكذب فلا تهم ، قال ابن مسعود : لا يصلح الكذب فى جد ولا هزل ، ولا يعد أَحدكم صبيته شيئاً ثم لا ينجزه ، وتلا الآية ، وعنه صلى الله عليه وسلم : " كل الكذب يكتب على ابن آدم إلا رجلا كذب خدعة فى حرب أَو إِصلاح بين اثنين أَو ليرضى امرأَته " ، قال رجل : يا رسول الله أُريد الإِسلام ومنعنى أَنك تحرم الخمر والزنى والكذب والسرقة . فقال : " اترك الكذب " فأَسلم فعرض له الثلاثة فقال : " إِن فعلت وقلت لم أَفعل كذبت ، وإِن أَقررت حددت " ، فقال : يا رسول الله ما أَحسن ما فعلت لما منعتنى من الكذب ، انسد عنى أَبواب المعاصى .