Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 19-19)
Tafsir: Aḍwāʾ al-bayān fī īḍāḥ al-Qurʾān bi-l-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قرأ جمهور القرّاء " إنّ الدّين " - بكسر همزة إنّ - فهو استئناف ابتدائي لبيان فضيلة هذا الدين بِأجمَع عبارة وأوجزَها . وهذا شروع في أول غرض أنزلت فيه هذه السورة غرض محاجّة نصارى نجران ، فهذا الاستئناف من مناسبات افتتاح السورة بذكر تنزيل القرآن والتوراة والإنجيل ، ثم بتخصيص القرآن بالذكر وتفضيله بأنّ هديه يفوق هدي ما قبله من الكتب ، إذ هو الفرقان ، فإنّ ذلك أسّ الدين القويم ، ولما كان الكلام المتقدم مشتملاً على تعريض باليهود والنصارى الذين كذبوا بالقرآن ، وإبطالٍ لقول وفد نجران لما طلب منهم الرسول صلى الله عليه وسلم - الإسلام - « أسْلَمْنَا قبلَك » فقال لهم « كَذَبْتُم » روى الواحدي ، ومحمد بن إسحاق أنّ وفد نجران لما دخلوا المسجد النبوي تكلم السيد والعاقب فقال لهما رسول الله " أسْلِمَا " قالا « قد أسلمنا قبلك » قال " كذبتما ، يمنعكما من الإسلام دعاؤكما للَّهِ ولدا ، وعبادتُكما الصليب " ، ناسب أن ينوّه بعد ذلك بالإسلام الذي جاء به القرآن ، ولذلك عطف على هذه الجملة قوله { وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلاّ من بعد ما جاءهم العلم } . واعلم أنّ جمل الكلام البليغ لا يخلو انتظامها عن المناسبة ، وإن كان بعضها استئنافاً ، وإنّما لا تطلب المناسبة في المحادثات والاقتضابات . وتوكيد الكلام بأنّ تحقيق لما تضمنَّه من حصر حقيقة الدين عند الله في الإسلام أي الدين الكامل . وقرأ الكسائي { أنّ الدين } - بفتح همزة أنّ - على أنّه بدل من { أنَّه لا إله إلاّ هو } آل عمران 18 أي شهد الله بأنّ الدين عند الله الإسلام . والدين حقيقته في الأصل الجزاء ، ثم صار حقيقة عرفية يطلق على مجموع عقائد ، وأعمال يلقّنها رسولٌ من عند الله ويعد العاملين بها بالنعيم والمعرضين عنها بالعقاب . ثم أطلق على ما يشْبِه ذلك مما يضعه بعض زعماء الناس من تلقاء عقله فتَلتزمه طائفة من الناس . وسمّي الدين ديناً لأنّه يترقب منه مُتَّبِعُهُ الجزاءَ عاجلاً أو آجلاً ، فما من أهل دين إلاّ وهم يترقّبون جزاء من رب ذلك الدين ، فالمشركون يطمعون في إعانة الآلهة ووساطتهم ورضاهم عنهم ، ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ، وقال أبو سفيان يوم أحُد أعْلُ هُبَلْ . وقال يوم فتح مكة لما قال له العباس أما آن لك أن تشهد أن لا إله إلا الله « لقد علمتُ أنْ لو كان معه إله غَيرُه لقد أغنى عَنّي شيئاً » . وأهل الأديان الإلهيَّة يترقّبون الجزاء الأوْفَى في الدنيا والآخرة ، فأول دين إلهي كان حقاً وبه كان اهتداء الإنسان ، ثم طرأت الأديان المكذوبة ، وتشبّهت بالأديان الصحيحة ، قال الله تعالى - تعليماً لرسوله - { لكم دينكم ولي ديني } الكافرون 6 وقال { ما كان ليأخذ أخاه فِي دِين الملك } يوسف 76 . وقد عرّف العلماء الدين الصحيح بأنّه « وضعٌ إلهيٌّ سائق لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى الخيْر باطناً وظاهراً » . والإسلام علم بالغلبة على مجموع الدِّين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم كما أُطلق على ذلك الإيمان أيضاً ، ولذلك لقب أَتباع هذا الدين بالمسلمين وبالمؤمنين ، وهو الإطلاق المراد هنا ، وهو تسمية بمصدر أَسْلَم إذا أذْعَن ولم يعاند إذعاناً عن اعتراف بحق لا عن عجز ، وهذا اللقب أولى بالإطلاق على هذا الدين من لقب الإيمان لأنّ الإسلام هو المظهر البين لمتابعة الرسول فيما جاء به من الحق ، واطّراح كل حائل يحول دون ذلك ، بخلاف الإيمان فإنّه اعتقاد قلبي ، ولذلك قال الله تعالى { هو سمَّاكم المسلمين } الحج 78 وقال { فقل أسلمتُ وجهي للَّه ومن اتّبعني } آل عمران 20 ولأنّ الإسلام لا يكون إلاّ عن اعتقاد لأنّ الفعل أثر الإدراك ، بخلاف العكس فقد يكون الاعتقاد مع المكابرة . وربما أطلق الإسلام على خصوص الأعمال والإيمان على الاعتقاد ، وهو إطلاق مناسب لحالتي التفكيك بين الأمرين في الواقع ، كما في قوله تعالى ، خطاباً لقوم أسلموا متردّدين ــــــ { قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمَّا يدخل الإيمان في قلوبكم } الحجرات 14 ، أو التفكيك في تصوير الماهية عند التعليم لحقائق المعاني الشرعية أو اللغوية كما وقع في حديث جبريل من ذكر معنى الإيمان ، والإسلام ، والإحسان . والتعريف في الدين تعريف الجنس إذ لا يستقيم معنى العهد الخارجي هنا وتعريف الإسلام تعريف العلم بالغلبة لأنّ الإسلام صار علماً بالغَلَبة على الدين المحمّدي . فقوله { إن الدين عند الله الإسلام } صيغة حصر ، وهي تقتضي في اللسان حصر المسند إليه ، وهو الدين ، في المسند ، وهو الإسلام ، على قاعدة الحصر بتعريف جزئي الجملة ، أي لا دين إلا الإسلام ، وقد أكّد هذا الانحصار بحرف التوكيد . وقولُه { عند الإسلام } وصف للدين ، والعندية عندية الاعتبار والاعتناءِ وليست عندية علم فأفاد ، أنّ الدين الصحيح هو الإسلام ، فيكون قصراً للمسند ، إليه باعتبار قيد فيه ، لا في جميع اعتباراته نظير قول الخنساء @ إذا قَبُحَ البُكاءُ على قتيل رأيتُ بكاءَكَ الحَسَن الجَميلا @@ فحصرت الحَسَن في بكائه بقاعدة أنّ المقصور هو الحسن لأنّه هو المعرف باللاّم ، وهذا الحصر باعتبار التقييد بوقتِ قُبح البكاء على القتلى وهو قصر حُسْن بكائها على ذلك الوقت ، ليكون لبكائها على صخر مزية زائدة على بكاء القتلى المتعارف وإن أبى اعتبار القصر في البيت أصلاً صَاحب المطوّل . وإذ قد جاءت أديان صحيحة أمر الله بها فالحصر مؤول إمّا باعتبار أنّ الدين الصحيح عند الله ، حينَ الإخبار ، وهو الإسلام ، لأنّ الخبر ينظر فيه إلى وقت الإخبار إذ الأخبار كلّها حقائق في الحال ، ولا شك أنّ وقت الإخبار ليس فيه دين صحيح غير الإسلام إذ قد عرض لبقية الأديان الإلٰهية ، من خلط الفاسد بالصحيح ، ما أختل لأجله مجموع الدين ، وإما باعتبار الكمال عند الله فيكون القصر باعتبار سائر الأزمان والعصور إذ لا أكمل من هذا الدين ، وما تقدّمه من الأديان لم يكن بالغاً غاية المراد من البشر في صلاح شؤونهم ، بل كان كل دين مضى مقتصراً على مقدار الحاجة من أمة معيّنة في زمن معيّن ، وهذا المعنى أولي محملي الآية ، لأنّ مُفاده أعم ، وتعبيره عن حاصل صفة دين الإسلام - تُجاه بقية الأديان الإلهية - أتم . ذلك أنّ مراد الله تعالى من توجيه الشرائع وإرسال الرسل ، ليس مجرّد قرع الأسماع بعبارات التشريع أو التذوّق لدَقائق تراكيبه ، بل مراد الله تعالى ممّا شرع للناس هو عملهم بتعاليم رسله وكتبه ، ولما كان المراد من ذلك هو العمل ، جعل الله الشرائع مناسبة لقابليات المخاطبين بها ، وجارية على قدر قبول عقولهم ومقدرتهم ، ليتمكّنوا من العمل بها بدوامٍ وانتظام ، فلذلك كان المقصود من التدّين أن يكون ذلك التعليم الديني دأباً وعادة لمنتحليه ، وحيثُ النفوسُ لا تستطيع الانصياع إلى ما لا يتّفق مع مدركاتها ، لا جرم تعيّن مراعاة حال المخاطبين في سائر الأديان . ليمكن للأمم العمل بتعاليم شرائعها بانتظام ومواظبة . وقد كانت أحوال الجماعات البشرية ، في أول عهود الحضارة ، حالاتتِ عكوف على عوائد وتقاليد بسيطة ، ائتلفت رُويدَا رويدَا على حسب دواعي الحاجات ، وما تلك الدواعي ، التي تسبّبت في ائتلاف تلك العوائد ، إلاّ دواع غير منتشرة لأنّها تنحصر فيما يعود على الفرد بحفظ حياته ، ودفع الآلام عنه ، ثم بحفظ حياة من يرى له مزيد اتّصال به ، وتحسيننِ حاله ، فبذلك ائتلف نظام الفرد ، ثم نظام العائلة ، ثم نظام العشيرة ، وهاته النُظُم المتقابسة هي نُظم متساوية الأشكال إذ كلّها لا يعدو حفظ الحياة ، بالغذاء والدفاعِ عن النفس ، ودفعَ الآلام بالكساء والمسكن والزواج ، والانتصار للعائلة وللقبيلة لأنّ بها الاعتزاز ، ثم ما نشأ عن ذلك من تعاون الآحاد على ذلك ، بإعداد المعدّات وهو التعاوض والتعامل ، فلم تكن فكرة الناس تعدو هذه الحالة ، وبذلك لم يكن لإحدى الجماعات شعور بما يجري لدى جماعة أخرى ، فضلاً عن التفكير في اقتباس إحداها مما يجري لدى غيرها ، وتلك حالة قناعة العيش ، وقصور الهمة ، وانعدام الدواعي فإذا حصلت الأسباب الآنفة عدّ الناس أنفسهم في منتهى السعادة . وكان التباعد بين الجماعات في المواطن مع مشقة التواصُل ، وما يعرض في ذلك من الأخطار والمتاعب ، حائلاً عن أن يصادفهم ما يوجب اقتباس الأمم بعضها عن بعض وشعور بعضها بأخلاق بعض ، فصار الصارف عن التعاون في الحضارة الفكرية مجموع حائلين عدم الداعي ، وانسداد وسائل الصدفة ، اللهم إلاّ ما يعرض من وفادة وافد ، أو اختلاط في نجعة أو موسم ، على أنّ ذلك إن حصل فسرعان ما يطرأ عليه النسيان ، فيصبح في خبر كان . فكيف يرجى من أقوام ، هذه حالهم ، أن يدعوهم الداعي إلى صلاح في أوسع من دوائر مدركاتهم ، ومتقارب تصوّر عقولهم ، أليسوا إذا جاءهم مصلح كذلك لبسوا له جلد النمر ، فأحسّ من سوء الطاعة حرق الجمر ، لذلك لم تتعلّق حكمة الله تعالى ، في قديم العصور ، بتشريع شريعة جامعة صالحة لجميع البشر ، بل كانت الشرائع تأتي إلى أقوام معيّنين وفي حديث مسلم ، في صفة عرض الأمم للحساب أنّ رسول الله قال " فيجيء النبي ومعه الرهط ، والنبي ومعه الرجل والرجلان ، والنبي وليس معه أحد " وفي رواية البخاري " فجعل النبي والنّبيئان يمرّون معهم الرهط " الحديث . وبقي الحق في خلال ذلك مشاعاً بين الأمم ، ففي كلّ أمة تجد سداداً وأفناً ، وبعض الحق لم يزل مخبوءاً لم يسفر عنه البيان . ثم أخذ البشر يتعارفون بسبب الفتوح والهجرة ، وتقاتلت الأمم المتقاربة المنازل ، فحصل للأمم حظ من الحضارة ، وتقاربت العوائد ، وتوسّعت معلوماتهم ، وحضارتهم ، فكانت من الشرائع الإلهية شريعة إبراهيم عليه السلام ، ومن غيرها شريعة حمورابي في العراق ، وشريعة البراهمة ، وشريعة المصريين التي ذكرها الله تعالى في قوله { ما كان ليأخذ أخاه في دِين الملك } يوسف 76 . ثم أعقبتها شريعة إلهية كبرى وهي شريعة موسى عليه السلام التي اختلط أهلها بأمم كثيرة في مسيرهم في التيه وما بعده ، وجاورتها أو أعقبتها شرائع مثل شريعة زرادشت في الفرس ، وشريعة كنفشيوس في الصين ، وشريعة سولون في اليونان . وفي هذه العصور كلّها لم تكن إحدى الشرائع عامة الدعوة ، وهذه أكبر الشرائع وهي الموسوية لم تدْعُ غير بين إسرائيل ولم تدع الأممَ الأخرى التي مرّت عليها ، وامتزجت بها ، وصاهرتها ، وكذلك جاءت المسيحية مقصورة على دعوة بني إسرائيل حتى دعا الناسَ إليها القدّيس بُولس بعد المسيح بنحو ثلاثين سنة . إلى أن كان في القرن الرابع بعد المسيح حصول تقابس وتمازج بين أصناف البشر في الأخلاق والعوائد ، بسببين اضطراري ، واختياري . أمّا الاضطراري فذلك أنّه قد ترامت الأمم بعضها على بعض ، واتّجه أهل الشرق إلى الغرب ، وأهل الغرب إلى الشرق ، بالفتوح العظيمة الواقعة بين الفرس والروم ، وهما يومئذ قطبا العالم ، بما يتبع كل واحدة من أمم تنتمي إلى سلطانها ، فكانت الحرب سجالاً بين الفريقين ، وتوالت أزماناً طويلة . وأمّا الاختياري فهو ما أبْقاه ذلك التمازج من مشاهدة أخلاق وعوائد ، حسنت في أعين رائيها ، فاقتبسوها ، وأشياء قبحت في أعينهم ، فحذِروها ، وفي كلتا الحالتين نشأت يقظة جديدة ، وتأسّست مدنيات متفنّنة ، وتهيّأت الأفكار إلى قبول التغييرات القوية ، فتهيّأت جميع الأمم إلى قبول التعاليم الغريبة عن عوائدها وأحوالها ، وتساوت الأمم وتقاربت في هذا المقدار ، وإن تفاوتت في الحضارة والعلوم تفاوتاً ربما كان منه ما زاد بعضَها تهيّئوا لقبول التعاليم الصحيحة ، وقهقر بعضاً عن ذلك بما داخلها من الإعجاب بمبلغ علمها ، أو العكوف والإلف على حضارتها . فبلغ الأجل المراد والمعيّن لمجيء الشريعة الحق الخاتمة العامة . فأظهر الله دين الإسلام في وقت مناسب لظهوره ، واختار أن يكون ظهوره بين ظهراني أمة لم تسبِق لها سابقةُ سلطان ، ولا كانت ذات سيادة يومئذ على شيء من جهات الأرض ، ولكنّها أمة سلّمها الله من معظم رعونات الجماعات البشرية ، لتكون أقرب إلى قبول الحق ، وأظهر هذا الدينَ بواسطة رجل منها ، لم يكن من أهل العلم . ولا من أهل الدولة ، ولا من ذرية ملوك ، ولا اكتسب خبرة سابقة بهجرة أو مخالطة ، ليكون ظهور هذا تحت الصريح ، والعلم الصحيح ، مِن مثله آيةً على أنّ ذلك وحي من الله نفحَ به عباده . ثم جعل أسس هذا الدين متباعدة عن ذميم العوائد في الأمم ، حتى الأمة التي ظهر بينها ، وموافقة للحق ولو كان قد سبق إليه أعداؤها ، وكانت أصوله مَبنية على الفطرة بمعنى ألاّ تكون ناظرة إلاّ إلى ما فيه الصلاح في حكم العقل السليم ، غير ماسور للعوائد ولا للمذاهب ، قال تعالى فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لِخلق الله ذلك الدين القيّم { ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون } الروم 30 ، قال الشيخ أبو علي ابن سينا « الفطرة أن يتوهّم الإنسان نفسه حصل في الدنيا دفعة وهو عاقل ، لم يسمع رأياً ، ولم يعتقد مذهباً ، ولم يعاشر أمة ، لكنّه شاهد المحسوسات ، ثم يعرِض على ذهنه الأشياء شيئاً فشيئاً فإن أمكنه الشك في شيء فالفطرة لا تشهد به ، وإن لم يمكنه الشك فيه فالفطرة توجبه ، وليس كلّ ما توجبه الفطرة بصادق ، بل الصادق منه ما تشهد به فطرة القوة التي تسمّى عقلاً ، قبل أن يعترضه الوهْم » . ويدخل في الفطرة الآداب العتيقة التي اصطلح عليها كافة عقلاء البشر ، وارتاضت نفوسهم بها ، إذا كانت تفيدهم كمالاً ، ولا تفضي إلى فساد ، وذلك أصول قواعد حفظ النسب والعرض خاصة . فبهذا الأصل أصلِ الفطرة كان الإسلام ديناً صالحاً لجميع الأمم في جميع الأعصر . ثم ظهر هذا الأصل في تسعة مظاهر خادمةٍ له ومهيّئةٍ جميع الناس لقبوله . المظهر الأول إصلاح العقيدة بحمل الذهن على اعتقادٍ لا يشوبه تردّد ولا تمويه ولا أوهام ولا خرافات ، ثم بِكون عقيدته مبنية على الخضوع لواحد عظيم ، وعلى الاعتراف باتّصاف هذا الواحد بصفات الكمال التامة التي تجعل الخضوع إليه اختيارياً ، ثم لتصيرَ تلك الكمالات مطمح أنظار المعتقد في التخلّق بها ثم بحمل جميع الناس على تطْهير عقائدهم حتى يتّحد مبدأ التخلّق فيهم { قل يأهل الكتاب تعالوا إلى كلمةٍ سَواءٍ بيننا وبينكم ألاّ نعبد إلا اللَّه ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون اللَّه } آل عمران 64 . وكان إصلاح الاعتقاد أهمّ ما ابتدأ به الإسلام ، وأكثرَ ما تعرّض له وذلك لأنّ إصلاح الفكرة هو مبدأ كلّ إصلاح ولأنّه لا يرجى صح لقوم تلطَّخت عقولهم بالعقائد الضالّة ، وخسئت نفوسهم بآثار تلك العقائد المثيرة خوفاً من لا شَيء ، وطمعاً في غير شيء ، وإذا صلح الاعتقاد أمكن صلاح الباقي لأنّ المرء إنسان بروحه لا بجسمه . ثم نشأ عن هذا الاعتقاد الإسلامي عزّة النفس ، وأصلة الرأي ، وحرية العقل ، ومساواة الناس فيما عدا الفضائل . وقد أكثر الإسلام شرح العقائد إكثاراً لا يشبهه فيه دين آخر بل إنّك تنظر إلى كثير من الأديان الصحيحة ، فلا ترى فيها من شرح صفات الخالق إلاّ قليلاً . المظهر الثاني جمعه بين إصلاح النفوس ، بالتزكية ، وبين إصلاح نظام الحياة ، بالتشريع ، في حين كان معظم الأديان لا يتطرّق إلى نظام الحياة بشيء ، وبعضها وإن تطرّق إليه إلاّ أنّه لم يوفه حقه ، بل كان معظم اهتمامها منصرفاً إلى المواعظ والعبادات ، وقد قرن القرآن المصلحتين في غير ما آية قال تعالى { من عَمِل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينَّه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } النحل 97 . المظهر الثالث اختصاصه بإقامة الحجة ، ومجادلة المخاطبين بصنوف المجادلات وتعليل أحكامه ، بالترغيب وبالترهيب ، وذلك رعي لمراتب نفوس المخاطبين ، فمنهم العالم الحكيم الذي لا يقتنع إلاّ بالحجة والدليل ، ومنهم المكابر الذي لا يرعوي إلاّ بالجدل والخطابة ، ومنهم المترهّب الذي اعتاد الرغبة فيما عند الله ، ومنهم المكابر المعاند ، الذي لا يقلعه عن شغبه إلاّ القوارع والزواجر . المظهر الرابع أنّه جاء بعموم الدعوة لسائر البشر ، وهذا شيء لم يسبق في دين قبله قط ، وفي القرآن { قل يأيها الناس إنّي رسول الله إليكم جميعاً } الأعراف 158 ، وفي الحديث الصحيح " أعْطِيتُ خمساً لم يُعْطَهُنّ أحَدٌ قبلي - فذكر - وكانَ الرسول يُبعث إلى قومه خاصة وبُعِثْتُ إلى الناس عامة " وقد ذكر الله تعالى الرسل كلّهم فذكر أنّه أرسلهم إلى أقوامهم . والاختلاف في كون نوح رسولاً إلى جميع أهل الأرض ، إنّما هو مبْني على أنّه بعد الطوفان انحصر أهل الأرض في أتباع نوح ، عند القائلين بعموم الطوفان سائرالأرض ، ألاَ ترى قوله تعالى { ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه } الأعراف 59 وأيَّاماً كان احتمال كون سكّان الأرض في عصر نوح هم من ضمّهم وطن نوح ، فإن عموم دعوتة حاصل غير مقصود . المظهر الرابع الدوام ولم يَدّعِ رسول من الرسل أنّ شريعته دائمة ، بل ما من رسول ، ولا كتاب ، إلاّ تجد فيه بشارة برسول يأتي من بعده . المظهر الخامس الإقلال من التفريع في الأحكام بل تأتي بأصولها ويُترك التفريع لاستنباط المجتهدين وقد بيّن ذلك أبو إسحاق الشاطبي في تفسير قوله تعالى { ما فرّطنا في الكتاب من شيء } الأنعام 38 لتكون الأحكام صالحة لكلّ زمان . المظهر السادس أنّ المقصود من وصايا الأديان إمكان العمل بها ، وفي أصول الأخلاق أنّ التربية الصحيحة هي التي تأتي إلى النفوس بالحيلولة بينها وبين خواطر الشرور لأنّ الشرور ، إذا تَسرَّبت إلى النفوس ، تعذّر أو عسر اقتلاعها منها ، وكانت الشرائع تحمل الناس على متابعة وصاياها بالمباشرة ، فجاء الإسلام يحمل الناس على الخير بطريقتين طريقة مباشرة ، وطريقة سدّ الذرائع الموصلة إلى الفساد ، وغالب أحكام الإسلام من هذا القبيل وأحسبها أنّها من جملة ما أريد بالمشتبهات في حديث " إن الحلال بيّن وإنّ الحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهنّ كثير من الناس " المظهر السابع الرأفة بالناس حتى في حملهم على مصالحهم بالاقتصار في التشريع على موضع المصلحة ، مع تطلب إبراز ذلك التشريع في صورة ليّنة ، وفي القرآن { يريد اللَّه بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } البقرة 185 وفي الحديث " بُعثت بالحنيفية السَّمْحَة - ولن يشادّ هذا الدين أحد إلاّ غلبه " وكانت الشرائع السابقة تحمل على المتابعة بالشدّة ، فلذلك لم تكن صالحة للبقاء لأنّها روعي فيها حال قساوة أمم في عصور خاصة ، ولم تكن بالتي يُناسبها ما قُدِّر مصيرُ البشر إليه من رقّة الطباع وارتقاء الأفهام . المظهر الثامن امتزاج الشريعة بالسلطان في الإسلام ، وذلك من خصائصه إذ لا معنى للتشريع إلاّ تأسيس قانون للأمة ، وما قيمة قانون لا تحميه القوة والحكومة . وبامتزاج الحكومة مع الشريعة أمكن تعميم الشريعة ، واتّحاد الأمة في العمل والنظام . المظهر التاسع صراحة أصول الدين ، بحيث يتكرّر في القرآن ما تُستَقْرَى منه قواطعُ الشريعة ، حتى تكونَ الشريعة معصومة من التأويلات الباطلة ، والتحريفات التي طرأت على أهل الكتب السابقة ، ويزداد هذا بياناً عند تفسير قوله تعالى { فقل أسلمت وجهي للَّه ومن اتّبعني } آل عمران 20 . عُطِفَ { وما اختلف الذين أوتوا الكتاب } على قوله { إن الذين عند الله الإسلام } للإخبار عن حال أهل الكتاب من سوء تلقّيهم لدين الإسلام ، ومن سوء فهمهم في دينهم . وجيء في هذا الإخبار بطريقة مؤذنة بورود سؤال إذ قد جيء بصيغة الحصر لبيان سبب اختلافهم ، وكأنّ اختلافَهم أمر معلوم للسامع . وهذا أسلوب عجيب في الإخبار عن حالهم إخباراً يتضمّن بيان سببه ، وإبطال ما يَتراءى من الأسباب غير ذلك ، مع إظهار المقابلة بين حال الدِّينِ الذي هم عليه يومئذ من الاختلاف ، وبين سلامة الإسلام من ذلك . وذلك أنّ قوله { إن الدين عند الله الإسلام } قد آذَن بأنّ غيره من الأدين لم يبلغ مرتبة الكمال والصلاحية للعموم ، والدوام ، قبل التغيير ، بلَه ما طرأ عليها من التغيير ، وسوء التأويل ، إلى يومَ مجيء الإسلام ، ليعلم السامعون أنّ ما عليه أهل الكتاب لم يصل إلى أكمل مراد الله من الخلق على أنّه وقع فيه التغيير والاختلاف ، وأن سبب ذلك الاختلاف هو البغي بعدما جاءهم العلم ، مع التنبيه على أنّ سبب بطلان ما هم عليه يومئذ هو اختلافهم وتغييرهم ، ومن جملة ما بدّلوه الآيات الدالة على بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وفيه تنبيه على أنّ الإسلام بعيد عن مثل ما وقعوا فيه من التحريف ، كما تقدّم في المظهر التاسع ، ومن ثم ذمّ علماؤنا التأويلات البعيدة ، والتي لم يَدْعُ إليها داععٍ صريح . وقد جاءت الآية على نظم عجيب يشتمل على معانٍ منها التحذير من الاختلاف في الدين ، أي في أصوله ، ووجوب تطلّب المعاني التي لا تناقض مقصد الدين ، عبرة بما طرأ على أهل الكتاب من الاختلاف . ومنها التنبيه على أنّ اختلاف أهل الكتاب حصل مع قيام أسباب العلم بالحق ، فهو تعريض بأنّهم أساءوا فهم الدين . ومنها الإشارة إلى أنّ الاختلاف الحاصل في أهل الكتاب نوعان أحدهما اختلاف كل أمة مع الأخرى في صحة دينها كما قال تعالى { وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب } البقرة 113 ، وثانيهما اختلاف كل أمة منهما فيما بينها وافتراقها فرقاً متباينةَ المنازع . كما جاء في الحديث " اختلفت اليهود على اثنتين وسبعين فرقة " يُحَذِّر المسلمين ممّا صنعوا . ومنها أنّ اختلافهم ناشيء عن بغي بعضهم على بعض . ومنها أنّهم أجمعوا على مخالفة الإسلام والإعراضِ عنه بغياً منهم وحسداً ، مع ظهور أحقّيته عند علمائهم وأحبارهم كما قال تعالى { الذين ءاتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون الحق من ربك فلا تكوننّ من الممترين } البقرة 146 ، 147 ، وقال تعالى { ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردّونكم من بعد إيمانكم كفّاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبيّن لهم الحق } البقرة 109 أي أعرضوا عن الإسلام ، وصمّموا على البقاء على دينهم ، وودّوا لو يردّونكم إلى الشرك أو إلى متابعة دينهم حسداً على ما جاءكم من الهُدى بعد أن تبيّن لهم أنّه الحق . ولأجل أن يسمح نظم الآية بهذه المعاني ، حُذِف متعلِّق الاختلاف في قوله { اختلف الذين أوتوا الكتاب } ليشمل كلّ اختلاف منهم من مخالفة بعضهم بعضاً في الدين الواحد ، ومخالفة أهل كلّ دين لأهل الدين الآخر ، ومخالفة جميعهم للمسلمين في صحّة الدين . وحُذف متعلّق العلم في قوله { من بعد ما جاءهم العلم } لذلك . وجُعل « بغيا » عقب قوله « من بعد ما جاءهم العلم » ليتنازعه كلُّ من فعل اختلف ومن لفظ العِلم . وأُخِّر بينَهم عن جميع ما يصلح للتعليق به ليتنازعه كلّ من فعل اختلف وفِعل جاءَهم ولفظِ العِلم ولفظ بَغيا . وبذلك تعلم أنّ معنى هذه الآية أوسع معانيَ من معاني قوله تعالى { وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم للبينات بغيا بينهم } في سورة البقرة 213 وقوله { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلاّ من بعد ما جاءتهم البيّنة } في سورة البيّنة 4 كما ذكرناه في ذينك الموضعين لاختلاف المقامين . فاختلاف الذين أوتوا الكتاب يشمل اختلافهم فيما بينهم أي اختلاف أهل كل ملّة في أمور دينها ، وهذا هو الذي تشعر بها صيغة اختلف كاختلاف اليهود بعد موسى غيرَ مرة ، واختلافِهم بعد سليمانَ إلى مملكتين مملكة إسرائيل ، ومملكة يَهُوذا ، وكيف صار لكلّ مملكة من المملكتين تديُّنٌ يخالف تديُّنَ الأخرى ، وكذلك اختلاف النصارى في شأن المسيح ، وفي رسوم الدين ، ويكون قوله بينهم حالاً لبغيا أي بغيا متفشيّا بينهم ، بأن بغَى كلّ فريق على الآخر . ويشمل أيضاً الاختلاف بيْنهم في أمر الإسلام إذ قال قائل منهم هو حق ، وقال فريق هو مرسل إلى الأميّين ، وكفر فريق ، ونافق فريق . وهذا الوجه أوفى مناسبة بقوله تعالى إن الدين عند الله الإسلام ، ويكون قوله { بينهم } على هذا وصفا لبغيا أي بغياً واقعاً بينهم . ومجيء العلم هو الوحي الذي جاءت به رسلهم وأنبياؤُهم ، لأنّ كلمة جاء مؤذنه بعلم متلقّى من الله تعالى ، يعني أنّ العلم الذي جاءهم كان من شأنه أن يصدّهم عن الاختلاف في المراد ، إلاّ أنّهم أساءوا فكانوا على خلاف مراد الله من إرسال الهدى . وانتصب { بغيا } على أنّه مفعول لأجله ، وعامل المفعول لأجله هو الفعل الذي تفرّغ للعمل فيما بعدَ حرف الاستثناء ، فالاستثناء كان من أزمان وعلل محذوفة والتقديرُ ما اختلفوا إلاّ في زمن بعدما جاءهم العلم وما كان إلاّ بغياً بينهم . ولك أن تجعل بغياً منصوباً على الحال من الذين أوتوا الكتاب ، وهو - وإن كان العامل فيه فعلاً منفياً في اللفظ - إلاّ أن الاستثناء المفرّغ جعله في قوه المثبت ، فجاء الحال منه عقب ذلك ، أي حال كون المختلفين باغين ، فالمصدر مؤوّل بالمشتق . ويجوز أن تجعله مفعولاً لأجله من اختلف باعتبار كونه صار مثبتاً كما قرّرنا . وقد لمّحت الآية إلى أنّ هذا الاختلاف ، والبغي كُفْر ، لأنّه أفضى بهم إلى نقض قواعد أديانهم ، وإلى نكران دين الإسلام ، ولذلك ذيّله بقوله { ومن يكفر بآيات الله } إلخ . وقولُه { فإن الله سريع الحساب } تعريض بالتهديد ، لأنّ سريع الحساب إنّما يبتدىء بحساب من يكفر بآياته ، والحساب هنا كناية عن الجزاء كقوله { إنْ حسابهم إلاّ على ربي } الشعراء 113 . وفي ذكر هذه الأحوال الذميمة من أحوال أهل الكتاب تحذير للمسلمين أن يقعوا في مثل ما وقع فيه أولئك ، والمسلمون وإن اختلفوا في أشياء كثيرة لم يكن اختلافهم إلاّ اختلافاً علمياً فرعياً ، ولم يختلفوا اختلافاً ينقض أصول دينهم بل غاية الكلّ الوصول إلى الحق من الدين ، وخدمة مقاصد الشريعة ، فبَنُو إسرائيل عبدوا العجل والرسولُ بين ظهرانيْهم ، وعبدوا آلهة الأمم غيرَ مرة ، والنصارى عبدوا مريم والمسيح ، ونقضوا أصول التوحيد ، وادّعوا حلول الخالق في المخلوق . فأما المسلمون لما قال أحدُ أهل التصوّف منهم كلامَاً يوهم الحُلول حكم علماؤهم بقتله .