Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 16, Ayat: 72-72)

Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى { وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً } الآية . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه امتن على بني آدم أعظم مِنَّة بأن جعل لهم من أنفسهم أزواجاً من جنسهم وشكلهم ، ولو جعل الأزواج من نوع آخر ما حصل الائتلاف والمودة والرحمة ، ولكن من رحمته خلق من بني آدم ذكوراً وإناثاً ، وجعل الإناث أزواجاً للذكور ، وهذا من أعظم المنن ، كما أنه من أعظم الآيات الدالة على أنه جل وعلا هو المستحق أن يعبد وحده . وأوضح في غير هذا الموضع أن هذه نعمة عظيمة ، وأنها من آياته جل وعلا . كقوله { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوۤاْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } الروم 21 وقوله { أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىٰ ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ فَجَعَلَ مِنْهُ ٱلزَّوْجَيْنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ } القيامة 36 - 39 ، وقوله تعالى { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا } الأعراف 189 الآية . واختلف العلماء في المراد بالحفدة في هذه الآية الكريمة . فقال جماعة من العلماء الحفدة أولاد الأولاد . أي وجعل لكم من أزواجكم بنين ، ومن البنين حفدة . وقال بعض العلماء الحفدة الأعوان والخدم مطلقاً . ومنه قول جميل - @ حفد الولائد حولهن وأسلمت بأكفهن أزمة الأجمال @@ أي أسرعت الولائد الخدمة ، والولائد الخدم . الواحدة وليدة ، ومنه قول الأعشى @ كلفت مجهولها نوقاً يمانية إذا الحداة على أكسائها حفدوا @@ اي أسرعوا في الخدمة . ومنه قوله في سورة الحفد التي نسخت وإليك نسعى ونحفد . أي نسرع في طاعتك . وسورة الخلع وسورة الحفد اللتان نسختا يس عند المالكية القنوت بهما في صلاة الصبح كما هو معروف . وقيل الحفدة الأختان ، وهم أزواج البنات ، ومنه قول الشاعر @ فلو أن نفسي طاوعتني لأصبحت لها حفد مما يعد كثير ولكنها نفس علي أبية عيوف لإصهار اللئام قذور @@ والقذور التي تتنزه عن الوقوع فيما لا ينبغي ، تباعداً عن التدنس بقذره . قال مقيده عفا الله عنه الحفدة جمع حافد ، اسم فاعل من الحفد وهو الإسراع في الخدمة والعمل . وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يكون في نفس الآية قرينة دالة على عدم صحة قول بعض العلماء في الآية . فنبين ذلك . وفي هذه الآية الكريمة قرينة دالة على أن الحفدة أولاد الأولاد . لأن قوله { وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً } دليل ظاهر على اشتراك البنين والحفدة في كونهم من أزواجهم ، وذلك دليل على أنهم كلهم من أولاد أزواجهم . ودعوى أن قوله { وحفدةً } معطوف على قوله { أَزْوَاجاً } غير ظاهرة . كما أن دعوى أنهم الأختان ، وأن الأختان أزواج بناتهم ، وبناتهم من أزواجهم ، وغير ذلك من الأقوال - كله غير ظاهر . وظاهر القرآن هو ما ذكر ، وهو اختيار ابن العربي المالكي والقرطبي وغيرهما . ومعلوم أن أولاد الرجل ، وأولاد أولاده من خدمه المسرعين في خدمته عادة . والعلم عند الله تعالى . تنبيه في قوله جل وعلا في هذه الآية الكريمة { وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } الآية - رد على العرب التي كانت تعتقد أنها كانت تزوج الجن وتباضعها . حتى روي أن عمرو بن يربوع بن حنظلة بن مالك تزوج سعلاة منهم ، وكان يخبؤوها عن سنا البرق لئلا تراه فتنفر . فلما كان في بعض الليالي لمع البرق وعاينته السعلاة ، فقالت عمرو ونفرت . فلم يرها أبداً . ولذا قال علباء بن أرقم يهجو أولاد عمرو المذكور @ ألا لحى الله بني السعلاة عمرو بن يربوع لئام النات ليسوا بأعفاف ولا أكيات @@ أبدلت فيه السين تاء أيضاً . وقال المعري يصف مراكب إبل متغربة عن الأوطان ، إذا رأت لمعان البرق تشتاق إلى أوطانها . فزعم أنه يستر عنها البرق لئلا يشوقها إلى أوطانها كما كان عمرو يستره عن سعلاته @ إذا لاح إيماض سترت وجوهها كأني عمرو والمطي سعالى @@ والسعلاة عجوز الجن . وقد روي من حديث أبي هريرة أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال " أحد أبوي بلقيس كان جنِّيَّاً " . قال صاحب الجامع الصغير أخرجه أبو الشيخ في العظمة ، وابن مردويه في التفسير ، وابن عساكر وقال شارحه المنَاوي في إسناده سعيد بن بشر قال في الميزان عن ابن معين ضعيف . وعن ابن مسهر لم يكن ببلدنا أحفظ منه ، وهو ضعيف منكر الحديث ، ثم ساق من مناكيره هذا الخبر اهـ . وبشير بن نهيك أورده الذهبي في الضعفاء . وقال أبو حاتملا يحتج به . ووثقه النسائي . انتهى . وقال المناوي في شرح حديث " أحد أبوي بلقيس كان جنياً " قال قتادة ولهذا كان مؤخر قدميها كحافر الدابة . وجاء في آثار أن الجني الأم . وذلك أن أباها ملك اليمن خرج ليصيد فعطش ، فرفع له خباء فيه شيخ فاستسقاه ، فقال يا حسنة اسقي عمك . فخرجت كأنها شمس بيدها كأس من ياقوت . فخطبها من أبيها ، فذكر أنه جني ، وزوجها منه بشرط أنه إن سألها عن شيء عملته فهو طلاقها . فأتت منه بولد ذكر ، ولم يذكر قبل ذلك ، فذبحته فكرب لذلك ، وخاف أن يسألها فتبين منه . ثم أتت ببلقيس فأظهرت البشر فاغتم فلم يملك أن سألها ، فقالت هذا جزائي منك ! باشرت قتل ولدي من أجلك ! وذلك أن أبي يسترق السمع فسمع الملائكة تقول إن الولد إذا بلغ الحلم ذبحك ، ثم استرق السمع في هذه فسمعهم يعظمون شأنها ، ويصفون ملكها ، وهذا فراق بيني وبينك . فلم يرها بعد . هذا محصول ما رواه ابن عساكر عن يحيى الغساني اهـ من شرح المنَاوي للجامع الصغير . وقال القرطبي في تفسير " سورة النحل " كان أبو بلقيس وهو السرح بن الهداهد بن شراحيل ، ملكاً عظيم الشأن ، وكان يقول لملوك الأطراف ليس أحد منكم كفأ لي . وأبى أن يتزوج منهم ، فزوجوه امرأة من الجن يقال لها ريحانة بنت السكن . فولدت له بلقمة وهي بلقيس ، ولم يكن له ولد غيرها . وقال أبو هريرة قال النَّبي صلى الله عليه وسلم " كان أحد أبوي بلقيس جنياً " - إلى أن قال إن سبب تزوج أبيها من الجن أنه كان وزيراً لملك عات ، يغتصب نساء الرعية ، وكان الوزير غيوراً فلم يتزوج . فصحب مرة في الطريق رجلاً لا يعرفه فقال هل لك من زوجة ؟ فقال لا أتزوج أبداً . فإن ملك بلدنا يغتصب النساء من أزواجهن . فقال لئن تزوجت ابنتي لا يغتصبها أبداً . قال بل يغتصبها ! قال إنا قوم من الجن لا يقدر علينا . فتزوج ابنته فولدت له بلقيس - إلى غير ذلك من الروايات . وقال القرطبي أيضاً وروى وهيب بن جرير بن حازم ، عن الخليل بن أحمد ، عن عثمان بن حاضر قال كانت أم بلقيس من الجن ، يقال لها بلعمة بنت شيصان . قال مقيده عفا الله عنه الظاهر أن الحديث الوارد في كون أحد أبوي بلقيس جنياً ضعيف ، وكذلك الآثار الواردة في ذلك ليس منها شيء يثبت . مسألة اختلف العلماء في جواز المناكحة بين بني آدم والجن . فمنعها جماعة من أهل العلم ، وأباحها بعضهم . قال المناوي في شرح الجامع الصغير ففي الفتاوى السراجية للحنفية لا تجوز المناكحة بين الإنس والجن وإنسان الماء . لاختلاف الجنس . وفي فتاوي البارزي من الشافعية لا يجوز التناكح بينهما . ورجح ابن العماد جوازه اهـ . وقال الماوردي وهذا مستنكر للعقول . لتباين الجنسين ، واختلاف الطبعين . إذ الآدمي جسماني ، والجني روحاني . وهذا من صلصال كالفخار ، وذلك من مارج من نار ، والامتزاج مع هذا التباين مدفوع ، والتناسل مع هذا الاختلاف ممنوع اهـ . وقال ابن العربي المالكي نكاحهم جائز عقلاً . فإن صح نقلاً فبها ونعمت . قال مقيده عفا الله عنه لا أعلم في كتاب الله ولا في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم نصاً يدل على جواز مناكحة الإنس الجن ، بل الذي يستروح من ظواهر الآيات عدم جوازه . فقوله في هذه الآية الكريمة { وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } النحل72 الآية . ممتناً على بني آدم بأن أزواجهم من نوعهم وجنسهم - يفهم منه أنه كما جعل لهم أزواجاً تباينهم كمباينة الإنس والجن ، وهو ظاهر . ويؤيده قوله تعالى { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوۤاْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً } الروم 21 . فقوله { أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجا } في معرض الامتنان - يدل على أنه ما خلق لهم أزواجاً من غير أنفسهم . ويؤيد ذلك ما تقرر في الأصول من " أن النكرة في سياق الامتنان تعم " فقوله { جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } جمع منكر في سياق الامتنان فهو يعم ، وإذا عم دل ذلك على حصر الأزواج المخلوقة لنا فيما هو من أنفسنا ، أي من نوعنا وشكلنا . مع أن قوماً من أهل الأصول زعموا " أن الجموع المنكرة في سياق الإثبات من صيغ العموم " . والتحقيق أنها في سياق الإثبات لا تعم ، وعليه درج في مراقي السعود حيث قال في تعداده للمسائل التي عدم العموم فيها أصح @ منه منكر الجمع عرفا وكان والذي عليه انعطفا @@ أما في سياق الامتنان فالنكرة تعم . وقد تقرر في الأصول " أن النكرة في سياق الامتنان تعم " ، كقوله { وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً طَهُوراً } الفرقان 48 أي فكل ماء نازل من السماء طهور وكذلك النكرة في سياق النفي أو الشرط أو النهي . كقوله { مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ } الأعراف 59 ، وقوله { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } التوبة 6 الآية ، وقوله { وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً } الإنسان 24 الآية . ويستأنس لهذا بقوله { وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ } الشعراء 166 فإنه يدل في الجملة على أن تركهم ما خلق الله لهم من أزواجهم ، وتعديه إلى غيره يستوجب الملام ، وإن كان أصل التوبيخ والتقريع على فاحشة اللواط . لأن أول الكلام { أَتَأْتُونَ ٱلذُّكْرَانَ مِنَ ٱلْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ } الشعراء 165 - 166 فإنه وبخهم على أمرين أحدهما - إتيان الذكور . والثاني - ترك ما خلق لهم ربهم من أزواجهم . وقد دلت الآيات المتقدمة على أن ما خلق لهم من أزواجهم ، هو الكائن من أنفسهم . أي من نوعهم وشكلهم . كقوله { وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } ، وقوله { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } الروم 21 ، فيفيد أنه لم يجعل لهم أزواجاً من غير أنفسهم . والعلم عند الله تعالى .