Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 19, Ayat: 59-63)
Tafsir: Aḍwāʾ al-bayān fī īḍāḥ al-Qurʾān bi-l-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
فرع على الثناء عليهم اعتبارٌ وتنديد بطائفة من ذرياتهم لم يقتدوا بصالح أسلافهم وهم المعني بالخَلْف . والخلْف ــــ بسكون اللام ــــ عقب السُوء ، و ــــ بفتح اللام ــــ عقب الخير . وتقدم عند قوله تعالى { فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب } في سورة الأعراف 169 . وهو هنا يشمل جميع الأمم التي ضلّت لأنها راجعة في النّسب إلى إدريس جدّ نوح إذ هم من ذرية نوح ومن يرجع أيضاً إلى إبراهيم ، فمنهم من يدلي إليه من نسل إسماعيل وهم العرب . ومنهم من يدلي إليْه من نسل يعقوب وهم بنو إسرائيل . ولفظ { من بعدهم } يشمل طبقات وقروناً كثيرة ، ليس قيداً لأنّ الخلف لا يكون إلاّ من بعد أصله وإنّما ذُكر لاستحضار ذهاب الصالحين . والإضاعة مجاز في التفريط بتشبيهه بإهمال العَرْض النفيس ، فرطوا في عبادة الله واتبعوا شهواتهم فلم يخالفوا ما تميل إليه أنفسهم ممّا هو فساد . وتقدم قوله تعالى { إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً } في سورة الكهف 30 . والصلاة عبادة الله وحده . وهذان وصفان جامعان لأصناف الكفر والفسوق ، فالشرك إضاعة للصلاة لأنّه انصراف عن الخضوع لله تعالى ، فالمشركون أضاعوا الصلاة تماماً ، قال تعالى { قالوا لم نك من المصلّين } المدثر 43 . والشرك اتباع للشّهوات ، لأنّ المشركين اتّبعوا عبادة الأصنام لمجرد الشهوة من غير دليل ، وهؤلاء هم المقصود هنا ، وغير المشركين كاليهود والنصارى فَرطوا في صلوات واتبعوا شهوات ابتدعوها ، ويشمل ذلك كله اسم الغيّ . والغيّ الضلال ، ويطلق على الشرّ ، كما أطلق ضده وهو الرشَد على الخير في قوله تعالى { أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشداً } الجنّ 10 وقوله { قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً } الجنّ 21 . فيجوز أن يكون المعنى فسوف يلقون جزاء غيّهم ، كقوله تعالى { ومن يفعل ذلك يلق أثاماً } الفرقان 68 أي جزاء الآثام . وتقدم الغيّ في قوله تعالى { وإخوانهم يمدونهم في الغي } وقوله { وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلاً } كلاهما في سورة الأعراف 202و 146 . وقرينة ذلك مقابلته في ضدهم بقوله { فأُولَئِكَ يدْخُلونَ الجنّة } . وحرف سوف دال على أن لقاءهم الغيّ متكرر في أزمنة المستقبل مبالغة في وعيدهم وتحذيراً لهم من الإصرار على ذلك . وقوله { فأُولَئِكَ يدْخُلونَ الجنّة } جيء في جانبهم باسم الإشارة إشادة بهم وتنبيهاً لهم للترغيب في توبتهم من الكفر . وجيء بالمُضارع الدّال على الحال للإشارة إلى أنهم لا يُمْطَلُون في الجزاء . والجنّة عَلَم لدار الثواب والنّعيم . وفيها جنّات كثيرة كما ورد في الحديث " أَو جَنَّةٌ واحدة هي إنّها لجنان كثيرة " والظلم هنا بمعنى النقص والإجحاف والمطل . كقوله { كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئاً } في سورة الكهف 33 . وشي اسم بمعنى ذات أو موجود وليس المراد مصدر الظلم . وذكر { شيئاً } في سياق النفي يفيد نفي كل فرد من أفراد النقص والإجحاف والإبطاء ، فيعلم انتفاء النقص القوي بالفحوى دفعاً لما عسى أن يخالج نفوسهم من الانكسار بعد الإيمان يظن أنّ سبق الكفر يَحط من حسن مصيرهم . و { جَنَّات } بدل من { الجنّة } . جيء بصيغة جمع جنات مع أن المبدل منه مفرد لأنه يشتمل على جنات كثيرة كما علمت ، وهو بدل مطابق وليس بدل اشتمال . و { عَدْن } الخلد والإقامة ، أي جنات خلد ووصفها بـ { التي وعد الرحمان عباده } لزيادة تشريفها وتحسينها . وفي ذلك إدماج لتبشير المؤمنين السابقين في أثناء وعد المدعوين إلى الإيمان . والغيب مصدر غاب ، فكل ما غاب عن المشاهدة فهو غيب . وتقدم في قوله تعالى { الذين يؤمنون بالغيب } في أول البقرة 3 . والباء في { بالغيب } للظرفية ، أي وعدها إياهم في الأزمنة الغائبة عنهم . أي في الأزل إذ خلقها لهم . قال تعالى { أعدت للمتقين } آل عمران 133 . وفيه تنبيه على أنها وإن كانت محجوبة عنهم في الدنيا فإنها مهيئة لهم . وجملة { إنه كان وعده مأتياً } تعليل لجملة { التي وعد الرحمٰن عباده بالغيب } أي يدخلون الجنة وعداً من الله واقعاً . وهذا تحقيق للبشارة . والوعد هنا مصدر مستعمل في معنى المفعول . وهو من باب كَسا ، فالله وعد المؤمنين الصالحين جنات عدن . فالجنات لهم موعودة من ربهم . والمأتِي الذي يأتيه غيره . وقد استعير الإتيان لحصول المطلوب المترقب ، تشبيهاً لمن يحصل الشيء بعد أن سعى لتحصيله بمن مشى إلى مكان حتى أتاه . وتشبيهاً للشيء المحصل بالمكان المقصود . ففي قوله { مأتِيّا } تمثيلية اقتصر من أجزائها على إحدى الهيئتين ، وهي تستلزم الهيئة الأخرى لأنّ المأتي لا بد له من آت . وجملة { لا يسْمعُونَ فيها لغْواً } حال من { عبَادَه } . واللغو فضول الكلام وما لا طائل تحته . وإنفاؤه كناية عن انتفاء أقل المكدرات في الجنة ، كما قال تعالى { لا تسمع فيها لاغية } الغاشية 11 ، وكناية عن جعل مجازاة المؤمنين في الجنة بضد ما كانوا يلاقونه في الدنيا من أذى المشركين ولغوهم . وقوله { إلاَّ سَلٰماً } استثناء منقطع وهو مجاز من تأكيد الشيء بما يشبه ضدّه كقول النّابغة @ ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب @@ أي لكن تسمعون سلاماً . قال تعالى { تحيتهم فيها سلام } إبراهيم 23 وقال { لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً إلا قيلاً سلاماً سلاماً } الواقعة 25 ، 26 . والرزق الطعام . وجيء بالجملة الاسمية للدلالة على ثبات ذلك ودوامه ، فيفيد التكرر المستمر وهو أخص من التكرر المفاد بالفعل المضارع وأكثر . وتقديم الظرف للاهتمام بشأنهم ، وإضافة رزق إلى ضميرهم لزيادة الاختصاص . والبُكرة النصف الأول من النهار ، والعَشي النصف الأخير ، والجمع بينهما كناية عن استغراق الزمن ، أي لهم رزقهم غير محصور ولا مقدّر بل كلما شاءوا فلذلك لم يذكر اللّيل . وجملة { تلك الجنّة } مستأنفة ابتدائية . واسم الإشارة لزيادة التمييز تنويهاً بشأنها وأجريت عليها الصفة بالموصول وصلته تنويهاً بالمتقين وأنهم أهل الجنة كما قال تعالى { أعدت للمتقين } آل عمران 133 . و { نورث } نجعل وارثاً ، أي نعطي الإرث . وحقيقة الإرث انتقال مال القريب إلى قريبه بعد موته لأنّه أولى الناس بماله فهو انتقال مقيّد بحالة . واستعير هنا للعطيّة المدّخرة لمعطاها ، تشبيهاً بمال المَوروث الذي يصير إلى وارثه آخر الأمر . وقرأ الجمهور { نورث } بسكون الواو بعد الضمة وتخفيف الراء ، وقرأه رويس عن يعقوب نوَرّث - بفتح الواو وتشديد الراء - من وَرّثه المضاعف .