Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 116-117)
Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ ٱلْكَذِبَ هَـٰذَا حَلاَلٌ وَهَـٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ } . نهى جل وعلا في هذه الآية الكريمة الكفار عن تحريم ما أحل الله من رزقه ، مما شرع لهم عمرو بن لحي لعنه الله من تحريم ما أحل الله . وقد أوضح جل وعلا هذا المعنى في آيات كثيرة . كقوله { قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ ٱللَّهَ حَرَّمَ هَـٰذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ } الأنعام 150 ، وقوله { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى ٱللَّهِ تَفْتَرُونَ } يونس 59 ، وقوله { قَدْ خَسِرَ ٱلَّذِينَ قَتَلُوۤاْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ ٱللَّهُ ٱفْتِرَآءً عَلَى ٱللَّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } الأنعام 140 ، وقوله { وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَـٰذِهِ ٱلأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَىٰ أَزْوَاجِنَا } الأنعام 139 الآية وقوله { وَقَالُواْ هَـٰذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَآ إِلاَّ مَن نَّشَآءُ بِزَعْمِهِم } الأنعام 138 الآية . وقوله { حجرٌ } أي حرام ، إلى غير ذلك من الآيات ، كما تقدم . وفي قوله { الكذب } أوجه من الإعراب أحدهما - أنه منصوب بـ { تقولوا } أي لا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم من رزق الله بالحل والحرمة . كما ذكر في الآيات المذكورة آنفاً من غير استناد ذلك الوصف إلى دليل . واللام مثلها في قولك لا تقولوا لما أحل الله هو حرام . وكقوله { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتٌ } البقرة 145 الآية . وجملة { هَـٰذَا حَلاَلٌ وَهَـٰذَا حَرَامٌ } بدل من { الكذب } وقيل إن الجملة المذكورة في محل نصب . بـ { تصف } بتضمينها معنى تقول . أي ولا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم ، فتقول هذا حلال وهذا حرام . وقيل { الكذب } مفعول به لـ { تصف } . و { مَا } مصدرية ، وجملة { هَـٰذَا حَلاَلٌ وَهَـٰذَا حَرَامٌ } متعلقة بـ { لا تقولوا } أي لا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لوصف ألسنتكم الكذب . أي لا تحرموا ولا تحللوا لأجل قول تنطق به ألسنتكم ، ويجول في أفواهكم ، لا لأجل حجة وبينة - قاله صاحب الكشاف . وقيل { الكذب } بدل من هاء المفعول المحذوفة . أي لما تصفه ألسنتكم الكذب . تنبيه كان السّلف الصالح رضي الله عنهم يتورعون عن قولهم هذا حلال وهذا حرام . خوفاً من هذه الآيات . قال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة قال الدارمي أبو محمد في مسنده أخبرنا هارون ، عن حفص ، عن الأعمش قال " ما سمعت إبراهيم قط يقول حلال ولا حرام ، ولكن كان يقول كانوا يكرهون وكانوا يستحبون " . وقال ابن وهب قال مالك لم يكن من فتيا الناس أن يقولوا هذا حلال وهذا حرام ، ولكن يقولوا إياكم كذا وكذا ، ولم أكن لأصنع هذا . انتهى . وقال الزمخشري واللام في قوله { لِّتَفْتَرُواْ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ } من التعليل الذي لا يتضمن معنى الفرض اهـ . وكثير من العلماء يقولون هي لام العاقبة . والبيانيون يزعمون أن حرف التعليل كاللام إذا لم تقصد به علة غائية . كقوله { فَٱلْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً } القصص 8 الآية ، وقوله هنا { لِّتَفْتَرُواْ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ } أن في ذلك استعارة تبعية في معنى الحرف . قال مقيده عفا الله عنه بل كل ذلك من أساليب اللغة العربية . فمن أساليبها الإتيان بحرف التعليل للدلالة على العلة الغائية . كقوله { وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلْقِسْطِ } الحديد 25 الآية . ومن أساليبها الإتيان باللاّم للدلالة على ترتب أمر على أمر . كترتب المعلول على علته الغائية . وهذا الأخير كقوله { فَٱلْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } . لأن العلة الغائية الباعثة لهم على التقاطه ليست هي أن يكون لهم عدواً ، بل ليكون لهم قرة عين . كما قالت امرأة فرعون { قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَىٰ أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً } القصص 9 ولكن لما كان كونه عدواً لهم وحزناً يترتب على التقاطهم له . كترتب المعلول على علته الغائية - عبر فيه باللام الدالة على ترتيب المعلول على العلة . وهذا أسلوب عربي ، فلا حاجة إلى ما يطيل به البيانيون في مثل هذا المبحث . قوله تعالى { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الذين يفترون عليه الكذب - أي يختلقونه عليه - كدعواهم أنه حرم هذا وهو لم يحرمه . ودعواهم له الشركاء والأولاد - لا يفلحون . لأنهم في الدنيا لا ينالون إلا متاعاً قليلاً لا أهمية له ، وفي الآخرة يعذبون العذاب العظيم ، الشديد المؤلم . وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر . كقوله في يونس { قُلْ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ فِي ٱلدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ ٱلْعَذَابَ ٱلشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } يونس 69 - 70 ، وقوله { نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَىٰ عَذَابٍ غَلِيظٍ } لقمان 24 ، وقوله { قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } البقرة 126 ، إلى غير ذلك من الآيات . وقوله { متاع قليل } خبر مبتدأ محذوف . أي متاعهم في الدنيا متاع قليل . وقال الزمخشري منفعتهم في الدنيا متاع قليل . وقوله { لا يفلحون } أي لا ينالون الفلاح . وهو يطلق على معنيين أحدهما - الفوز بالمطلوب الأكبر . والثاني - البقاء السرمدي . كما تقدم بشواهده .