Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 29-30)

Tafsir: Aḍwāʾ al-bayān fī īḍāḥ al-Qurʾān bi-l-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

استئناف من التشريع المقصود من هذه السورة . وعلامة الاستئناف افتتاحه بــــ { يا أيّها الذين آمنوا } ، ومناسبته لما قبله أنّ أحكام المواريث والنكاح اشتملت على أوامر بإيتاء ذي الحقّ في المال حقّه ، كقوله { وآتوا اليتامى أموالهم } النساء 2 وقوله { فآتوهن أجورهن فريضة } النساء 24 وقوله { فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً } النساء 4 الآية ، فانتقل من ذلك إلى تشريع عامّ في الأموال والأنفس . وقد تقدّم أنّ الأكل مجاز في الانتفاع بالشيء انتفاعاً تامّا ، لا يعود معه إلى الغير ، فأكل الأموال هو الاستيلاء عليها بنية عدم إرجاعها لأربابها ، وغالب هذا المعنى أن يكون استيلاء ظلم ، وهو مجاز صار كالحقيقة . وقد يطلق على الانتفاع المأذون فيه كقوله تعالى { فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً } النساء 4 وقوله { ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف } النساء 6 ، ولذلك غلب تقييد المنهي عنه من ذلك بقيد { بالباطل } ونحوه . والضمير المرفوع بــــ تأكلوا ، والضمير المضاف إليه أموال راجعان إلى { الذين آمنوا } ، وظاهر أنّ المرء لا يُنهى عن أكل مال نفسه ، ولا يسمّى انتفاعه بماله أكلاً ، فالمعنى لا يأكل بعضهم مال بعض . والباطل ضدّ الحق ، وهو ما لم يشرعه الله ولا كان عن إذن ربّه ، والباء فيه للملابسة . والاستثناء في قوله { إلا أن تكون تجارة } منقطع ، لأنّ التجارة ليست من أكل الأموال بالباطل ، فالمعنى لكنْ كونُ التجارة غيرُ منهي عنه . وموقع المنقطع هنا بَيِّن جار على الطريقة العربية ، إذ ليس يلزم في الاستدراك شمولُ الكلام السابق للشيء المستدرك ولا يفيدُ الاستدراكُ حصراً ، ولذلك فهو مقتضى الحال . ويجوز أن يجعل قيد { الباطل } في حالة الاستثناء مُلغى ، فيكون استثناء من أكل الأموال ويكون متّصلاً ، وهو يقتضي أن الاستثناء قد حصر إباحة أكل الأموال في التجارة ، وليس كذلك ، وأياماً كان الاستثناء فتخصيص التجارة بالاستدراك أو بالاستثناء لأنّها أشدُّ أنواع أكل الأموال شَبَها بالباطل ، إذ التبرّعات كلّها أكل أموال عن طيب نفس ، والمعاوضات غير التجارات كذلك لأنّ أخذ كلا المتعاوِضين عوضاً عمّا بذَله للآخر مساوياً لقيمته في نظره يُطيَّب نفسَه . وأمّا التجارة فلأجْل ما فيها من أخذ المتصدّي للتجر ما لا زائداً على قيمة ما بذله للمشتري قد تُشبه أكل المال بالباطل فلذلك خصّت بالاستدراك أو الاستثناء . وحكمة إباحة أكل المال الزائد فيها أنّ عليها مدار رواج السلع الحاجية والتحسينية ، ولولا تصدّي التجّار وجلبُهم السلعَ لما وَجد صاحب الحاجة ما يسدّ حاجته عند الاحتياج . ويشير إلى هذا ما في « الموطأ » عن عمر بن الخطاب أنّه قال في احتكار الطعام « ولكنْ أيُّما جالب جلب على عَمُود كَبِدِه في الشتاء والصيف فذلك ضيفُ عُمَر فليبع كيف شاء ويمسك كيف شاء » . وقرأ الجمهور { إلا أن تكون تجارة } ــــ برفع تجارة ــــ على أنّه فاعل لكانَ مِن كان التامّة ، أي تَقَعَ . وقرأه عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وخلَف ــــ بنصب تجارة ــــ على أنّه خبر كان الناقصة ، وتقدير اسمها إلاّ أن تكون الأموال تجارة ، أي أموال تجارة . وقوله { عن تراض منكم } صفة لــــ تجارة ، وعن فيه للمجاوزة ، أي صادرة عن التراضي وهو الرضا من الجانبين بما يدلّ عليه من لفظ أو عرف . وفي الآية ما يصلح أن يكون مستنداً لقول مالك من نفي خِيار المجلس لأنّ الله جعل مناط الانعقاد هو التراضي ، والتراضي يحصل عند التبايع بالإيجاب والقبول . وهذه الآية أصل عظيم في حرمة الأموال ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يحلّ مالُ امرىء مسلم إلاّ عن طيب نَفس " وفي خطبة حجّة الوداع " إنَّ دماءكم وأموالكم عليكم حرام " وتقديم النهي عن أكل الأموال على النهي عن قتل الأنفس ، مع أنّ الثاني أخطر ، إمّا لأنّ مناسبة ما قبله أفْضت إلى النهي عن أكل الأموال فاستحقّ التقديم لذلك ، وإمّا لأنّ المخاطبين كانوا قريبي عهد بالجاهلية ، وكان أكل الأموال أسهل عليهم ، وهم أشدّ استخفافاً به منهم بقتلِ الأنفس ، لأنّه كان يقع في مواقع الضعف حيث لا يَدفع صاحبه عن نفسه كاليتيم والمرأةِ والزوجة . فآكِل أموال هؤلاء في مأمَن من التبِعات بخلاف قتل النفس ، فإنّ تبعاته لا يسلم منها أحد ، وإن بلغ من الشجاعة والعزّة في قومه كلّ مبلغ ، ولا أمنع من كُلَيْب وائل ، لأنّ القبائل ما كانت تهدر دماء قتلاها . قوله { ولا تقتلوا أنفسكم } نهي عن أن يقتل الرجل غيرَه ، فالضميرانِ فيه على التوزيع ، إذ قد عُلم أنّ أحداً لا يقتل نفسَه فيُنهى عن ذلك ، وقَتْل الرجل نفسه داخل في النهي ، لأنّ الله لم يبح للإنسان إتلاف نفسه كما أباح له صرف ماله ، أمّا أن يكون المراد هنا خصوص النهي عن قتل المرء نفسَه فلا . وأمّا ما في « مسند أبي داود » أنّ عَمرو بن العاص رضي الله عنه تيمّم في يوم شديد البَرْد ولم يغتسل ، وذلك في غزوة ذات السلاسل وصلّى بالناس ، وبلَغ ذلك رسولَ الله ، فسأله وقال يا رسول الله إنّ الله يقولُ { ولا تقتلوا أنفسكم } ، فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم فذلك من الاحتجاج بعموم ضمير تقتلوا دون خصوص السبب . وقوله { ومن يفعل ذلك } أي المذكورَ من أكل المال بالباطل والقتل . وقيل الإشارة إلى مَا ذكر من قوله تعالى { يأيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً } النساء 19 لأنّ ذلك كلّه لم يرد بعده وعيد ، وورد وعيد قبله ، قاله الطبري . وإنّما قيّده بالعدوان والظلم ليخرج أكل المال بوجه الحقّ ، وقتلُ النفس كذلك ، كقتل القاتل ، وفي الحديث " فإذا قالوها عصَمُوا منّي دماءَهم وأموالَهم إلاّ بحقِّها " والعدوان ــــ بضَمّ العين ــــ مصدر بوزن كفران ، ويقال ــــ بكسر العين ــــ وهو التسلّط بشدّة ، فقد يكون بظلم غالباً ، ويكون بحقّ ، قال تعالى { فلا عدوان إلا على الظالمين } البقرة 193 وعطف قوله { وظلماً } على { عدواناً } من عطف الخاصّ على العامّ . وسوف حرف يدخل على المضارع فيمحّضه للزمن المستقبل ، وهو مرادف للسين على الأصحّ ، وقال بعض النحاة سوف تدل على مستقبل بعيد وسمّاه التسويف ، وليس في الاستعمال ما يشهد لهذا ، وقد تقدّم عند قوله { وسيصلون سعيراً } في هذه السورة النساء 10 . ونُصليه نجعلُه صاليا أو محترقا ، وقد مضى فعل صَلِي أيضاً ، ووجهُ نصب نارا هنالك ، والآية دلّت على كُلِّيَتَيْن من كليّات الشريعة وهما حفظ الأموال ، وحفظ الأنفس ، من قسم المناسب الضروري .