Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 17, Ayat: 1-1)

Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى { سُبْحَانَ ٱلَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَى } الآية . قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولاً ويكون في الآية قرينة تدل على عدم صحة ذلك القول . فإنا نبين ذلك . فإذا علمت ذلك . فاعلم أن هذا الإسراء به صلى الله عليه وسلم المذكور في هذه الآية الكريمة ، زعم بعض أهل العلم أنه بروحه صلى الله عليه وسلم دون جسده ، زاعماً أنه في المنام لا اليقظة ، لأن رؤيا الأنبياء وحي . وزعم بعضهم أن الإسراء بالجسدِ ، والمعراج بالروح دون الجسد ، ولكن ظاهر القرآن يدل على أنه بروحه وجسده صلى الله عليه وسلم يقظةً لا مناماً ، لأنه قال { بعبده } والعبد عبارة عن مجموع الروح والجسد ، ولأنه قال { سبحان } والتَّسبيح إنما يكون عند الأمور العظام . فلو كان مناماً لم يكن له كبير شأن حتى يتعجب منه . ويؤيده قوله تعالى { مَا زَاغَ ٱلْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ } النجم 17 لأن البصر من آلات الذات لا الروح ، وقوله هنا { لنريه من آياتنا } . ومن أوضح الأدلة القرآنية على ذلك قوله جل وعلا { وَمَا جَعَلْنَا ٱلرُّؤيَا ٱلَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَٱلشَّجَرَةَ ٱلْمَلْعُونَةَ فِي ٱلقُرْآنِ } الإسراء 60 فإنها رؤيا عين يقظة ، لا رؤيا منام ، كما صحَّ عن ابن عباس وغيره . ومن الأدلة الواضحة على ذلك - أنها لو كانت رؤيا منام لما كانت فتنة ، ولا سبباً لتكذيب قريش ، لأن رؤيا المنام ليست محل إنكار ، لأن المنام قد يرى فيه ما لا يصح . فالذي جعله الله فتنة هو ما رآه بعينه من الغرائب والعجائب . فزعم المشركون أن من ادعى رؤية ذلك بعينه فهو كاذب لا محالة ، فصار فتنة لهم . وكون الشجرة الملعونة التي هي شجرة الزقوم على التحقيق فتنة لهم - " أن الله لما أنزل قوله { إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِيۤ أَصْلِ ٱلْجَحِيمِ } الصافات 64 قالوا ظهر كذبه . لأن الشجر لا ينبت بالأرض اليابسة ، فكيف ينبت في أصل النار ! " كما تقدم في البقرة . ويؤيد ما ذكرنا من كونها رؤيا عين يقظة قوله تعالى هنا { لنريه من آياتنا } الآية ، وقوله { مَا زَاغَ ٱلْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ ٱلْكُبْرَىٰ } النجم 17 - 18 . وما زعمه بعض أهل العلم من أن الرؤيا لا تطلق بهذا اللفظ لغة إلى على رؤيا المنام ، مردود . بل التحقيق أن لفظ الرؤيا يطلق في لغة العرب على رؤية العين يقظة أيضاً . ومنه قول الراعي وهو عربي قح @ فكبر للرؤيا وهش فؤاده وبشَّر نفساً كان قبل يلومها @@ فإنه يعني رؤية صائد بعينه . ومنه أيضاً قول أبي الطيب @ ورؤياك أحلى في العيون من الغمض @@ قاله صاحب اللسان وزعم بعض أهل العلم أن المراد بالرؤيا في قوله { وَمَا جَعَلْنَا ٱلرُّؤيَا ٱلَّتِي أَرَيْنَاكَ } الإسراء 60 الآية ، رؤيا منام ، وأنها هي المذكورة في قوله تعالى { لَّقَدْ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّؤْيَا بِٱلْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّه } الفتح 27 الآية والحق الأول . وركوبه صلى الله عليه وسلم على البراق يدل على أن الإسراء بجسمه . لأن الروح ليس من شأنه الركوب على الدواب كما هو معروف ، وعلى كل حال فقد تواترت الأحاديث الصحيحة عنه " أنه أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، وأنه عرج به من المسجد الأقصى حتى جاوز السماوات السبع " . قد دلت الأحاديث المذكورة على أن الإسراء والمعراج كليهما بجسمه وروحه ، يقظة لا مناماً ، كما دلت على ذلك أيضاً الآيات التي ذكرنا . وعلى ذلك من يعتد به من أهل السنة والجماعة ، فلا عبرة بمن أنكر ذلك من الملحدين . وما ثبت في الصَّحيحين من طريق شريك عن أنس رضي الله عنه أن الإسراء المذكور وقع مناماً - لا ينافي ما ذكرنا مما عليه أهل السنة والجماعة ، ودلت عليه نصوص الكتاب والسنة . لإمكان أن يكون رأي الإسراء المذكور نوماً ، ثم جاءت تلك الرؤيا كفلق الصبح فأسري به يقظة تصديقاً لتلك الرؤيا المنامية . كما رأى في النوم أنهم دخلوا المسجد الحرام ، فجاءت تلك الرؤيا كفلق الصبح ، فدخلوا المسجد الحرام في عمرة القضاء عام سبع يقظة ، لا مناماً ، تصديقاً لتلك الرؤيا . كما قال تعالى { لَّقَدْ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّؤْيَا بِٱلْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ آمِنِينَ … } الفتح 27 الآية ويؤيد ذلك حديث عائشة الصحيح " فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح " مع أن جماعة من أهل العلم قالوا إن شريك بن عبد الله بن أبي نمر ساء حفظه في تلك الرواية المذكورة عن أنس ، وزاد فيها ونقص ، وقدم وأخر . ورواها عن أنس غيره من الحفاظ على الصواب ، فلم يذكروا المنام الذي ذكره شريك المذكور . وانظر رواياتهم بأسانيدها ومتونها في تفسير ابن كثير رحمه الله تعالى . فقد جمع طرق حديث الإسراء جمعاً حسناً بإتقان . ثم قال رحمه الله " والحق أنه عليه الصلاة والسلام أسري به يقظة لا مناماً من مكة إلى بيت المقدس راكباً البراق ، فلما انتهى إلى باب المسجد ربط الدابة عند الباب ودخله فصلى في قبلته تحية المسجد ركعتين ، ثم أتي بالمعراج وهو كالسلم ذو درجٍ يرقى فيها ، فصعد فيه إلى السّماء الدنيا ، ثم إلى بقية السماوات السبع ، فتلقاه من كل سماء مقربوها ، وسلم على الأنبياء الذين في السماوات بحسب منازلهم ودرجاتهم ، حتى مر بموسى الكليم في السادسة ، وإبراهيم الخليل في السابعة ، ثم جاوز منزليهما صلى الله عليه وسلم وعليهما وعلى سائر الأنبياء ، حتى انتهى إلى مستوىً يسمع فيه صريف الأقلام - أي أقلام القدر - بما هو كائن ، ورأى سدرة المنتهى ، وغشيها من أمر الله تعالى عظمة عظيمة من فراش من ذهب وألوان متعددة ، وغشيتها الملائكة ، ورأى هناك جبريل على صورته وله ستمائة جناح ، ورأى رفرفاً أخضر قد سد الأفق ، ورأى البيت المعمور ، وإبراهيم الخليل بانِيَ الكعبة الأرضية مسنداً ظهره إليه ، لأنه الكعبة السماوية يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة ، يتعبدون فيه ثم لا يعودون إليه إلى يوم القيامة ، ورأى الجنة والنار . وفرض الله عليه هنالك الصلوات خمسين ، ثم خففها إلى خمس رحمة منه ولطفاً بعباده . وفي هذا اعتناء بشرف الصلاة وعظمتها . ثم هبط إلى بيت المقدس ، وهبط معه الأنبياء . فصلى بهم فيه لما حانت الصَّلاة ، ويحتمل أنها الصبح من يومئذ . ومن الناس من يزعم أنه أمهم في السماء . والذي تظاهرت به الروايات أنه ببيت المقدس ، ولكن ، في بعضها أنه كان أول دخوله إليه ، والظاهر أنه بعد رجوعه إليه ، لأنه لما مر بهم في منازلهم جعل يسأل عنهم جبريل واحداً واحداً وهو يخبره بهم ، وهذا هو اللائق . لأنه كان أولاً مطلوباً إلى الجانب العلوي ليفرض عليه وعلى أمته ما يشاء الله تعالى . ثم لما فرغ من الذي أريد به اجتمع به هو وإخوانه من النَّبيين ، ثم أظهر شرفه وفضله عليهم بتقديمه في الإمامة ، وذلك عن إشارة جبريل عليه السلام في ذلك . ثم خرج من بيت المقدس فركب البراق وعاد إلى مكة بغلس . والله سبحانه وتعالى أعلم . انتهى بلفظه من تفسير الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى . وقال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة ثبت الإسراء في جميع مصنفات الحديث ، وروي عن الصحابة في كل أقطار الإسلام ، فهو متواتر بهذا الوجه . وذكر النقاش ممن رواه عشرين صحابياً ، ثم شرع يذكر بعض طرقه في الصحيحين وغيرهما ، وبسط قصة الإسراء ، تركناه لشهرته عند العامة ، وتواتره في الأحاديث . وذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في آخر كلامه على هذه الآية الكريمة فائدتين ، قال في أولاهما " فائدة حسنة جليلة - وروى الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في كتاب دلائل النبوة من طريق محمد بن عمر الواقدي حدثني مالك بن أبي الرجال ، عن عمر بن عبد الله ، عن محمد بن كعب القرظي قال " بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم دحية بن خليفة إلى قيصر " . فذكر وروده عليه وقدومه إليه ، وفي السياق دلالة عظيمة على وفور عقل هرقل ، ثم استدعى من بالشام من التجار فجيء بأبي سفيان صخر بن حرب وأصحابه . فسألهم عن تلك المسائل المشهورة التي رواها البخاري ومسلم كما سيأتي بيانه . وجعل أبو سفيان يجتهد أن يحقِّر أمره ويصغِّره عنده ، قال في هذا السياق عن أبي سفيان " والله ما منعني من أن أقول عليه قولاً أسقطه به من عينه إلا أني أكره أن أكذب عنده كذبة يأخذها عليَّ ولا يصدقني في شيءٍ . قال حتَّى ذكرت قوله ليلة أسري به ، قال فقلت أيُّها الملك ، ألا أخبرك خبراً تعرف به أَنه قد كذب . قال وما هو ؟ قال قلت إنه يزعم لنا أنه خرج من أرضنا أرض الحرم في ليلةٍ ، فجاء مسجدكم هذا مسجد إيلياء ، ورجع إلينا تلك الليلة قبل الصَّباح . قال وبطريق إيلياء عند رأس قيصر ، فقال بطريق إيلياء قد علمت تلك الليلة . قال فنظر إليه قيصر وقال وما علمك بهذا ؟ قال إني كنت لا أنام ليلةً حتَّى أغلق أبواب المسجد . فلما كانت تلك اللًّيلةِ أغلقت الأَبواب كلَّها غير بابٍ واحدٍ غلبني ، فاستعنت عليه بعمَّالي ومن يحضرني كلهم فغلبنا ، فلم نستطع أن نحركه كأنما نزاول به جبلاً ، فدعوت إليه النَّجاجرة فنظروا إليه فقالوا إنَّ هذا الباب سقط عليه النجاف والبنيان ولا نستطيع أن نحرِّكه ، حتى نصبح فننظر من أين أتى ! قال فرجعت وتركت البابين مفتوحين . فلمَّا أصبحت غدوت عليهما فإذا المجر الذي في زاوية المسجد مثقوب . وإذا فيه أَثر مربط الدابة . قال فقلت لأصحابي ما حبس هذا الباب اللَّيلة إلى على نبيٍّ وقد صلَّى الليلة في مسجدنا اهـ . ثم قال في الأخرى " فائدة - قال الحافظ أبو الخطاب عمر بن دحية في كتابه التنوير في مولد السراج المنير وقد ذكر حديث الإسراء عن طريق أنس وتكلم عليه فأجاد وأفاد . ثم قال وقد تواترت الروايات في حديث الإسراء عن عمر بن الخطاب ، وعلي ، وابن مسعودٍ ، وأبي ذرٍّ ، ومالك بن صعصعة ، وأبي هريرة ، وأبي سعيد ، وابن عباس ، وشداد بن أَوس ، وأبي بن كعب ، وعبد الرحمن بن قرط ، وأبي حبة ، وأبي ليلى الأنصاريين ، وعبد الله بن عمرو ، وجابر ، وحذيفة ، وبُريدة ، وأبي أيوب ، وأبي أُمامة ، وسمرة بن جندب ، وأبي الحمراء ، وصهيب الرومي ، وأم هانىء ، وعائشة ، وأسماء ابنتي أبي بكر الصديق رضي الله عنهم أجمعين . منهم من ساقه بطوله ، ومنهم من اختصره على ما وقع في المسانيد ، وإن لم تكن رواية بعضهم على شرط الصحة " فحديث الإسراء أجمع عليه المسلمون ، وأعرض عنه الزنادقة والملحدون { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَافِرُونَ } الصف 8 اهـ من ابن كثير بلفظه . وقد قدمنا أن أحسن أوجه الإعراب في { سبحان } أنه مفعول مطلق ، منصوب بفعل محذوف أي أسبح الله سبحاناً أي تسبيحاً . والتسبيح الإبعاد عن السوء . ومعناه في الشرع التنزيه عن كل ما لا يليق بجلال الله وكماله ، كما قدمنا . وزعم بعض أهل العلم أن لفظة { سبحان } علم للتنزيه . وعليه فهو علم جنسٍ لمعنى التنزيه على حد قول ابن مالك في الخلاصة ، مشيراً إلى أن علم الجنس يكون للمعنى كما يكون للذات @ ومثله برة للمبرة كذا فجار علم للفجرة @@ وعلى أنه علم - فهو ممنوع من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون . والذي يظهر لي والله تعالى أعلم أنه غير علم ، وأن معنى { سبحان } تنزيهاً لله عن كل ما لا يليق به . ولفظة { سبحان } من الكلمات الملازمة للإضافة ، وورودها غير مضافة قليل . كقول الأعشى @ فقلت لما جاءني فخره سبحان من علقمة الفاخر @@ ومن الأدلة على أنه غير علم - ملازمته للإضافة والأعلام تقل إضافتها ، وقد سمعت لفظة { سبحان } غير مضافة مع التنوين والتعريف . فمثاله مع التنوين قوله @ سبحانه ثم سبحانا نعوذ به وقبلنا سبح الجودي والجمد @@ ومثاله معرفاً قول الراجز @ سبحانك اللهم ذا السبحان @@ والتعبير بلفظ العبد في هذا المقام العظيم يدل دلالة واضحة على أن مقام العبودية هو أشرف صفات المخلوقين وأعظمها وأجلها . إذ لو كان هناك وصف أعظم منه لعبر به في هذا المقام العظيم ، الذي اخترق العبد فيه السبع الطباق ، ورأى من آيات ربّه الكبرى . وقد قال الشاعر في محبوب مخلوق ، ولله المثل الأعلى @ يا قوم قلبي عند زهراء يعرفه السامع والراءي لا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي @@ واختلف العلماء في النكتة البلاغية التي نكر من أجلها { ليلاً } في هذه الآية . قال الزمخشري في الكشاف أراد بقوله { ليلاً } بلفظ التنكير تقليل مدة الإسراء ، وأنه أُسري به في بعض الليل من مكة إلى الشام مسيرة أربعين ليلة . وذلك أن التنكير فيه قد دل على معنى البعضية ، ويشهد لذلك قراءة عبد الله وحذيفة { من الليل } أي بعض الليل . كقوله { وَمِنَ ٱلْلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً } الإسراء 79 يعني بالقيام في بعض الليل اهـ ، واعترض بعض أهل العلم هذا . وذكر بعضهم أن التنكير في قوله { ليلاً } للتعظيم . أي ليلاً أي ليل ، دنا فيه المحب إلى المحبوب ! وقيل فيه غير ذلك . وقد قدمنا أن أسرى وسرى لغتان . كسقى وأسقى ، وقد جمعهما قول حسان رضي الله عنه @ حي النضيرة ربة الخدر أسرت إليك ولم تكن تسري @@ بفتح التاء من " تسري " والباء في اللغتين للتعدية ، كالباء في { ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ } البقرة 17 وقد تقدمت شواهد هذا في سورة هود . تنبيه اختلف العلماء - هل رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسراء بعين رأسه أو لا ؟ فقال ابن عباس وغيره " رآه بعين رأسه " وقالت عائشة وغيرها " لم يره " . وهو خلاف مشهور ، بين أهل العلم معروف . قال مقيده عفا الله عنه التحقيق الذي دلت عليه نصوص الشرع أنه صلى الله عليه وسلم لم يره بعين رأسه . وما جاء عن بعض السلف من أنه رآه . فالمراد به الرؤية بالقلب . كما في صحيح مسلم " أنه رآه بفؤاده مرتين " لا بعين الرأس . ومن أوضح الأدلة على ذلك - أن أبا ذر رضي الله عنه وهو هو في صدق اللهجة سأل النَّبي صلى الله عليه وسلم عن هذه المسالة بعينها . فأفتاه بما مقتضاه أنه لم يره . قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا وكيع ، عن يزيد بن إبراهيم ، عن قتادة ، عن عبد الله بن شقيق ، " عن أبي ذر قال سأّلت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأّيت ربك ؟ قال " نور ! أنى أراه ؟ " . " . حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا معاذ بن هشام ، حدثنا أبي ح وحدثني حجاج بن الشاعر ، حدثنا عفان بن مسلم ، حدثنا همام ، كلاهما عن قتادة ، " عن عبد الله بن شقيق قال " قلت لأبي ذر لو رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لسألته . فقال عن أي شيء كنت تسأله ؟ قال كنت أسأله هل رأيت ربك ؟ قال أبو ذر قد سألت فقال " رأيت نوراً " هذا لفظ مسلم . وقال النووي في شرحه لمسلم أما قوله صلى الله عليه وسلم " نور ! أَنى أراه " ! ! فهو بتنوين " نور " وفتح الهمزة في " أَنى " وتشديد النون وفتحها . و " أَراه " بفتح الهمزة هكذا رواه جميع الرواة في جميع الأصول والروايات . ومعناه حجابه نور ، فكيف أراه ! ! . قال الإمام أبو عبد الله المازري رحمه الله الضمير في " أراه " عائد إلى الله سبحانه وتعالى ، ومعناه أن النور منعني من الرؤية . كما جرت العادة بإغشاء الأنوار الأبصار ، ومنعها من إدراك ما حالت بين الراثي وبينه . وقوله صلى الله عليه وسلم " رأَيت نوراً " معناه رأيت النور فحسب ، ولم أر غيره . قال وروي " نوراني " بفتح الراء وكسر النون وتشديد الياء . ويحتمل أن يكون معناه راجعاً إلى ما قلناه . أي خالق النور المانع من رؤيته ، فيكون من صفات الأفعال . قال القاضي عياض رحمه الله هذه الرواية لم تقع إلينا ! ولا رأيناها في شيء من الأصول اهـ محل الغرض من كلام النووي . قال مقيده عفا الله عنه التحقيق الذي لا شك فيه هو أن معنى الحديث هو ما ذكر ، من كونه لا يتمكن أحد من رؤيته لقوة النور الذي هو حجابه . ومن أصرح الأدلة على ذلك أيضاً حديث أبي موسى المتفق عليه " حِجَابُهُ النُّور أو النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه " وهذا هو معنى قوله صلى الله عليه وسلم " نور ! أني أراه ؟ " أي كيف أراه وحجابه نور ، من صفته أنه لو كشفه لأحرق ما انتهى إليه بصره من خلقه . وقد قدمنا أن تحقيق المقام في رؤية الله جل وعلا بالأبصار - أنها جائزة عقلاً في الدنيا والآخرة ، بدليل قوله موسى { رَبِّ أَرِنِيۤ أَنظُرْ إِلَيْك } الأعراف 143 لأنه لا يجهل المستحيل في حقّه جل وعلا . وأنها جائزة شرعاً وواقعة يوم القيامة ، ممتنعة شرعاً في الدنيا قال { لَن تَرَانِي وَلَـٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ } الأعراف 143 إلى قوله { جَعَلَهُ دَكّاً } الأعراف 143 . ومن أصرح الأدلة في ذلك حديث " إنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا " في صحيح مسلم وصحيح ابن خزيمة كما تقدم . وأما قوله { ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ } النجم 8 - 9 الآية - فذلك جبريل على التحقيق ، لا الله جلَّ وعلا قوله تعالى { ٱلَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } . أظهر التفسيرات فيه أن معنى { باركنا حوله } أكثرنا حوله الخير والبركة بالأشجار والثمار والأنهار . وقد وردت آيات تدل على هذا . كقوله تعالى { وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى ٱلأَرْضِ ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ } الأنبياء 71 وقوله { وَلِسُلَيْمَانَ ٱلرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى ٱلأَرْضِ ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ } الأنبياء 81 فإن المراد بتلك الأرض الشام . والمراد بأنه بارك فيها أنه أكثر فيها البركة والخير بالخصب والأشجار والثمار والمياه كما عليه جمهور العلماء . وقال بعض العلماء المراد بأنه بارك فيها أنه بعث الأنبياء منها . وقيل غير ذلك . والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى { لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ } . الظاهر إنما أراه الله من آياته في هذه الآية الكريمة أن أراه إياه رؤية عين . فهمزة التعدية داخلة على رأى البصرية . كقولك أرأيت زيداً دار عمرو . أي جعلته يراها بعينه . و " من " في الآية للتبعيض ، والمعنى { لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ } أي بعض آياتنا فجعله يراها بعينه . وذلك ما رآه صلى الله عليه وسلم بعينه ليلة الإسراء من الغرائب والعجائب . كما جاء مبيناً في الأحاديث الكثيرة . ويدل لما ذكرنا في الآية الكريمة قوله تعالى في سورة النجم { مَا زَاغَ ٱلْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ ٱلْكُبْرَىٰ } النجم 17 - 18 .