Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 16, Ayat: 120-122)

Tafsir: Aḍwāʾ al-bayān fī īḍāḥ al-Qurʾān bi-l-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

استئناف ابتدائي للانتقال إلى غرض التّنويه بدين الإسلام بمناسبة قوله { ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا } سورة النحل 119 المقصودِ به أنّهم كانوا في الجاهلية ثم اتّبعوا الإسلام ، فبعد أن بشرهم بأنه غفر لهم ما عملوه من قبل زادهم فضلاً ببيان فضل الدين الذي اتّبعوه . وجُعل الثناء على إبراهيم ــــ عليه السلام ــــ مقدّمة لذلك لِبيان أن فضل الإسلام فضْل زائد على جميع الأديان بأن مبدأه برسول ومنتهاه برسول . وهذا فضل لم يحظ به دين آخر . فالمقصود بعد هذا التمهيد وهاته المقدّمة هو الإفضاء إلى قوله { ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً } سورة النحل 123 ، وقد قال تعالى في الآية الأخرى { ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل } سورة الحج 78 . والأصل الأصيل الذي تفرّع عنه وعن فروعه هذا الانتقالُ ما ذكر في الآية قبلها من تحريم أهل الجاهلية على أنفسهم كثيراً مما أنعم الله به على الناس . ونظّرهم باليهود إذ حرّم الله عليهم أشياء ، تشديداً عليهم ، فجاء بهذا الانتقال لإفادة أن كلا الفريقين قد حادوا عن الحنيفية التي يزعمون أنهم متابعوها ، وأن الحنيفية هي ما جاء به الإسلام من إباحة ما في الأرض جميعاً من الطيّبات ، إلا ما بيّن الله تحريمه في آية { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرماً } سورة الأنعام 145 الآية . وقد وُصف إبراهيم عليه السلام بأنه كان أمّة . والأمّة الطائفة العظيمة من الناس التي تجمعها جهة جامعة . وتقدم في قوله تعالى { كان الناس أمّة واحدة } في سورة البقرة 213 . ووصفُ إبراهيم عليه السلام بذلك وصفٌ بديع جامع لمعنيين أحدهما أنه كان في الفضل والفتوة والكمال بمنزلة أمّة كاملة . وهذا كقولهم أنت الرجل كل الرجل ، وقول البحْتري @ ولم أر أمثال الرجال تفاوتاً لدى الفضل حتى عُدّ ألفٌ بواحد @@ وعن عمر بن الخطاب ــــ رضي الله عنه ــــ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " مَعاذٌ أمّة قانتٌ لله " والثاني أنه كان أمّة وحده في الدين لأنه لم يكن في وقت بعثته ، موحّدٌ لله غيره . فهو الذي أحيا الله به التوحيد ، وبثّه في الأمم والأقطار ، وبنَى له معلماً عظيماً ، وهو الكعبة ، ودعا الناس إلى حجّه لإشاعة ذكره بين الأمم ، ولم يزل باقياً على العصور . وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم في خَطر بن مالك الكاهن " وأنه يبعث يوم القيامة أمّةً وحدَه " ، رواه السهيلي في « الروض الأنف » . ورأيت رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذه المقالة في زيد بن عَمرو بن نُفيل . والقانت المطيع . وقد تقدم في قوله تعالى { وقوموا لله قانتين } في سورة البقرة 238 . واللام لام التقوية لأن العامل فرع في العمل . والحنيف المجانب للباطل . وقد تقدم عند قوله { قل بل ملّة إبراهيم حنيفاً } في سورة البقرة 135 ، والأسماء الثلاثة أخبار { كان } وهي فضائل . { ولم يك من المشركين } اعتراض لإبطال مزاعم المشركين أن ما هم عليه هو دين إبراهيم ــــ عليه السلام ــــ . وقد صوّروا إبراهيم وإسماعيل ــــ عليهما السلام ــــ يستقسمان بالأزلام ووضعوا الصورة في جوف الكعبة ، كما جاء في حديث غزوة الفتح ، فليس قوله { ولم يك من المشركين } مسوقاً مساق الثناء على إبراهيم ولكنه تنزيه له عمّا اختلقه عليه المبطلون . فوزانه وزان قوله { وما صاحبكم بمجنون } سورة التكوير 22 . وهو كالتأكيد لوصف الحنيف بنفي ضدّه مثل { وأضلّ فرعون قومه وما هدى } سورة طه 79 . ونُفي كونه من المشركين بحرف { لم } لأن { لم } تقلب زمن الفعل المضارع إلى الماضي ، فتفيد انتفاء مادة الفعل في الزمن الماضي ، وتفيد تجدّد ذلك المنفي الذي هو من خصائص الفعل المضارع فيحصل معنيان انتفاءُ مدلول الفعل بمادته ، وتجدّد الانتفاء بصيغته ، فيفيد أن إبراهيم ــــ عليه السلام ــــ لم يتلبّس بالإشراك قط ، فإن إبراهيم ــــ عليه السلام ــــ لم يشرك بالله منذ صار مميّزاً ، وأنه لا يتلبّس بالإشراك أبداً . و { شاكراً لأنعمه } خبر رابع عن { كان } . وهو مدح لإبراهيم ــــ عليه السلام ــــ وتعريض بذرّيته الذين أشركوا وكفروا نعمة الله مُقابل قوله { فكفرت بأنعم الله } سورة النحل 112 . وتقدم قريباً الكلام على أنعُم الله . وجملة { اجتباه } مستأنفة استئنافاً بيانياً ، لأن الثّناء المتقدّم يثير سؤال سائل عن سبب فوز إبراهيم بهذه المحامد ، فيجاب بأن الله اجتباه ، كقوله تعالى { الله أعلم حيث يجعل رسالته } سورة الأنعام 124 . والاجتباء الاختيار ، وهو افتعال من جبى إذا جمع . وتقدم في قوله تعالى { واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم } في سورة الأنعام 87 . والهداية إلى الصراط المستقيم الهداية إلى التوحيد ودين الحنيفية . وضمير { آتيناه } التفات من الغيبة إلى التكلّم تفنّناً في الأسلوب لتَوَالي ثلاثة ضمائر غيبة . والحسنة في الدنيا كل ما فيه راحة العيش من اطمئنان القلب بالدين ، والصحة ، والسلامة ، وطول العمر ، وسعة الرزق الكافي ، وحسن الذكر بين الناس . وقد تقدّم في قوله { ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة } سورة البقرة 201 . والصلاح تمام الاستقامة في دين الحقّ . واختير هذا الوصف إشارة إلى أن الله أكرمه بإجابة دعوته ، إذ حكى عنه أنه قال { ربّ هب لي حكماً وألحقني بالصالحين } سورة الشعراء 83 .