Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 19, Ayat: 30-33)
Tafsir: Aḍwāʾ al-bayān fī īḍāḥ al-Qurʾān bi-l-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
كلام عيسى هذا مما أهملته أناجيل النصارى لأنهم طووا خبر وصولها إلى أهلها بعد وضعها ، وهو طيّ يتعجب منه . ويدل على أنها كتبت في أحوال غير مضبوطة ، فأطلع الله تعالى عليه نبيئه - صلى الله عليه وسلم - . والابتداء بوصف العبودية لله ألقاه الله على لسان عيسى لأن الله علم بأن قوماً سيقولون إنه ابن الله . والتعبير عن إيتاء الكتاب بفعل المضي مراد به أن الله قدّر إيتاءه إياه ، أي قدّر أن يوتيني الكتاب . والكتاب الشريعة التي من شأنها أن تكتب لئلا يقع فيها تغيير . فإطلاق الكتاب على شريعة عيسى كإطلاق الكتاب على القرآن . والمراد بالكتاب الإنجيل وهو ما كتب من الوحي الذي خاطب الله به عيسى . ويجوز أن يراد بالكتاب التوراة فيكون الإيتاء إيتاءَ علم ما في التوراة كقوله تعالى { يا يحيى خذ الكتاب بقوة } مريم 12 فيكون قوله { وجعلني نبياً } ارتقاء في المراتب التي آتاه الله إياها . والقول في التعبير عنه بالماضي كالقول في قوله و { ءاتانِي الكِتَابَ } . والمبارَك الذي تُقارن البركةُ أحوالَه في أعماله ومحاورته ونحو ذلك ، لأن المبارك اسم مفعول من باركه ، إذا جعله ذا بركة ، أو من بَارك فيه ، إذا جعل البركة معه . والبركة الخير واليمن . ذلك أن الله أرسله برحمة لبني إسرائيل ليُحلّ لهم بعض الذي حُرم عليهم وليدعوَهم إلى مكارم الأخلاق بعد أن قست قلوبهم وغيروا من دينهم ، فهذه أعظم بركة تقارنه . ومن بركته أن جعل الله حُلوله في المكان سبباً لخير أهل تلك البقعة من خصبها واهتداء أهلها وتوفيقهم إلى الخير ، ولذلك كان إذا لقيه الجهلة والقُسَاة والمفسدون انقلبوا صالحين وانفتحت قلوبهم للإيمان والحكمة ، ولذلك ترى أكثر الحواريين كانوا من عامة الأميين من صيادين وعشّارين فصاروا دُعاة هدى وفاضت ألسنتهم بالحكمة . وبهذا يظهر أن كونه مباركاً أعم من كونه نبيئاً عموماً وجهياً ، فلم يكن في قوله { وجعلني نبياً } غُنية عن قوله { وجعلني مُبَاركاً } . والتّعميم الّذي في قوله { أين مَا كُنتُ } تعميم للأمكنة ، أي لا تقتصر بركته على كونه في الهيكل بالمقدس أو في مجمع أهل بلده ، بل هو حيثما حلّ تحلّ معه البركة . والوصاية الأمر المؤكد بعمل مستقبل ، أي قدّر وصيتي بالصلاة والزكاة ، أي أن يأمرني بهما أمراً مؤكداً مستمراً ، فاستعمال صيغة المضي في { أوصاني } مثل استعمالها في قوله { ءاتَانِي الكِتَابَ } . والزّكاة الصدقة . والمراد أن يصلّي ويزكّي . وهذا أمر خاص به كما أمر نبيئنا - صلى الله عليه وسلم - بقيام الليل ، وقرينة الخصوص قوله { مَا دُمْتُ حَيّاً } لدلالته على استغراق مدة حياته بإيقاع الصلاة والصدقة ، أي أن يصلي ويتصدّق في أوقات التمكن من ذلك ، أي غير أوقات الدعوة أو الضرورات . فالاستغراق المستفاد من قوله { مَا دُمْتُ حَيّاً } استغراقٌ عرفي مراد به الكثرة وليس المراد الصلاة والصدقة المفروضتين على أمته ، لأن سياق الكلام في أوصاف تميّز بها عيسى - عليه السلام - ، ولأنه لم يأت بشرع صلاة زائدة على ما شرع في التوراة . والبَرّ ــــ بفتح الباء ــــ اسم بمعنى البار . وتقدم آنفاً . وقد خصه الله تعالى بذلك بين قومه ، لأن برّ الوالدين كان ضعيفاً في بني إسرائيل يومئذ ، وبخاصة الوالدة لأنها تستضعف ، لأن فرط حنانها ومشقتها قد يجرئان الولد على التساهل في البرّ بها . والجبّار المتكبر الغليظ على الناس في معاملتهم . وقد تقدّم في سورة هود 59 قوله { واتبعوا أمر كل جبار عنيد } والشقيّ الخاسر والذي تكون أحواله كدرة له ومؤلمة ، وهو ضدّ السعيد . وتقدّم عند قوله تعالى { فمنهم شقي وسعيد } في آخر سورة هود 105 . ووصف الجبار بالشقي باعتبار مآله في الآخرة وربما في الدنيا . وقوله { والسَّلامُ عليَّ يَوْم وُلِدتُّ } إلى آخره ، تنويه بكرامته عند الله ، أجراه على لسانه ليعلموا أنه بمحل العناية من ربّه ، والقول فيه تقدّم في آية ذكر يحيى . وجيء بـ { السّلام } هنا معرّفاً باللاّم الدّالة على الجنس مبالغة في تعلّق السلام به حتى كان جنس السلام بأجمعه عليه . وهذا مؤذن بتفضيله على يحيى إذ قيل في شأنه { وسَلام عليه يومُ ولد } مريم 15 ، وذلك هو الفرق بين المعرّف بلام الجنس وبين النكرة . ويجوز جعل اللام للعهد ، أي سلام إليه ، وهو كناية عن تكريم الله عبده بالثناء عليه في الملأ الأعلى وبالأمر بكرامته . ومن هذا القبيل السلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما } الأحزاب56 ، وما أمرنا به في التشهد في الصلاة من قول المتشهد « السّلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته » . ومؤذن أيضاً بتمهيد التّعريض باليهود إذ طعنوا فيه وشتموه في الأحوال الثلاثة ، فقالوا ولد من زنى ، وقالوا مات مصلوباً ، وقالوا يحشر مع الملاحدة والكفرة ، لأنهم يزعمون أنه كفر بأحكام من التوراة .