Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 102, Ayat: 1-2)

Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ألهاكم : أي شغلكم ، ولهاه : تلهيه ، أي علله . ومنه قول امرئ القيس : @ فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع فألهيتها عن ذي تمائم محول @@ أي شغلتها . والتكاثر : المكاثرة . ولم يذكر هنا في أي شيء كانت المكاثرة ، التي ألهتهم . قال ابن القيم : ترك ذكره ، إما لأن المذموم هو نفس التكاثر بالشيء لا المتكاثر به وإما إرادة الإطلاق . 1هـ . ويعنى رحمة الله بالأول : ذم الهلع ، والنهم . وبالثاني : ليعم كل ما هو صالح للتكاثر به ، مال وولد وجاه ، وبناه وغراس . ولم أجد لأحد من المفسرين ذكر نظير لهذه الآية . ولكنهم اتفقوا على ذكر سبب نزولها في الجملة ، من أن حيين تفاخرا بالآباء وأمجاد الأجداد ، فعددوا الأحياء ، ثم ذهبوا إلى المقابر ، وعدَّد كل منهما مالهم من الموتى يفخرون بهم ، ويتكاثرون بتعدادهم . وقيل : في قريش بين بني عبد مناف وبني سهم . وقيل : في الأنصار . وقيل : في اليهود وغيرهم ، مما يشعر بأن التكاثر كان في مفاخر الآباء . وقال القرطبي : الآية تعم جميع ما ذكره وغيره . وسياق حديث الصحيح : " لو أن لابن آدم وادياً من ذهب ، لأحب أن يكون له واديان ، ولن يملأ فاه إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب " . قال ثابت : عن أنس عن أُبَيّ : كنا نرى هذا من القرآن حتى نزلت { أَلْهَاكُمُ ٱلتَّكَّاثُرُ } [ التكاثر : 1 ] . وكأن القرطبي يشير بذلك ، إلى أن التكاثر بالمال أيضاً . وقد جاءت نصوص من كتاب الله تدل على أن التكاثر الذي ألهاهم ، والذي ذمَّهم الله بسببه أو حذَّرهم منه ، إنما هو في الجميع ، كما في قوله تعالى : { ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّمَا ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي ٱلأَمْوَالِ وَٱلأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ ٱلْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً } [ الحديد : 20 ] - إلى قوله - { وَمَا ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَآ إِلاَّ مَتَاعُ ٱلْغُرُورِ } [ الحديد : 20 ] . ففيه التصريح : بأن التفاخر والتكاثر بينهم في الأموال والأولاد . ثم جاءت نصوص أخرى في هذا المعنى كقوله : { وَمَا ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَآ إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ ٱلآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ } [ الأنعام : 32 ] . وقوله : { وَمَا هَـٰذِهِ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَآ إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ لَهِيَ ٱلْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [ العنكبوت : 64 ] . ولكون الحياة الدنيا بهذه المثابة ، جاء التحذير منها والنهي عن أن تلههم ، وفي قوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ } [ المنافقون : 9 ] . وبين تعالى أن ما عند الله للمؤمنين خير من هذا كله في قوله : { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً ٱنفَضُّوۤاْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً قُلْ مَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ ٱللَّهْوِ وَمِنَ ٱلتِّجَارَةِ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ } [ الجمعة : 11 ] . ومما يرجح أن التكاثر في الأموال والأولاد في نفس السورة ، ما جاء في آخرها من قوله : { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ ٱلنَّعِيمِ } [ التكاثر : 8 ] ، لمناسبتها لأول السورة . كما هو ظاهر بشمول النعيم للمال شمولاً أولياً . وقوله : { حَتَّىٰ زُرْتُمُ ٱلْمَقَابِرَ } . أخذ منه من قال : أن تفاخرهم ، حملهم على الذهاب إلى المقابر ليتكاثروا بأمواتهم ، كما في أخبار أسباب النزول المتقدمة . والصحيح في زرتم المقابر : يعني متم : لأن الميت يأتي القبر كالزائر لأن وجوده فيه مؤقتاً . وقد روي : أن أعرابياً سمع هذه الآية ، فقال : بعثوا ورب الكعبة ، فقيل له في ذلك ، فقال : لأن الزائر لا بد أن يرتحل . تنبيه قد بحث بعض العلماء مسألة زيارة القبور هنا لحديث : " كنت نهيتكم عن زيادة القبور ، ألا فزوروها فإنها تزهِّد في الدنيا وتذكِّر في الآخرة " . وقالوا : إن المنع كان عاماً من أجل ذكر مآثر الآباء والموتى ، ثم بعد ذلك رخص في الزيارة ، واختلفوا فيمن رخص له . فقيل : للرجال دون النساء لعدم دخولهن في واو الجماعة في قوله : " فزوروها " . وقيل : هو عام للرجال وللنساء ، واستدل كل فريق بأدلة يطول إيرادها . ولكن على سبيل الإجمال لبيان الأرجح ، نورد نبذة من البحث . فقال المانعون للنساء : إنهن على أصل المنع ، ولم تشملهن الرخصة ، ومجيء اللعن بالزيارة فيهن . وقال المجيزون : إنهن يدخلن ضمناً في خطاب الرجال ، كدخولهن في مثل قوله : { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ } [ البقرة : 43 ] ، فإنهن يدخلن قطعاً . وقالوا : إن اللعن المنوه عنه جاء في الحديث بروايتين رواية : " لعن الله زائرات القبور " . وجاء " لعن الله زوَّارات القبور والمتَّخذات عليهن السرج " إلى آخره . فعلى صيغة المبالغة : زوَّارات لا تشمل مطلق الزيارة ، وإنما تختص للمكثرات ، لأنهن بالإكثار لا يسلمن من عادات الجاهلية من تعداد مآثر الموتى المحظور في أصل الآية . أما مجرد زيارة بدون إكثار ولا مكث ، فلا . واستدلوا لذلك . بحديث " عائشة رضي الله عنها لما ذكر لها صلى الله عليه وسلم ، السلام على أهل البقيع ، فقالت : " وماذا أقول يا رسول الله ، إن أنا زرت القبور ؟ قال : قولي : السلام عليكم آل دار قوم مؤمنين " الحديث . فأقرها صلى الله عليه وسلم ، على أنها تزور القبور وعلمها ماذا تقول إن هي زارت . وكذلك بقصة مروره على المرأة التي تبكي عند القبر فكلَّمها ، فقالت : إليك عني : وهي لا تعلم من هو ، فلما ذهب عنها قيل لها : إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، جاءت تعتذر فقال لها ، " إنما الصبر عند الصدمة الأولى " . ولم يذكر لها المنع من زيارة القبور ، مع أنه رآها تبكي . وهذه أدلة صريحة في السماح بالزيارة . ومن ناحية المعنى ، فإن النتيجة من الزيارة للرجال من في حاجة إليها كذلك ، وهي كون زيارة القبور تزهِّد في الدنيا وترغِّب في الآخرة . وليست هذه بخاصة في الرجال دون النساء ، بل قد يكن أحوج إليه من الرجال . وعلى كل ، فإن الراجح من هذه النصوص والله تعالى أعلم ، هو الجواز لمن يكثرن ولا يتكلمن بما لا يليق ، مما كان سبباً للمنع الأول ، والعلم عند الله تعالى . تنبيه آخر من لطائف القول في التفسير ، ما ذكره أبو حيان عن التكاثر في قوله : { حَتَّىٰ زُرْتُمُ ٱلْمَقَابِرَ } [ التكاثر : 2 ] ، ما نصه : وقيل هذا تأنيب على الإكثار من زيارة ، تكثيراً بمن سلف وإشادة بذكره ، " وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور ثم قال " فزوروها " أمر إباحة للاتعاظ بها ، لا لمعنى المباهاة والتفاخر . ثم قال : قال ابن عطية : كما يصنع الناس في ملازمتها وتسنيمها بالحجارة والرخام وتلوينها شرفاً ، وبيان النواويس عليها ، أي الفوانيس ، وهي السرج . ثم قال أبو حيان : وابن عطية : لم ير إلا قبور أهل الأندلس ، فكيف لو رأى ما يتباهى به أهل مصر في مدافنهم بالقرافة الكبرى والقرافة الصغرى ، وباب النصر وغير ذلك . وما يضيع فيها من الأموال ، لتعجب من ذلك ولرأى ما لم يخطر ببال . وأما التباهي بالزيارة : ففي هؤلاء المنتمين إلى الصوفية أقوام ليس لهم شغل إلا زيارة القبور : زرت قبر سيدي فلان بكذا ، وقبر فلان بكذا ، والشيخ فلاناً بكذا ، فيتذكرون أقاليم طافوها على قدم التجريد . وقد حفظوا حكايات عن أصحاب تلك القبور وأولئك المشايخ ، بحيث لو كتبت لجاءت أسفاراً . وهم مع ذلك لا يعرفون فروض الوضوء ولا سننه . وقد سخر لهم الملوك وعوام الناس في تحسين الظن بهم وبذل المال لهم ، وأما من شذ منهم لأنه يتكلم للعامة فيأتي بعجائب ، يقولون : هذا فتح من العلم اللدني على الخضر . حتى إن من ينتمي إلى العلم ، لما رأى رواج هذه الطائفة سلك مسلكهم ، ونقل كثيراً من حكاياتهم ، ومزج ذلك بيسير من العلم طلباً للمال والجاه وتقبيل اليد . ونحن نسأل الله عز وجل أن يوفقنا لطاعته . 1هـ . بحروفه . وهذا الذي قاله رحمه الله من أعظم ما افتتن به المسلمون في دينهم ودنياهم معاً . أما في دينهم : فهو الغلو الذي نهى عنه صلى الله عليه وسلم ، صيانة للتوحيد ، من سؤال غير الله . وأما في الدنيا فإن الكثير من هؤلاء يتركون مصالح دنياهم من زراعة أو تجارة أو صناعة ، ويطوف بتلك الأماكن تاركاً ومضيعاً من يكون السعي عليه أفضل من نوافل العبادات . مما يلزم على طلبة العلم في كل مكان وزمان ، أن يرشدوا الجهلة منهم ، وأن يبينوا للناس عامة خطأ وجهل أولئك ، وأن الرحيل لتلك القبور ليس من سنة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم ، ولا كان من عمل الخلفاء الراشدين ، ولا من عامة الصحابة ولا التابعين ، ولا من عمل أئمة المذاهب الأربعة رحمهم الله . وإنما كان عمل الجميع زيارة ما جاورهم من المقابر للسلام عليهم والدعاء لهم ، والأتعاظ بحالهم ، والاستعداد لما صاروا إليه . نسأل الله الهداية والتوفيق ، لاتّباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والاقتفاء بآثار سلفة الأمة ، آمين .