Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 18, Ayat: 12-12)
Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن من حكم بعثه لأصحاب الكهف بعد هذه النومة الطويلة - أن يبين للناس أي الحزبين المختلفين في مدة لبثهم أحصى لذلك وأضبط له . ولم يبين هنا شيئاً عن الحزبين المذكورين . وأكثر المفسرين على أن أحد الحزبين - هم أصحاب الكهف . والحزب الثاني - هم أهل المدينة الذين بعث الفتية على عهدهم حين كان عندهم التاريخ بأمر الفتية . وقيل عما حزبان من أهل المدينة المذكورة ، كان منهم مؤمنون وكافرون . وقيل هما حزبان من المؤمنين في زمن اصحاب الكهف . اختلفوا في مدة لبثهم ، قاله الفراء وعن ابن عباس الملوك الذين تداولوا ملك المدينة حزب ، وأصحاب الكهف حزب . إلى غير ذلك من الأقوال . والذي يدل عليه القرآن أن الحزبين كليهما من أصحاب الكهف . وخير ما يفسر به القرآن القرآن ، وذلك في قوله تعالى { وَكَذٰلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ } الكهف 19 . وكأن الذين قالوا { رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ } هم الذين علموا أن لبثهم قد تطاول . ولقائل أن يقول قوله عنهم { ربكم أعلم بما لبثتم } يدل على أنهم لم يحصوا مدة لبثهم . والله تعالى أعلم . وقد يجاب عن ذلك بأن رد العلم إلى الله لا ينافى العلم ، بدليل أن الله أعلم نبيه بمدة لبثهم في قوله { وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ } الكهف 25 الآية ، ثم أمره برد العلم إليه في قوله { قُلِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا } الكهف 26 الآية . وقوله { بعثناهم } أي من نومتهم الطويلة . والبعث التحريك من سكون ، فيشمل بعث النائم والميت ، وغير ذلك . وقد بينا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يذكر الله جل وعلا حكمة لشيء في موضع ، ويكون لذلك الشيء حكم أخر مذكورة في مواضع أخرى - فإنا نبينها . ومثلنا لذلك ، وذكرنا منه أشياء متعددة في هذا الكتاب المبارك . وإذا علمت ذلك فاعلم أنه تعالى هنا في هذه الآية الكريمة بين من حكم بعثهم إظهاره للناس أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمداً . وقد بين لذلك حكماً أخر في غير هذا الموضع . منها - أن يتساءلوا عن مدة لبثهم ، كقوله { وَكَذٰلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ } الكهف 19 الآية . ومنها - إعلام الناس أن البعث حق ، وأن الساعة حق لدلالة قصة أصحاب الكهف على ذلك . وذلك في قوله { وَكَذٰلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوۤاْ أَنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ لاَ رَيْبَ فِيهَا } الكهف 21 الآية . واعلم أن قوله جل وعلا في هذه الآية الكريمة { ثم بعثناهم لنعلم } الآية - لا يدل على أنه لم يكن عالماً بذلك قبل بعثهم ، وإنما علم بعد بعثهم . كما زعمه بعض الكفرة الملاحدة ! بل هو جل وعلا عالم بكل ما سيكون قبل أن يكون ، لا يخفى عليه من ذلك شيء . والآيات الدالة على ذلك لا تحصى كثر . وقد قدمنا - أن من أصرح الأدلة على أنه جل وعلا لا يستفيد بالاختبار والابتلاء علماً جديداً سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً - قوله تعالى في آل عمران { وَلِيَبْتَلِيَ ٱللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } آل عمران 154 فقوله { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } بعد قوله { وليبتلي } دليل واضح في ذلك . وإذا حققت ذلك فمعنى { لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ } أي نعلم ذلك علماً يظهر الحقيقة للناس ، فلا ينافى أنه كان عالماً به قبل ذلك دون خلقه . واختلف العلماء في قوله { أَحصى } فذهب بعضهم إلى أنه فعل ماض و " أَمداً " مفعوله " وما " في قوله " لما لبثوا " مصدرية . وتقرير المعنى على هذا لنعلم أي الحزبين ضبط أمداً للبثهم في الكهف . وممن اختار أن { أحصى } فعل ماض الفارسي والزمخشري . وابن عطية وغيرهم . وذهب بعضهم إلى أن { أحصى } صيغة تفضيل ، " وأمداً " تمييز . وممن اختاره الزجاج والتبريزي وغيرهما . وجوز الحوفى وأبو البقاء الوجهين . والذين قالوا إن { أحصى } فعل ماض قالوا لا يصح فيه أن يكون صيغة تفضيل . لأنها لا يصح بناؤها هي ولا صيغة فعل التعجب قياساً إلا من الثلاثي ، " وأحصى " رباعي فلا تصاغ منه صيغة التفضيل ولا التعجب قياساً . قالوا وقولهم ما أعطاه وما أولاه للمعروف ، وأعدى من الجرب ، وأفلس من ابن المذلق - شاذ لا يقاس عليه ، فلا يجوز حمل القرآن عليه . واحتج الزمخشري في الكشاف أيضاً لأن { أَحصى } ليست صيغة تفضيل - بأن { أَمداً } لا يخلو إما أن ينتصب بأفعل - فأفعل لا يعمل . وإما أن ينتصب بـ { لبثوا } فلا يسد عليه المعنى أن لا يكون سديداً على ذلك القول ، وقال فإن زعمت نصبه بإضمار فعل يدل عليه { أحصى } كما أضمر في قوله @ وأضرب منا بالسيوف القوانسا @@ أي نضرب القوانس فقد أبعدت المتناول وهو قريب حيث أبيت أن يكون { أَحصى } فعلاً ، ثم رجعت مضطراً إلى تقديره وإضماره - انتهى كلام الزمخشري . وأجيب من جهة المخالفين عن هذا كله قالوا لا نسلم أن صيغة التفضيل لا تصاغ من غير الثلاثي ، ولا نسلم أيضاً لأنها لا تعمل . وحاصل تحرير المقام في ذلك - أن في كون صيغة التفضيل تصاغ من " أفعل " كما هنا ، أو لا تصاغ منه . ثلاثة مذاهب لعلماء النحو الأول - جواز بنائها من أفعل مطلقاً ، وهو ظاهر كلام سيبويه ، وهو مذهب أبي إسحاق كما نقله عن أبو حيان في البحر . والثاني - لا يبنى منه مطلقاً ، وما سمع منه فهو شاذ يحفظ ولا يقاس عليه . وهو الذي درج عليه ابن مالك في الخلاصة بقوله @ وبالندور احكم لغير ما ذكر ولا تقس على الذي منه أثر @@ كما قدمناه في سورة " بني إسرائيل " في الكلام على قوله { فَهُوَ فِي ٱلآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلاً } الإسراء 72 . الثالث - تصاغ من أفعل إذا كانت همزتها لغير النقل خاصة . كأظلم الليل ، وأشكل الأمر . لا إن كانت الهمزة للنقل فلا تصاغ منها ، وهذا هو اختيار أبي الحسن بن عصفور . وهذه المذاهب مذكورة بأدلتها في كتب النحو وأما قول الزمخشري فأفعل لا يعمل فليس بصحيح . لأن صيغة التفضيل تعمل في التمييز بلا خلاف ، وعليه درج في الخلاصة بقوله @ والفاعل المعنى انصبن بأفعلا مفضلاً كأنت أعلى منزلا @@ و { أمداً } تمييز كما تقدم . فنصبه بصيغة التفضيل لا إشكال فيه . وذهب الطبري إلى أن { أمداً } منصوب بـ { لبثوا } وقال ابن عطية إن ذلك غير متجه . وقال أبو حيان قد يتجه ذلك . لأن الأمد هو الغاية ، ويكون عبارة عن المدة من حيث إن المدة غاية . و { ما } بمعنى الذي ، و { أمداً } منتصب على إسقاط الحرف . أي لما لبثوا من أمد ، أي مدة . ويصير من أمد تفسيراً لما انبهم في لفظ { ما لبثوا } كقوله { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } البقرة 106 ، { مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ } فاطر 2 ولما سقط الحرف وصل إليه الفعل . قال مقيدة عفا الله عنه إطلاق الأمد على الغاية معروف في كلام العرب ومنه قول نابغة ذبيان @ إلا لمثلك أو من أنت سابقه سبق الجواد إذا استولى على الأمد @@ وقد قدمنا في سورة " النساء " - أن علي بن سليمان الأخفش الصغير أجاز النصب بنزع الخافض عند أمن اللبس مطلقاً . ولكن نصب قوله { أمداً } ، بقوله { لبثوا } غير سديد كما ذكره الزمخشري وابن عطية وكما لا يخفى اهـ . وأجاز الكوفيون نصب المفعول بصيغة التفضيل ، وأعربوا قول العباس بن مرداس السلمي @ فلم أر مثل الحي حياً مصبحاً ولا مثلنا يوم التقينا فوارسا أكر وأحمي الحقيقة منهم وأضرب منا بالسيوف القوانسا @@ بأن " القوانس " مفعول به لصيغة التفضيل التي هي أضرب . قالوا ولا حاجة لتقدير فعل محذوف ومن هنا قال بعض النحويين إن { من } في قوله تعالى { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ } الأنعام 117 منصوب بصيغة التفضيل قبله نصب المفعول به . قال مقيدة عفا الله عنه ، وغفر له ومذهب الكوفيين هذا أجرى عندي على المعنى المعقول . لأن صيغة التفضيل فيها معنى المصدر الكامن فيها فلا مانع من عملها عمله . ألا ترى أن قوله وأضرب منا السيوف القوانسا معناه يزيد ضربنا بالسيوف القوانس على ضرب غيرنا ، كما هو واضح . وعلى هذا الذي قررنا فلا مانع من كون { أمداً } منصوب بـ { أحصى } نصب المفعول به على أنه صيغة تفضيل . وإن كان القائلون بأن { أَحصى } صيغة تفضيل اعربوا { أَمداً } بأنه تمييز . تنبيه فإن قيل ما وجه رفع { أَي } من قوله { لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَىٰ } الكهف 12 الآية ، مع أنه في محل نصب لأنه مفعول به ؟ فالجواب - أن للعلماء في ذلك أجوبة ، منها ، أن { أي } فيها معنى الاستفهام ، والاستفهام يعلق الفعل عن مفعوليه كما قال ابن مالك في الخلاصة عاطفاً على ما يعلق الفعل القلبي عن مفعوليه @ وإن ولا لام ابتداء أو قسم كذا والاستفهام ذاله انحتم @@ ومنها - ما ذكره الفخر الرازي وغيره من أن الجملة بمجموعها متعلق العلم . ولذلك السبب لم يظهر عمل قوله { لنعلم } في لفظة { أي } بل بقيت على ارتفاعها . ولا يخفى عدم اتجاه هذا القول كما ترى . قال مقيدة عفا الله عنه وغفر له أظهر أوجه الأعاريب عندي في الآية أن لفظة { أي } موصولة استفهامية . و { أي } مبنية لأنها مضافة ، وصدر صلتها محذوف على حد قوله في الخلاصة @ أي كما وأعربت ما لم تضف وصدر وصلها ضمير انحذف @@ ولبنائها لم يظهر نصبها . وتقرير المعنى على هذا لنعلم الحزب الذي هو أحصى لما لبثوا أمداً ونميزه عن غيره . و { أحصى } صيغة تفضيل كما قدمنا توجيهه . نعم ، للمخالف أن يقول إن صيغة التفضيل تقتضى بدلالة مطابقتها الاشتراك بين المفضل والمفضل عليه في أصل الفعل ، وأحد الحزبين لم يشارك الآخر في أصل الإحصاء لجهله بالمدة من أصلها ، وهذا مما يقوي قول من قال إن { أحصى } أفعل ، والعلم عند الله تعالى . فإن قيل أي فائدة مهمة في معرفة الناس للحزب المحصى أمد اللبث من غيره ، حتى يكون علة غائية لقوله ، { ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ } الكهف 12 الآية ؟ وأي فائدة مهمة في مساءلة بعضهم بعضاً ، حتى يكون علة غائية لقوله { وَكَذٰلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ } الكهف 19 ؟ . فالجواب - أنا لم نر من تعرض لهذا . والذي يظهر لنا والله تعالى أعلم - أن ما ذكر من إعلام الناس بالحزب الذي هو أحصى أمداً لما لبثوا ، ومساءلة بعضهم بعضاً عن ذلك ، يلزمه أن يظهر للناس حقيقة أمر هؤلاء الفتية ، وأن الله ضرب على آذانهم في الكهف ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً ثم بعثهم أحياء طرية أبدانهم . لم يتغير لهم حال . وهذا من غريب صنعه جل وعلا الدال على كمال قدرته ، وعلى البعث بعد الموت . ولاعتبار هذا اللازم جعل ما ذكرنا علة غائية والله تعالى أعلم .