Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 79, Ayat: 34-41)

Tafsir: Aḍwāʾ al-bayān fī īḍāḥ al-Qurʾān bi-l-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يجوز أن يكون التفريع على الاستدلال الذي تضمنه قوله { أأنتم أشد خلقاً أم السماء } النازعات 27 الآيات ، فإن إثبات البعث يقتضي الجزاء إذ هو حكمته . وإذا اقتضى الجزاء كان على العاقل أن يعمل لجزاء الحسنى ويجتنب ما يوقع في الشقاء وأن يهتم بالحياة الدائمة فيؤثرها ولا يكترث بنعيم زائل فيتورط في اتباعه ، فلذلك فرع على دليل إثبات البعث تذكير بالجزاءين ، وإرشاد إلى النجدين . وإذ قد قُدّم قبل الاستدلال تحذيرٌ إجماليّ بقوله { يوم تَرْجُف الراجفة } النازعات 6 الآية كما يذكر المطلوب قبل القياس في الجدل ، جيء عقب الاستدلال بتفصيل ذلك التحذير مع قرنه بالتبشير لمن تحلى بضده فلذلك عبر عن البعث ابتداءً بالراجفة لأنها مبدؤه ، ثم بالزجرة ، وأخيراً بالطامة الكبرى لما في هذين الوصفين من معنى يشمل الراجفة وما بعدها من الأهوال إلى أن يستقر كل فريق في مقره . ومن تمام المناسبة للتذكير بيوم الجزاء وقوعه عقب التذكير بخلق الأرض ، والامتنان بما هَيّأ منها للإِنسان متاعاً به ، للإِشارة إلى أن ذلك ينتهي عندما يحين يوم البعث والجزاء . ويجوز أن يجعل قوله { فإذا جاءت الطامة الكبرى } مفرعاً على قوله { فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة } النازعات 13 ، 14 فإن الطامة هي الزجرة . ومناط التفريع هو ما عقبه من التفصيل بقوله { فأما من طغى } الخ إذ لا يلتئم تفريع الشيء على نفسه . وإذا ظرف للمستقبل فلذلك إذا وقع بعد الفعل الماضي صُرف إلى الاستقبال ، وإنما يُؤتى بعد إذا بفعل الماضي لزيادة تحقيق ما يفيده إذا من تحقق الوقوع . والمجيءُ هنا مجاز في الحصول والوقوع لأن الشيء الموقّت المؤجل بأجل يشبه شخصاً سائراً إلى غاية ، فإذا حصل ذلك المؤجل عند أجله فكأنه السائرُ إلى ، إذا بلغ المكان المقصود . والطامة الحادثة ، أو الوقعة التي تَطِمُّ ، أي تعلو وتغلب بمعنى تفوق أمثالها من نوعها بحيث يقل مثلها في نوعها ، مأخوذ من طَمَّ الماء ، إذا غمر الأشياء وهذا الوصف يؤذن بالشدة والهول إذ لا يقال مثله إلا في الأمور المهولة ثم بولغ في تشخيص هولها بأن وصفت بــــ { الكبرى } فكان هذا أصرح الكلمات لتصوير ما يقارن هذه الحادثة من الأهوال . والمراد بالطامة الكبرى القيامة وقد وصفت بأوصاف عديدة في القرآن مثل الصاخّة والقارعة والراجفة ووصفت بالكبرى . و { يوم يتذكر الإنسان ما سعى } بدل من جملة { فإذا جاءت الطامة الكبرى } بدل اشتمال لأن ما أضيف إليه يوم هو من الأحوال التي يشتمل عليها زمن مجيء الطامة وهو يوم القيامة ويوم الحساب . وتَذَكُّر الإِنسان ما سعاه أن يوقَف على أعماله في كتابه لأن التذكر مطاوع ذكَّره . والتذكر يقتضي سبق النسيان وهو انمحاء المعلوم من الحافظة . والمعنى يوم يُذَكَّر الإِنسان فيتذكر ، أي يعرض عليه عمله فيعترف به إذ ليس المقصود من التذكر إلا أثره ، وهو الجزاء فكني بالتذكر عن الجزاء قال تعالى { اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً } الإسراء 14 . وتبريز الجحيم إظهارها لأهلها . وجيء بالفعل المضاعف لإِفادة إظهار الجحيم لأنه إظهار لأجل الإِرهاب . والجحيم جهنم . ولذلك قرن فعله بتاء التأنيث لأن جهنم مؤنثة في الاستعمال ، أو هو بتأويل النار ، والجحيم كل نار عظيمة في حفرة عميقة . وبنى فعل { بُرزت } للمجهول لعدم الغرض ببيان مُبَرّزها إذ الموعظة في الإِعلام بوقوع إِبرازها يومئذ . و { لمن يرى } ، أي لكل راء ، ففعلُ { يرى } منزّل منزلة اللازم لأن المقصود لمن له بصر ، كقول البحتري @ أنْ يَرَى مُبْصِرٌ وَيَسْمَع وَاعِ @@ والفاء في قوله { فأمّا من طغى } رابطة لجواب إذا لأن جملة { من طغى } إلى آخرها جملة اسمية ليس فيها فعل يتعلق به إذا فلم يَكن بين إذا وبين جوابها ارتباط لفظي فلذلك تُجلب الفاء لربط الجواب في ظاهر اللفظ ، وأما في المعنى فيعلم أن إذا ظرف يتعلق بمعنى الاستقرار الذي بين المبتدأ والخبر . وأمَّا حرف تفصيل وشرط لأنها في معنى مَهما يكن شيء . والطغيان تقدم معناه آنفاً . والمراد هنا طغى على أمر الله ، كما دل عليه قوله { وأما من خاف مقام ربه } . وقُدّم ذكر الطغيان على إيثار الحياة الدنيا لأن الطغيان من أكبر أسباب إيثار الحياة الدنيا فلما كان مسبباً عنه ذكر عقبه مراعاة للترتب الطبيعي . والإِيثار تفضيل شيء على شيء في حال لا يتيسر فيها الجمع بين أحوال كل منهما . ويعدّى فعل الإِيثار إلى اسم المأثور بتعدية الفعل إلى مفعوله ، ويعدّى إلى المأثور عليه بحرف على قال تعالى حكاية { لقد آثرك الله علينا } يوسف 91 ، وقد يترك ذكر المأثور عليه إذا كان ذكر المأثور يشير إليه كما إذا كان المأثور والمأثور عليه ضدين كما هنا لما هو شائع من المقابلة بين الحياة الدنيا والآخرة . وقد يترك ذكر المأثور اكتفاء بذكر المأثور عليه إذا كان هو الأهم كقوله تعالى { ويؤثرون على أنفسهم } الحشر 9 لظهور أن المراد يؤثرون الفقراء . والمراد بالحياة الدنيا حظوظها ومنافعها الخاصة بها ، أي التي لا تُشاركُها فيها حظوظُ الآخرة ، فالكلام على حذف مضاف ، تقديره نعيم الحياة . ويفهم من فعل الإِيثار أن معه نبْذاً لنعيم الآخرة . ويرجع إيثار الحياة الدنيا إلى إرضاء هوى النفس ، وإنما يعرف كلا الحظين بالتوقيف الإِلٰهي كما عرف الشرك وتكذيب الرسل والاعتداء على الناس والبطر والصلف وما يستتبعه ذلك من الأحوال الذميمة . وملاك هذا الإِيثار هو الطغيان على أمر الله ، فإن سادتهم ومسيريهم يعلمون أن ما يدعوهم إليه الرسول هو الحق ولكنهم يكرهون متابعته استكباراً عن أن يكونوا تبعاً للغير فتضيعَ سيادتهم . وقد زاد هذا المفادَ بياناً قوله بعده { وأما من خاف مقام ربه } الآية . وبه يظهر أن مناط الذم في إيثار الحياة الدنيا هو إيثارها على الآخرة ، فأما الأخذ بحظوظ الحياة الدنيا التي لا يفيت الأخذُ بها حظوظ الآخرة فذلك غير مذموم ، وهو مقام كثير من عِباد الله الصالحين حكاه الله تعالى عن صالحي بني إسرائيل من قولهم لقارون { وابْتَغِ فيما آتاك اللَّه الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا } القصص 77 . وقولُه { من خاف مقام ربه } مقابل قوله { من طغى } لأن الخوف ضد الطغيان وقوله { نهى النفس عن الهوى } مقابل قوله { وآثر الحياة الدنيا } . ونهى الخائف نفسه مستعار للانكفاف عن تناول ما تحبه النفس من المعاصي والهوى ، فجعلت نفس الإِنسان بمنزلة شخص آخر يدعوه إلى السيئات وهو ينهاه عن هذه الدعوة ، وهذا يشبه ما يسمى بالتجريد ، يقولون قالت له نفسه كذا فعصاها ، ويقال نهى قَلْبَه ، ومن أحسن ما قيل في ذلك قول عروة بن أذيْنة @ وإذا وجَدْت لها وسَاوس سَلْوة شفَع الفُؤاد إلى الضمير فسلها @@ والمراد بــــ { الهوى } ما تهواه النفس فهو مصدر بمعنى المفعول مثل الخلق بمعنى المخلوق ، فهو ما ترغب فيه قوى النفس الشهوية والغضبية مما يخالف الحق والنفعَ الكامل . وشاع الهوى في المرغوب الذميم ولذلك قيل في قوله تعالى { ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من اللَّه } القصص 50 أن { بغير هدى } حال فمؤكدة ليست تقييداً إذ لا يكون الهوى إلا بغير هدى . وتعريف { الهوى } تعريف الجنس . والتعريف في { المأوى } الأول والثاني تعريف العهد ، أي مأوَى من طغى ، ومأوى من خَاف مقام ربه ، وهو تعريف مُغْنٍ عن ذكر ما يضاف إليه { مأوى } ومثله شائع في الكلام كما في قوله غُضَّ الطرف ، أي الطرف المعهود من الأمر ، أي غض طرفك . وقوله واملأ السمعَ ، أي سمعك وقوله تعالى { وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال } الأعراف 46 ، أي على أعراف الحجاب ، ولذلك فتقدير الكلام عند نحاة البصرة المأوى له أو مأواه عند نحاة الكوفة ، ويسمي نحاة الكوفة الألف واللام هذه عوضاً عن المضاف إليه وهي تسمية حسنة لوضوحها واختصارها ، ويأبى ذلك البصريون ، وهو خلاف ضئيل ، إذ المعنى متفق عليه . والمأوى اسم مكان من أوَى ، إذا رجع ، فالمراد به المقر والمسكن لأن المرء يذهب إلى قضاء شؤونه ثم يرجع إلى مسكنه . و { مقام ربه } مجاز عن الجلال والمهابة وأصل المقام مكان القيام فكان أصله مكان ما يضاف هو إليه ، ثم شاع إطلاقه على نفس ما يضاف إليه على طريقة الكناية بتعظيم المكان عن تعظيم صاحبه ، مثل ألفاظ جناب ، وكَنَفَ ، وذَرَى ، قال تعالى { ولمن خاف مقام ربه جنتان } الرحمن 46 وقال { ذلك لمن خاف مقامي } إبراهيم 14 وذلك من قبيل الكناية المطلوب بها نسبة إلى المكنى عنه فإن خوف مقام الله مراد به خوف الله والمراد بالنسبة ما يَشمل التعلق بالمفعول . وفي قوله { يوم يتذكر الإنسان ما سعى } إلى قوله { فإن الجنة هي المأوى } محسن الجمع مع التقسيم . وتعريف { النفس } في قوله { ونهى النفس } هو مثل التعريف في { المأوى } . وفي تعريف « أصحاب الجحيم » و « أصحاب الجنة » بطريق الموصول إيماء إلى أن الصلتين عِلتان في استحقاق ذلك المأوى .