Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 18, Ayat: 17-17)
Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى { وَتَرَى ٱلشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ ٱلْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ ٱلشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذٰلِكَ مِنْ آيَاتِ ٱللَّهِ } . اعلم أولاً أما قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها - أن يقول بعض العلماء في الآية قولاً ، ويكون في نفس الآية قرينة تدل على خلاف ذلك القول . وذكرنا من ذلك أمثلة متعددة . وإذا علمت ذلك فاعلم أن العلماء اختلفوا في هذه الآية على قولين وفي نفس الاية قرينة تدل على صحة أحدهما وعدم صحة الآخر . أما القول الذي تدل القرينة في الآية على خلافه - فهو أن أصحاب الكهف كانوا في زاوية من الكهف ، وبينهم وبين الشمس حواجز طبيعية من نفس الكهف ، تقيهم حر الشمس عند طلوعها وغروبها . على ما سنذكر تفصيله إن شاء الله تعالى . وأما القول الذي تدل القرينة في هذه الآية على صحته - فهو أن أصحاب الكهف كانوا في فجوة من الكهف على سمت تصيبه الشمس وتقابله . إلا أن الله منع ضوء الشمس من الوقوع عليهم على وجه خرق العادة . كرامة لهؤلاء القوم الصالحين ، الذين فروا بدينهم طاعة لربهم جل وعلا . والقرينة الدالة على ذلك هي قوله تعالى { ذٰلِكَ مِنْ آيَاتِ ٱللَّهِ } إذ لو كان الأمر كما ذكره أصحاب القول الأول لكان ذلك أمراً معتاداً مألوفاً ، وليس فيه غرابة حتى يقال فيه { ذٰلِكَ مِنْ آيَاتِ ٱللَّهِ } وعلى هذا الوجه الذي ذكرناه أنه تشهد له القرينة المذكورة . فمعنى تزاور الشمس عن كهفهم ذات اليمين عند طلوعها ، وفرضها إياهم ذات الشمال عند غروبها - هو أن الله يقلص ضوءها عنهم ويبعده إلى جهة اليمين عند الطلوع ، وإلى جهة الشمال عند الغروب . والله جل وعلا قادر على كل شيء ، يفعل ما يشاء . فإذا علمت هذا - فاعلم أن أصحاب القول الأول اختلفوا في كيفية وضع الكهف . وجزم ابن كثير في تفسيره بأن الآية تدل على أن باب الكهف كان من نحو الشمال ، قال لأنه تعالى أخبر بأن الشمس إذا دخلته عند طلوعها تزاور عنه ذات اليمين ، أي يتقلص الفيء يمنة . كما قال ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة تزاور أي تميل ، وذلك أنها كلما ارتفعت في الأفق تقلص شعاعها بارتفاعها حتى لا يبقى منه شيء عند الزوال في ذلك المكان . ولهذا قال تعالى { وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ ٱلشِّمَالِ } أي تدخل إلى غارهم من شمال بابه وهو من ناحية الشرق ، فدل على صحة ما قلناه وهذا بين لمن تأمله ، وكان له علم بمعرفة الهيئة وسير الشمس والقمر والكواكب . وبيانه - أنه لو كان باب الغار من ناحية الشرق لما دخل إليه منها شيء عند الغروب . ولو كان من ناحية القبلة لما دخل إليه منها شيء عند الطلوع ولا عند الغروب . ولا تزاور الفيء يميناً وشمالاً . ولو كان من جهة الغرب لما دخلته وقت الطلوع ، بل بعد الزوال ولم تزل فيه إلى الغروب ، فتعين ما ذكرناه ، ولله الحمد . انتهى كلام ابن كثير . وقال الفخر الرازي في تفسيره أصحاب هذا القول قالوا إن باب الكهف كان مفتوحاً إلى جانب الشمال ، فإذا طلعت الشمس كانت على يمين الكهف ، وإذا غربت كانت على شماله ، فضوء الشمس ما كان يصل إلى داخل الكهف ، وكان الهواء الطيب والنسيم الموافق يصل إليه ، انتهى كلام الرازي . وقال أبو حيان في تفسير هذه الآية وهذه الصفة مع الشمس تقتضي أنه كان لهم حاجب من جهة الجنوب ، وحاجب من جهة الدبور وهم في زاوية . وقال عبد الله بن مسلم كان باب الكهف ينظر إلى بنات نعش ، وعلى هذا كان أعلى الكهف مستوراً من المطر . قال ابن عطية كان كهفهم مستقبل بنات نعش لا تدخله الشمس عند الطلوع ولا عند الغروب ، اختار الله لهم مضجعاً متسعاً في مقنأة لا تدخل عليهم الشمس فتؤذيهم . انتهى الغرض من كلام أبو حيان . والمقنأة المكان الذي لا تطلع عليه الشمس ، وإلى غير ذلك من أقوال العلماء . والقول الأول أنسب للقرينة القرآنية التي ذكرنا . وممن اعتمد القول الأول لأجل القرينة المذكورة - الزجاج ، ومال إليه بعض الميل الفخر الرازي والشوكاني في تفسيريهما ، لتوجيههما قول الزجاج المذكور بقرينة الآية المذكورة . وقال الشوكاني رحمه الله في تفسيره ويؤيد القول الأول قوله تعالى { ذٰلِكَ مِنْ آيَاتِ ٱللَّهِ } فإن صرف الشمس عنهم مع توجه الفجوة إلى مكان تصل إليه عادة أنسب ، بمعنى كونها آية . ويؤيده أيضاً إطلاق الفجوة وعدم تقييدها بكونها إلى جهة كذا . ومما يدل على أن الفجوة المكان الواسع قول الشاعر @ ألبست قومك مخزاة ومنقصة حتى أبيحوا وحلوا فجوة الدار @@ انتهى كلام الشوكاني . ومعلوم أن الفجوة هي المتسع . وهو معروف في كلام العرب ومنه البيت المذكور ، وقول الآخر @ ونحن ملأنا كل واد وفجوة رجالاً وخيلاً غير ميل ولا عزل @@ ومنه الحديث " فإذا وجد فجوة نص " . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة { وَتَرَى ٱلشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت } أي ترى أيها المخاطب الشمس عند طلوعها تميل على كهفهم . والمعنى أنك لو رأيتهم لرأيتهم كذلك . لا أن المخاطب رآهم بالفعل ، كما يدل لهذا المعنى قوله تعالى { لَوِ ٱطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراًً } الكهف 18 الآية والخطاب بمثل هذا مشهور في لغة العرب التي نزل بها هذا القرآن العظيم . وأصل مادة التزاور الميل ، فمعنى تزاور تميل . والزور الميل ، ومنه شهادة الزور ، لأنها ميل عن الحق . ومنه الزيادة ، لأن الزائر يميل إلى المزور . ومن هذا المعنى قول عنترة في معلقته @ فازور من وقع القنا بلبانه وشكا إلي بعبرة وتحمحم @@ وقول عمر بن أبي ربيعة @ وخفض عني الصوت أقبلت مشية الـ حبات وشخصي خشية الحي أزور @@ وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة { ذات اليمين } أي جهة اليمين ، وحقيقتها الجهة المسماة باليمين . وقال أبو حيان في البحر وذات اليمين جهة يمين الكهف ، وحقيقتها الجهة المسماة باليمين ، يعني يمين الداخل إلى الكهف ، أو يمين الفتية اهـ وهو منصوب على الظرف . وقوله تعالى { وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ } . من القرض بمعنى القطيعة والصرم . أي تقطعهم وتتجافى عنهم ولا تقربهم . وهذا المعنى معروف في كلام العرب . ومنه قول غيلان ذي الرمة @ نظرت بجرعاء السبية نظره ضحى وسواد العين في الماء شامس إلى ظعن يقرضن أفواز مشرف شمالاً وعن أيمانهن الفوارس @@ فقوله " يقرضن أفواز مشرف " أي يقطعنها ويبعدنها ناحية الشمال وعن أيمانهن الفوارس ، وهو موضع أو رمال الدهناء . والأقواز جمع قوز - بالفتح - وهو العالي من الرمل كأنه جبل . ويروى أجواز مشرف - جمع جوز . من المجاز بمعنى الطريق . وهذا الذي ذكرنا هو الصواب في معنى قوله تعالى { تَّقْرِضُهُمْ } خلافاً لمن زعم أن معنى تقرضهم تقطعهم من ضوئها شيئاً ثم يزول سريعاً كالقرض يسترد . ومراد قائل هذا القول - أن الشمس تميل عنهم بالغداة ، وتصيبهم بالعشي إصابة خفيفة ، بقدر ما يطيب لهم هواء المكان ولا يتعفن . قال أبو حيان في البحر ولو كان من القرض الذي يعطى ثم يسترد لكان الفعل رباعياً ، فتكون التاء في قوله " تقرضهم " مضمومة ، لكن دل فتح التاء من قوله " تقرضهم " على أنه من القرض بمعنى القطع ، أي تقطع لهم من ضوئها شيئاً ، وقد علمت أن الصواب القول الأول . وقد قدمنا أن الفجوة المتسع . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة { تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ } فيه ثلاث قراءات سبعيات قرأه ابن عامر الشامي " تزور " بإسكان الزاي وإسقاط الألف وتشديد الراء . على وزن تحمر ، وهو على هذه القراءة من الأزورار بمعنى الميل . كقول عنترة المتقدم @ فازور من وقع القنا . البيت @@ وقرأه الكوفيون وهم عاصم وحمزة والكسائي بالزاي المخففة بعدها ألف . وعلى هذه القراءة فأصله " تتزاور " فحذفت منه إحدى التاءين . على حد قوله في الخلاصة @ وما بتاءين ابتدى قد يقتصر فيه على تا كتبين العبر @@ وقرأه نافع المدني وابن كثير المكي وأبو عمرو البصري " تزاور " بتشديد الزاي بعدها ألف ، وأصله " تتزاور " أدغمت فيه التاء في الزاي . وعلى هاتين القراءتين أعني قراءة حذف إحدى التاءين ، وقراءة إدغامها في الزاي فهو من التزاور بمعنى الميل أيضاً . وقد يأتي التفاعل بمعنى مجرد الفعل كما هنا ، وكقولهم سافر وعاقب وعافى . وعلى قول من قال كهف حواجز طبيعية تمنع من دخول الشمس بحسب وضع الكهف فالإشارة في قوله { ذٰلِكَ مِنْ آيَاتِ ٱللَّهِ } راجعة إلى ما ذكر من حديثهم . أي ذلك المذكور إلى هدايتهم إلى التوحيد وإخراجهم من بين عبدة الأوثان ، وإيوائهم إلى ذلك الكهف ، وحمايتهم من عدوهم إلى آخر حديثهم - من آيات الله . وأصل الآية عند المحققين " أيية " بثلاث فتحات ، أبدلت فيه الياء الأولى ألفاً . والغالب في مثل ذلك أنه إذا اجتمع موجبا إعلال كان الإعلال في الأخير . لأن التغير عادة أكثر في الأواخر ، كما في طوى ونوى ، ونحو ذلك . وهنا أعلى الأول على خلاف الأغلب ، كما أشار له في الخلاصة بقوله @ وإن لحرفين ذا الإعلال استحق صحح أول وعكس قد يحق @@ والآية تطلق في اللغة العربية إطلاقين . وتطلق في القرآن العظيم إطلاقين أيضاً . أما إطلاقاها في اللغة الأول منهما - أنها تطلق بمعنى العلامة ، وهو الإطلاق المشهور ، ومنه قوله تعالى { إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ ٱلتَّابُوتُ } البقرة 248 الآية ، وقول عمر بن أبي ربيعة @ بآية ما قالت غداة لقيتها بمدفع أكنان أهذا المشهر @@ يعني أن قولها ذلك هو العلامة بينها وبين رسوله إليها المذكور في قوله قبله @ ألكني إليها بالسلام فإنه يشهر إلمامي بها وينكر @@ وقد جاء في شعر نابغة ذبيان وهو جاهلي تفسير الآية بالعلامة في قوله @ توهمت آيات لها فعرفتها لستة أعوام وذا العام سابع @@ ثم بين أن مراده بالآيات علامات الدار بقوله بعده @ رماد ككحل العين لأياً أبينه ونؤدي كجذم الحوض أثلم خاشع @@ وأما الثاني منهما - فهو إطلاق الآية بمعنى الجماعة ، يقولون جاء القوم بآيتهم ، أي بجماعتهم . ومنه قول برج بن مسهر أو غيره @ خرجنا من النقبين لاحى مثلنا بآياتنا لزجي اللقاح المطافلا @@ فقوله " بآياتنا " أي بجماعتنا . وإما إطلاقاها في القرآن فالأول منهما - إطلاقها على الآية الكونية القدرية ، كقوله تعالى { إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفِ ٱلْلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ } آل عمران 190 أي علامات كونية قدرية يعرف بها أصحاب العقول السليمة أن خالقها هو الرب المعبود وحده جل وعلا . والآية الكونية القدرية في القرآن من الآية بمعنى العلامة لغة . وأما إطلاقها الثاني في القرآن فهو إطلاقها على الآية الشرعية الدينية ، كقوله { رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ ٱللَّهِ } الطلاق 11 الآية ونحوها من الآيات . والآية الشرعية الدينية قيل هي من الآية بمعنى العلامة لغة ، لأنها علامات على صدق من جاء بها . أو أن فيها علامات على ابتدائها وانتهائها . وقيل من الآية . بمعنى الجماعة ، لاشتمال الآية الشرعية الدينية على طائفة وجماعة من كلمات القرآن . قوله تعالى { مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً } . بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الهدى والإضلال بيده وحده جل وعلا ، فمن هداه فلا مضل له ، ومن أضله فلا هادي له . وقد أوضح هذا المعنى في آيات كثيرة جداً ، كقوله تعالى { وَمَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً } الإسراء 97 الآية ، وقوله { مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ } الأعراف 178 ، وقوله { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ } القصص 56 الآية ، وقوله { وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً } المائدة 41 الآية ، وقوله { إِن تَحْرِصْ عَلَىٰ هُدَاهُمْ فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } النحل 37 ، وقوله تعالى { فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي ٱلسَّمَآءِ } الأنعام 125 والآيات بمثل هذا كثيرة جداً . ويؤخذ من هذه الآيات وأمثالها في القرآن - بطلان مذهب القدرية أن العبد مستقل بعمله من خير أو شر ، وأن ذلك ليس بمشيئة الله بل بمشيئة العبد ، سبحانه جل وعلا عن أن يقع في ملكه شيء بدون مشيئته ! وتعالى عن ذلك علواً كبيراً ! وسيأتي بسط هذا المبحث إن شاء الله تعالى . وقد أوضحناه أيضاً في كتابنا دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب في سورة " الشمس " في الكلام على قوله تعالى { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } الشمس 8 وقوله { فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً } أي لن يكون بينه وبينه سبب للمولاة يرشده إلى الصواب والهدى ، أي لن يكون ذلك - لأن من أضله الله فلا هادي له ، وقوله { فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ } قرأه بإثبات الياء في الوصل دون الوقف نافع وأبو عمرو . وبقية السبعة قرؤوه بحذف الياء في الحالين .