Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 59, Ayat: 9-9)
Tafsir: Rūḥ al-maʿānī: fī tafsīr al-Qurʿān al-ʿaẓīm wa-s-sabʿ al-maṯānī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءوا ٱلدَّارَ وَٱلإيمَـٰنَ } الأكثرون على أنه معطوف على { الْمُهَاجِرِينَ } [ الحشر : 8 ] والمراد بهم الأنصار . والتبوّؤ النزول في المكان ، ومنه المباءة للمنزل ؛ ونسبته إلى الدار - والمراد بها المدينة - ظاهر ، وأما نسبته إلى الإيمان فباعتبار جعله مستقراً ومتوطناً على سبيل الاستعارة المكنية التخييلية . والتعريف في ( الدار ) للتنويه كأنها الدار التي تستحق أن تسمى داراً وهي التي أعدها الله تعالى لهم ليكون تبوّؤهم إياها مدحاً لهم . وقال غير واحد : الكلام من باب : @ علفتها تبناً وماءاً بارداً @@ أي تبوأوا الدار وأخلصوا الإيمان ، وقيل : التبوؤ مجاز مرسل عن اللزوم وهو لازم معناه فكأنه قيل : لزموا الدار والإيمان ، وقيل في توجيه ذلك : إن أل في ( الدار ) للعهد ، والمراد دار الهجرة وهي تغني غناء الإضافة وفي { وَٱلإِيمَـٰنَ } حذف مضاف أي ودار الإيمان / فكأنه قيل تبوأوا دار الهجرة ودار الإيمان على أن المراد بالدارين المدنية ، والعطف كما في قولك : رأيت الغيث والليث وأنت تريد زيداً ، ولا يخفى ما فيه من التكلف والتعسف ، وقيل : إن الإيمان مجاز عن المدينة سمي محل ظهور الشيء باسمه مبالغة وهو كما ترى ، وقيل : الواو للمعية والمراد تبوأوا الدار مع إيمانهم أي تبوأوها مؤمنين ، وهو أيضاً ليس بشيء ، وأحسن الأوجه ما ذكرناه أولاً ، وذكر بعضهم أن الدار علم بالغلبة على المدينة كالمدينة ، وأنه أحد أسماء لها منها طيبة وطابة ويثرب وجابرة إلى غير ذلك . وأخرج الزبير بن بكار عن زيد بن أسلم حديثاً مرفوعاً يدل على ذلك . { مِن قَبْلِهِمُ } أي من قبل المهاجرين ، والجار متعلق بتبوأوا ، والكلام بتقدير مضاف أي من قبل هجرتهم فنهاية ما يلزم سبق الإيمان الأنصار على هجرة المهاجرين ، ولا يلزم منه سبق إيمانهم على إيمانهم ليقال : إن الأمر بالعكس ، وجوز أن لا يقدر مضاف ، ويقال : ليس المراد سبق الأنصار لهم في أصل الإيمان بل سبقهم إياهم في التمكن فيه لأنهم لم ينازعوا فيه لما أظهروه . وقيل : الكلام على التقديم والتأخير ، والتقدير تبوأوا الدار من قبلهم والإيمان فيفيد سبقهم إياهم في تبوىء الدار فقط وهو خلاف الظاهر على أن مثله لا يقبل ما لم يتضمن نكتة سرية وهي غير ظاهرة هٰهنا ؛ وقيل : لا حاجة إلى شيء مما ذكر ، وقصارى ما تدل الآية عليه تقدم مجموع تبوىء الأنصاري وإيمانهم على تبوىء المهاجرين وإيمانهم ، ويكفي في تقدم المجموع تقدم بعض أجزائه وهو هٰهنا تبوؤ الدار ، وتعقب بمنع الكفاية ولو سلمت لصح أن يقال : بتقدم تبوىء المهاجرين وإيمانهم على تبوىء الأنصار وإيمانهم لتقدم إيمان المهاجرين . { يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } في موضع الحال من الموصول ، وقيل : استئناف ، والكلام قيل : كناية عن مواساتهم المهاجرين وعدم الاستثقال والتبرم منهم إذا احتاجوا إليهم ، وقيل : على ظاهره أي يحبون المهاجر إليهم من حيث مهاجرته إليهم لحبهم الإيمان { وَلاَ يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ } أي ولا يعلمون في أنفسهم { حَاجَةً } أي طلب محتاج إليه { مّمَّا أُوتُواْ } أي مما أعطي المهاجرون من الفيء وغيره ، وحاصله أن نفوسهم لم تتبع ما أعطي المهاجرون ولم تطمح إلى شيء منه تحتاج إليه ، فالوجدان إدراك علمي وكونه في الصدر من باب المجاز . والحاجة بمعنى المحتاج إليه ، وهو استعمال شائع يقال : خذ منه حاجتك وأعطاه من ماله حاجته . و { مِنْ } تبعيضية ، وجوز كونها بيانية والكلام على حذف مضاف وهو طلب ، وفيه فائدة جليلة كأنهم لم يتصوروا ذلك ولا مرّ في خاطرهم أن ذلك محتاج إليه حتى تطمح إليه النفس . ويجوز أن يكون المعنى لا يجدون في أنفسهم مايحمل عليه الحاجة كالحزازة والغيظ والحسد والغبطة لأجل ما أعطي المهاجرون على أن الحاجة مجاز عما يتسبب عنها ، وقيل : على أنها كناية عما ذكر لأنه لا ينفك عن الحاجة فأطلق اسم اللازم على الملزوم ، وما تقدم أولى ، وقول بعضهم : أي أثر حاجة تقدير معنى لا إعراب . و { مِنْ } في قوله تعالى : { مّمَّا أُوتُواْ } تعليلية . { وَيُؤْثِرُونَ } أي يقدمون المهاجرين { عَلَى أَنفُسِهِمْ } في كل شيء من الطيبات حتى أن من كان عنده امرأتان كان ينزل عن إحداهما ويزوجها واحداً منهم ، ويجوز أن لا يعتبر مفعول يؤثرون خصوص المهاجرين ، أخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن / أبـي هريرة قال : " أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أصابني الجهد فأرسلَ إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئاً فقال عليه الصلاة والسلام : ألا رجل يضيف هذا الرجل الليلة رحمه الله ؟ فقام رجل من الأنصار وفي رواية فقال أبو طلحة : أنا يا رسول الله فذهب به إلى أهله فقال لامرأته : أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : والله ما عندي إلا قوت الصبية قال : إذا أراد الصبية العشاء فنوميهم وتعالَيْ فأطفئي السراج ونطوي [ بطوننا ] الليلة لضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعلتْ ثم غدا الضيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : لقد عجب الله الليلة من فلان وفلانة وأنزل الله تعالى فيهما { وَيُؤْثِرُونَ } " الخ . وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في « الشعب » عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ، قال : أهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة فقال : إن أخي فلاناً وعياله أحوج إلى هذا منا فبعث به إليه فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى تداوله أهل سبعة أبيات حتى رجع إلى الأول فنزلت { وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ } { وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } أي حاجة من خصاص البيت وهو ما يبقي بين عيدانه من الفُرَج والفتوح . والجملة في موضع الحال ، وقد تقدم وجه ذلك مراراً { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ } الشح اللؤم وهو أن تكون النفس كزة حريصة على المنع كما قال : @ يمارس نفساً بين جنبيه كزة إذا هم بالمعروف قالت له مهلاً @@ وأضيف إلى النفس لأنه غريزة فيها ، وأما البخل فهو المنع نفسه ، وقال الراغب : الشح بخل مع حرص ؛ وذلك فيما كان عادة . وأخرج ابن المنذر عن الحسن أنه قال : البخل أن يبخل الإنسان بما في يده ، والشح أن يشح على ما في أيدي الناس ، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبـي شيبة وابن أبـي حاتم والبيهقي في « الشعب » والحاكم وصححه وجماعة عن ابن مسعود أن رجلاً قال له : إني أخاف أن أكون قد هلكت قال : وما ذاك ؟ قال : إني سمعت الله تعالى يقول : { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ } الآية وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج مني شيء فقال له ابن مسعود : ليس ذاك بالشح ولكنه البخل ولا خير في البخل ، وإن الشح الذي ذكره الله تعالى أن تأكل مال أخيك ظلماً ، وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال : ليس الشح أن يمنع الرجل ماله ولكنه البخل إنما الشح أن تطمح عين الرجل إلى ما ليس له ، ولم أر لأحد من اللغويين شيئاً من هذه التفاسير للشح ، ولعل المراد أنه البخل المتناهي بحيث يبخل المتصف به بمال غيره أي لا يودّ جود الغير به وتنقبض نفسه منه ويسعى في أن لا يكون ، أو بحيث يبلغ به الحرص إلى أن يأكل مال أخيه ظلماً أو تطمح عينه إلى ما ليس له ولا تسمح نفسه بأن يكون لغيره فتأمل . وقرأ أبو حيوة وابن أبـي عبلة { وَمَن يُوقَِّ } بشدّ القاف ، وقرأ ابن عمر وابن أبـي عبلة { شح } بكسر الشين ، وجاء في لغة الفتح أيضاً ، ومعنى الكل واحد . ومعنى الآية ومن يوق بتوفيق الله تعالى ومعونته شح نفسه حتى يخالفها فيما يغلب عليها من حب المال وبغض الإنفاق { فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } الفائزون بكل مطلوب الناجون من كل مكروه ، والجملة الشرطية تذييل حسن ومدح للأنصار بما هو غاية لتناوله إياهم تناولاً أولياً ، وفي الإفراد أولاً والجمع ثانياً رعاية للفظ من ومعناها وإيماء إلى قلة المتصفين بذلك في الواقع عدداً وكثرتهم معنى : @ / والناس ألف منهم كواحد وواحد كالألف إن أمر عنا @@ ويفهم من الآية ذم الشح جداً ، وقد وردت أخبار كثيرة بذمه ، أخرج الحكيم الترمذي وأبو يعلى وابن مردويه عن أنس مرفوعاً " ما محق الإسلام محق الشح شيء قط " ، وأخرج ابن أبـي شيبة والنسائي والبيهقي في « الشعب » والحاكم وصححه عن أبـي هريرة مرفوعاً " لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان نار جهنم في جوف عبد أبداً ولا يجتمع الإيمان والشح في قلب عبد أبداً " وأخرج أبو داود والترمذي وقال غريب والبخاري في « الأدب » وغيرهم عن أبـي سعيد الخدري مرفوعاً " خصلتان لا يجتمعان في جوف مسلم البخل وسوء الخلق " وأخرج ابن أبـي الدنيا وابن عدي والحاكم والخطيب عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خلق الله تعالى جنة عدن وغرس أشجارها بيده ثم قال لها : انطقي فقالت : قد أفلح المؤمنون فقال الله عز وجل : وعزتي وجلالي لا يجاورني فيك بخيل ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } " وأخرج أحمد والبخاري في « الأدب » ومسلم والبيهقي عن جابر بن عبد الله أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال : " اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشح فإن الشح قد أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم " إلى غير ذلك من الأخبار ، لكن ينبغي أن يعلم أن تقوى الشح لا تتوقف على أن يكون الرجل جواداً بكل شيء ، فقد أخرج عبد بن حميد وأبو يعلى والطبراني والضياء عن مجمع بن يحيـى مرفوعاً " برىء من الشح من أدى الزكاة وقرى الضيف وأدى في النائبة " وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله ما يقرب منه ، وكذا ابن جرير والبيهقي عن أنس ، وأخرج ابن المنذر عن علي كرم الله تعالى وجهه قال : من أدى زكاة ماله فقد وقى شح نفسه .