Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 20-20)

Tafsir: Aḍwāʾ al-bayān fī īḍāḥ al-Qurʾān bi-l-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

تفريع على قوله { إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب } آل عمران 19 الآية فإنّ الإسلام دين قد أنكروه ، واختلافهم في أديانهم يفضي بهم إلى محاجّة الرسول في تبرير ما هم عليه من الدين ، وأنّهم ليسوا على أقلّ مما جاء به دين الإسلام . والمحاجة مُفاعلة ولم يجىء فِعلها إلاَّ بصيغة المفاعلة . ومعنى المحاجّة المخاصمة ، وأكثر استعمال فعل حاجّ في معنى المخاطمة بالباطل كما في قوله تعالى { وحاجّهُ قومه } الأنعام 80 وتقدم عند قوله تعالى { ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه } في سورة البقرة 258 . فالمعنى فإن خاصموك خصام مكابرة فقل أسلمت وجهي لله . وضمير الجمع في قوله { فإن حاجوك } عائد إلى غير مذكور في الكلام ، بل معلوم من المقام ، وهو مقام نزول السورة ، أعني قضية وفد نجران فإنّهم الذين اهتمّوا بالمحاجّة حينئذ . فأما المشركون فقد تباعدَ ما بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم بَعْدَ الهجرة ، فانقطعت محاجّتهم ، وأما اليهود فقد تظاهروا بمسالمة المسلمين في المدينة . وقد لقّن الله رسوله أن يجيب مجادلتهم بقوله { أسلمت وجهي لله } والوجه أطلق على النفس كما في قوله تعالى { كل شيء هالك إلاّ وجهه } القصص 88 أي ذاته . وللمفسّرين في المراد من هذا القول طرايق ثلاث إحداها أنّه متاركة وإعْراض عن المجادلة أي اعترفت بأن لا قدرة لي على أن أزيدكم بياناً ، أي أنّي أتيت بمنتهى المقدور من الحجّة فلم تقتنعوا ، فإذ لم يقنعكم ذلك فلا فائدة في الزيادة من الأدلة النظرية ، فليست محاجّتكم إياي إلاّ مكابرة وإنكاراً للبديهيات والضروريات ، ومباهته ، فالأجدر أن أكفّ عن الازدياد . قال الفخر فإن المُحِقّ إذا ابتُلي بالمُبْطل اللَّجوج يقول أمّا أنا فمنقاد إلى الحق . وإلى هذا التفسير مال القرطبي . وعلى هذا الوجه تكون إفادة قطع المجادلة بجملة { أسلمت وجهي لله ومن اتّبعن } وقوله { أأسلمتم } دون أن يقال فأعرض عنهم وقُل سلام ، ضَرْباً من الإدماج إذ أدمج في قطع المجادلة إعادةَ الدعوة إلى الإسلام ، بإظهار الفرق بين الدينين . والقصد من ذلك الحرصُ على اهتدائهم ، والإعذارُ إليهم ، وعلى هذا الوجه فإنّ قوله { وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم } خارج عن الحاجة ، وإنّما هو تكرّر للدعوة ، أي اتْرُكْ محاجَّتهم ولا تَترك دعوتهم . وليس المراد بالحِجاج الذي حاجَّهم به خصوصَ ما تقدم في الآيات السابقة ، وإنّما المراد ما دار بين الرسول وبين وفد نجران من الحجاج الذي علِموه فمنهُ ما أشير إليه في الآيات السابقة ، ومنه ما طُوي ذكره . الطريقة الثانية أنّ قوله { فقل أسلمت وجهي } تلخيص للحجة ، واستدراج لتسليمهم إياها ، وفي تقريره وجوه مآلها إلى أنّ هذا استدلال على كون الإسلام حقاً ، وأحسنها ما قال أبو مسلم الأصفهاني إنّ اليهود والنصارى والمشركين كانوا متّفقين على أحقّية دين إبراهيم عليه السلام إلاّ زيادات زادتها شرائعهم ، فكما أمر الله رسوله أن يتّبع ملة إبراهيم في قوله { ثم أوحينا إليك أن اتّبع ملة إبراهيم حنيفاً } النحل 123 أمَرَه هنا أن يجادل الناس بمثل قول إبراهيم فإبراهيم قال { إنّي وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض } الأنعام 79 ومحمد عليه الصلاة والسلام قال " أسلمت وجهي لله " أي فقد قلتُ ما قاله الله ، وأنتم معترفون بحقيقة ذلك ، فكيف تنكرون أنّي على الحق ، قال وهذا من باب التمسّك بالإلزامات وداخل تحت قوله { وجادلهم بالتي هي أحسن } النحل 125 . الطريقة الثالثة ما قاله الفخر وحاصله مع بيانه أن يكون هذا مرتبطاً بقوله { إن الدين عند الله الإسلام } آل عمران 19 أي فإن حاجّوك في أنّ الدين عند الله الإسلام ، فقل إنّي بالإسلام أسلمتُ وجهي لله فلا ألتفتُ إلى عبادة غيره مثلكم ، فديني الذي أرسلتُ به هو الدين عند الله أي هو الدين الحقّ وما أنتم عليه ليس ديناً عند الله . وعلى الطريقتين الأوليين في كلام المفسّرين جعلوا قوله { وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم } خارجاً عن الحجة إذ لا علاقة بينه وبين كون الإسلام هو ملّة إبراهيم ، ويكون مراداً منه الدعوة إلى الإسلام مرة أخرى بطريقة الاستفهام المستعمل في التحْضيض كقوله { فهل أنتم منتهون } المائدة 91 أي قل لأولئك أتُسلمون . وعندي أنّ التعليق بالشرط لما اقتضى أنّه للمستقبل فالمراد بفعل « حاجُّوك » الاستمرار على المحاجّة أي فإن استمرّ وفدُ نجران على محاجّتهم فقل لهم قولاً فَصْلاً جامعاً للفَرْق بين دينك الذي أرسلتَ به وبين ما هُم متديّنون به . فمعنى { أسلمت وجهي لله } أخلصت عبوديتي له لا أوَجِّه وجهي إلى غيره ، فالمراد أنّ هذا كُنْه دين الإسلام ، وتَبيَّن أنَّه الدين الخالص ، وأنّهم لا يُلْفُوْن تَدَيّنهم على هذا الوصفِ . وقوله { وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم } معطوف على جملة الشرط المفرّعة على ما قبلها ، فيدخل المعطوف في التفريع ، فيكون تقديرُ النظم ومن يكفر بآيات الله فإنّ الله سريع الحساب فقُل للذين كفروا بآيات الله الذين أوتوا الكتاب والأميّين أأسلمتم ، أي فكرِّرْ دعوتهم إلى الإسلام . والاستفهامُ مستعمل في الاستبطاء والتحضيض كما في قوله تعالى { فهل أنتم منتهون } المائدة 91 . وجيء بصيغة الماضي في قوله { أأسلمتم } دون أن يقول أتسلمون على خلاف مقتضى الظاهر ، للتنبيه على أنّه يَرجو تحقق إسلامهم ، حتى يكونَ كالحاصل في الماضي . اعلم أنّ قوله { أسلمت وجهي لله } كلمة جامعة لمعاني كنه الإسلام وأصوله ألقيت إلى الناس ليتدبّروا مطاويها فيهتدي الضالون ، ويزداد المسلمون يقيناً بدينهم إذ قد علمنا أنّ مجيء قوله { أسلمت وجهي لله } عقب قوله { إن الدين عند الله الإسلام } آل عمران 19 وقوله { فإن حاجوك } وتعقيبه بقوله { أأسلمتم } أنّ المقصود منه بيان جامع معاني الإسلام حتى تسهل المجادلة ، وتختصر المقاولة ، ويسهل عَرض المتشككين أنفسهم على هذه الحقيقة ، ليعلموا ما هم عليه من الديانة . وبَيّنتْ هذه الكلمة أنّ هذا الدين يترجم عن حقيقة اسمه فإنّ اسمه الإسلام ، وهو مفيد معنى معروفاً في لغتهم يرجع إلى الإلقاء والتسليم ، وقد حذف مفعوله ونُزِّل الفعل منزلة الفعل اللاّزم فعلم أنّ المفعول حذف لدلالة معنى الفاعل عليهِ ، فكأنّه يقول أسلمتُني أي أسلمتُ نفسي ، فبُين هنا هذا المفعول المحذوف من اسم الإسلام لئلاّ يقع فيه التباس أو تأويل لما لا يطابق المراد ، فعبّر عنه بقوله وجهي أي نفسي لظهور ألاّ يحسن محمل الوجه هنا على الجزء المعروف من الجسد ، ولا يفيد حمله عليه ما هو المقصود ، بل المعنى البَيِّن هو أن يراد بالوجه كامل الذات ، كقوله تعالى { كل شيء هالك إلا وجهه } القصص 88 . وإسلام النفس لله معناه إسلامها لأجله وصيرورتها ملكاً له ، بحيث يكون جميع أعمال النفس في مرضاة الله ، وتحت هذا معانٍ جمّة هي جماع الإسلام نحصرها في عشرة المعنى الأول تمام العبودية لله تعالى ، وذلك بألاّ يعبد غير الله ، وهذا إبطال للشرك لأنّ المشرك بالله غير الله لم يسلم نفسه لله بل أسلم بعضَها . المعنى الثاني إخلاصُ العمل لله تعالى فلا يلحظ في عمله غير الله تعالى ، فلا يرائي ولا يصانع فيما لا يرضي الله ولا يُقدّم مرضاةَ غير الله تعالى على مرضاة الله . الثالث إخلاص القول لله تعالى فلا يقول ما لا يرضَى به الله ، ولا يصدر عنه قول إلاّ فيما أذن الله فيه أن يقال ، وفي هذا المعنى تجيء الصراحة ، والأمرُ بالمعروف ، والنهيُ عن المنكر ، على حسب المقدرة والعلمِ ، والتَّصدِي للحجة لتأييد مراد الله تعالى ، وهي صفة امتاز بها الإسلام ، ويندفع بهذا المعنى النفاق ، والملق ، قال تعالى في ذكر رسوله { وما أنا من المتكلّفين } يس 86 . الرابع أن يكون ساعياً لِتَعَرُّف مرادِ الله تعالى من الناس ، ليُجري أعماله على وفقه ، وذلك بالإصغاء إلى دعوة الرسل المخبرين بأنّهم مرسلون من الله ، وتلقّيها بالتأمّل في وجود صدقها ، والتمييز بينها وبين الدعاوي الباطلة ، بدون تحفّز للتكذيب ، ولا مكابرة في تلقّي الدعوة ، ولا إعراضٍ عنها بداعي الهوى وهو الإفحام ، بحيث يكون علمه بمراد الله من الخلق هو ضالته المنشودة . الخامس امتثال ما أمر الله به ، واجتناب ما نهى عنه ، على لسان الرسل الصادقين ، والمحافظة على اتّباع ذلك بدون تغيير ولا تحريف ، وأن يذود عنه من يريد تغييره . السادس ألاّ يجعل لنفسه حُكماً مع الله فيما حكم به ، فلا يتصدّى للتحكّم في قبول بعض ما أمر الله به ونبذِ البعض . كما حكى الله تعالى { وإذا دُعوا إلى الله ورسوله لِيحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين } النور 48 ، 49 ، وقد وصف الله المسلمين بقوله { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسولُه أمراً أنْ يكون لهم الخِيَرَةُ من أمرهم } الأحزاب 36 ، فقد أعرض الكفّار عن الإيمان بالبعث لأنّهم لم يشاهدوا ميّتاً بُعث . السابع أن يكون متطلّباً لمراد الله ممّا أشكل عليه فيه ، واحتاج إلى جريه فيه على مراد الله بتطلّبه من إلحاقه بنظائره التامةِ التنظيرِ بما عُلم أنّه مراد الله ، كما قال الله تعالى { ولو ردّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم } النساء 83 ولهذا أدخل علماء الإسلام حكم التفقّه في الدين والاجتهاد ، تحت التقوى المأمور بها في قوله تعالى { فاتقوا الله ما استطعتم } التغابن 16 . الثامن الإعراض عن الهوى المذموم في الدين ، وعن القولِ فيه بغير سلطان { ومن أضَلُّ ممن اتّبع هواه بغير هُدًى من الله } القصص 50 . التاسع أن تكون معاملة أفراد الأمة بعضها بعضاً ، وجماعاتِها ، ومعاملتها الأممَ كذلك ، جارية على مراد الله تعالى من تلك المعاملات . العاشر التصديق بما غُيّب عنّا ، مما أنبأنا الله به من صفاته ، ومن القضاء والقدر ، وأنّ الله هو المتصرّف المطلق . وقوله { وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم } إبطال لكونهم حاصلين على هذا المعنى ، فأمّا المشركون فبعدهم عنه أشدّ البعد ظاهر ، وأمّا النصارى فقد ألَّهوا عيسى ، وجعلوا مريم صاحبة لله تعالى فهذا أصل لبطلان أن يكونوا أسلموا وجوههم لله لأنّهم عبدوا مع الله غيره ، وصانعوا الأمم الحاكمة والملوك ، فأسّسوا الدين على حسب ما يلذّ لهم ويكسبهم الحظوة عندهم . وأما اليهود فإنّهم - وإن لم يشركوا بالله - قد نقضوا أصول التقوى ، فسفّهوا الأنبياء وقتلوا بعضهم ، واستهزءوا بدعوة الخير إلى الله ، وغيّروا الأحكام اتّباعاً للهوى ، وكذّبوا الرسل ، وقتلوا الأحبار ، فأنَّى يَكون هؤلاء قد أسلموا لله ، وأكبر مُبطل لذلك هو تكذيبهم محمداً صلى الله عليه وسلم دون النظر في دلائل صدقه . ثم إنّ قوله { فإن أسلموا فقد اهتدوا } معناه فإن التزموا النزول إلى التحقّق بمعنى أسلمت وجهي لله فقد اهتدوا ، ولم يبق إلا أن يتّبعوك لتَلقي ما تُبَلِّغِهم عن الله لأنّ ذلك أول معاني إسلام الوجه لله ، وإن تولّوا وأعرضوا عن قولك لهم آسلمتم فليس عليك من إعراضهم تبِعة ، فإنّما عليك البلاغ ، فقوله { فإنما عليك البللاغ } وقع موقع جواب الشرط ، وهو في المعنى علة الجواب ، فوقوعه موقع الجواب إيجاز بديع ، أي لا تحزن ، ولا تظن أنّ عدم اهتدائهم ، وخيبتَك في تحصيل إسلامهم ، كان لتقصير منك إذ لم تُبعث إلاّ للتبليغ ، لا لتحصيل اهتداء المبلَّغ إليهم . وقوله { والله بصير بالعباد } أي مطّلع عليهم أتمّ الأطّلاع ، فهو الذي يتولّى جَزاءهم وهو يعلم أنّك بلّغت ما أمرت به . وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وحمزة والكسائي ، وأبو جعفر ، وخلف « اتبعني » بإثبات ياء المتكلم في الوصل دون الوقف . وقرأ يعقوب بإثباتها في الحاليين ، والباقون بحذفها وصلا ووقفا .