Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 18, Ayat: 29-29)
Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى { وَقُلِ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ } . أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة - أن يقول للناس الحق من ربكم . وفي إعرابه وجهان أحدهما - أن " الحق " مبتدأ ، والجار والمجرور خبره ، أي الحق الذي جئتكم به في هذا القرآن العظيم ، المتضمن لدين الإسلام كائن مبدؤه من ربكم جل وعلا . فليس من وحي الشيطان ، ولا من افتراء الكهنة ، ولا من أساطير الأولين ، ولا غير ذلك . بل هو من خالقكم جل وعلا ، الذي تلزمكم طاعته وتوحيده ، ولا يأتي من لدنه إلا الحق الشامل للصدق في الأخبار ، والعدل في الأحكام ، فلا حق إلا منه جل وعلا . الوجه الثاني أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي هذا الذي جئتكم به الحق . وهذا الذي ذكره تعالى في هذه الآية الكريمة - ذكره أيضاً في مواضع أخر . كقوله في سورة " البقرة " { ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُمْتَرِينَ } البقرة 147 ، وقوله في " آل عمران " { ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن ٱلْمُمْتَرِينَ } آل عمران 60 إلى غير ذلك من الآيات . قوله تعالى { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } . ظاهر هذه الآية الكريمة بحسب الوضع اللغوي - التخيير بين الكفر والإيمان - ولكن المراد من الآية الكريمة ليس هو التخيير ، وإنما المراد بها التهديد والتخويف . والتهديد بمثل هذه الصيغة التي ظاهرها التخيير أسلوب من أساليب اللغة العربية . والدليل من القرآن العظيم على أن المراد في الآية التهديد والتخويف - أنه أتبع ذلك بقوله { إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَٱلْمُهْلِ يَشْوِي ٱلْوجُوهَ بِئْسَ ٱلشَّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً } الكهف 29 وهذا أصرح دليل على أن المراد التهديد والتخويف . إذ لو كان التخيير على بابه لما توعد فاعل أحد الطرفين المخير بينهما بهذا العذاب الأليم . وهذا واضح كما ترى . وقوله في هذه الآية الكريمة { أعتدنا } أصله من الاعتاد ، والتاء فيه أصلية وليست مبدلة من دال على الأصح . ومنه العتاد بمعنى العدة للشيء . ومعنى " أعتدنا " أرصدنا وأعددنا . والمراد بالظالمين هنا الكفار . بدليل قوله قبله { وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } وقد قدمنا كثرة إطلاق الظلم على الكفر في القرآن . كقوله { إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } لقمان 13 ، وقوله { وَٱلْكَافِرُونَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ } البقرة 254 ، وقوله تعالى { وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ ٱلظَّالِمِينَ } يونس 106 ونحو ذلك من الآيات . وقد قدمنا أن الظلم في لغة العرب وضع الشيء في غير محله ، ومن أعظم ذلك وضع العبادة في مخلوق . وقد جاء في القرآن إطلاق الظلم على النقص في قوله { وَلَمْ تَظْلِمِ مِّنْهُ شَيْئاً } الكهف33 وأصل معنى مادة الظلم هو ما ذكرنا من وضع الشيء في غير موضعه ، ولأجل ذلك قيل الذي يضرب اللبن قبل أن يروب ظالم لوضعه ضرب لبنه في غير موضعه ، لأن ضربه قبل أن يروب يضيع زبده . ومن هذا المعنى قول الشاعر @ وقائلة ظلمت لكم سقائي وهل يخفى على العكد الظليم @@ فقوله " ظلمت لكم سقائي " أي ضربته لكم قبل أن يروب . ومنه قول الآخر في سقاءٍ له ظلمه بنحو ذلك @ وصاحب صدق لم تربني شكاته ظلمت وفي ظلمي له عامداً أجر @@ وفي لغز الحريري في مقاماته في الذي يضرب لبنه قبل أن يروب قال أيجوز أن يكون الحاكم ظالماً ؟ قال نعم ، إذا كان عالماً . ومن ذلك أيضاً قولهم للأرض التي حفر فيها وليست محل حفر في السابق أرض مظلومة ، ومنه قول نابغة ذبيان @ إلا الأواري لأياً ما أبينها والنؤى كالحوض بالمظلومة الجلد @@ وما زعمه بعضهم من أن " المظلومة " في البيت هي التي ظلمها المطر بتخلفه عنها وقت إبانه المعتاد - غير صواب . والصواب هو ما ذ كرنا إن شاء الله تعالى . ولأجل ما ذكرنا قالوا للتراب المخرج من القبر عند حفره ظليم بمعنى مظلوم ، لأنه حفر في غير محل الحفر المعتاد ، ومنه قول الشاعر يصف رجلاً مات ودفن @ فأصبح في غبراء بعد إشاحة على العيش مردود عليها ظليمها @@ وقوله { أَحَاطَ بِهِمْ } أي أحدق بهم من كل جانب . وقوله { سُرَادِقُهَا } أصل السرادق واحد السرادقات التي تمد فوق صحن الدار . وكل بيت من كرسف فهو سرادق . والكرسف القطن ، ومنه قول رؤبة أو الكذاب الحرمازي @ يا حكم بن المنذر بن الجارود سرادق المجد عليك ممدود @@ وبيت مسردق أي مجعول له سرادق ، ومنه قول سلامة بن جندل يذكر أبريويز وقتله للنعمان بن المنذر تحت أرجل الفيلة @ هو المدخل النعمان بيتاً سماؤه صدور الفيول بعد بيت مسردق @@ هذا هو أصل معنى السرادق في اللغة . ويطلق أيضاً في اللغة على الحجرة التي حول الفسطاط . وأما المراد بالسرادق في الآية الكريمة ففيه للعلماء أقوال مرجعها إلى شيء واحد ، وهو إحداق النار بهم من كل جانب ، فمن العلماء من يقول " سرادقها " أي سورها ، قاله ابن الأعرابي وغيره . ومنهم من يقول " سرادقها " سور من نار ، وهو مروي عن ابن عباس . ومنهم من يقول " سرادقها " عنق يخرج من النار فيحيط بالكفار كالحظيرة ، قاله الكلبي ومنهم من يقول هو دخان يحيط بهم . وهو المذكور في " المرسلات " في قوله تعالى { ٱنطَلِقُوۤاْ إِلَىٰ ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ لاَّ ظَلِيلٍ وَلاَ يُغْنِي مِنَ ٱللَّهَبِ } المرسلات 30 - 31 ، و " الواقعة " في قوله { وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ } الواقعة 43 - 44 . ومنهم من يقول هو البحر المحيط بالدنيا . وروى يعلى بن أمية عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " البحر هو جهنم " - ثم تلا - ناراً أحاط بهم سرادقها - ثم قال " والله لا أدخلها أبداً ما دمت حياً ولا تصيبني منها قطرة " ذكره الماوردي . وروى ابن المبارك من حديث أبي سعيد الخدري عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال " لسرادق النار أربعة جدر كثف ، كل جدار مسيرة أربعين سنة " وأخرجه أبو عيسى الترمذي وقال فيه حديث حسن صحيح غريب . انتهى من القرطبي . و هذا الحديث رواه أيضاً الإمام أحمد وابن جرير وأبو يعلى وابن أبي حاتم وابن حبان ، وأبو الشيخ ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه وابن أبي الدنيا . قاله صاحب الدر المنثور وتبعه الشوكاني . وحديث يعلى بن أمية رواه أيضاً ابن جرير في تفسيره . قال الشوكاني ورواه أحمد والبخاري وابن أبي حاتم والحاكم وصححه ، ورواه صاحب الدر المنثور عن البخاري في تاريخه وأحمد وابن أبي الدنيا وابن جرير والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي . وعلى كل حال ، فمعنى الآية الكريمة أن النار محيطة بهم من كل جانب ، كما قال تعالى { لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ } الأعراف 41 ، وقال { لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ ٱلنَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ } الزمر 16 ، وقال { لَوْ يَعْلَمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ ٱلنَّارَ وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } الأنبياء 39 إلى غير ذلك من الآيات . وقوله في هذه الآية الكريمة { وَإِن يَسْتَغِيثُواْ } يعني إن يطلبوا الغوث مما هم فيه من الكرب يغاثوا ، يؤتوا بغوث هو ماء كالمهل . والمهل في اللغة يطلق على ما أذيب من جواهر الأرض ، كذائب الحديد والنحاس ، والرصاص ونحو ذلك . ويطلق أيضاً على دردي الزيت وهو عكره . والمراد بالمهل في الآية ما أذيب من جواهر الأرض . وقيل دردي الزيت . وقيل هو نوع من القطران . وقيل السم . فإن قيل أي إغاثة في ماء كالمهل مع أنه من أشد العذاب ، وكيف قال الله تعالى { يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَٱلْمُهْلِ } . فالجواب - أن هذا من أساليب اللغة العربية التي نزل بها القرآن . ونظيره من كلام العرب قول بشر بن أبي حازم @ غضبت تميم أن تقتل عامر يوم النسار فأعتبوا بالصيلم @@ فمعنى قوله " أعتبوا بالصيلم " أي أرضوا بالسيف . يعني ليس لهم منا إرضاء إلا بالسيف . وقول عمرو بن معد يكرب @ وخيل قد دلفت لها بخيل تحية بينهم ضرب وجيع @@ يعنى لا تحية لهم إلا الضرب الوجيع . وإذا كانوا لا يغاثون إلا بماء كالمهل - علم من ذلك أنهم لا إغاثة لهم ألبتة . والياء في قوله " يستغيثوا " والألف في قوله " يغاثوا " كلتاهما مبدلة من واو ، لأن مادة الاستغاثة من الأجوف الواوي العين ، ولكن العين أعلت للساكن الصحيح قبلها ، على حد قوله في الخلاصة @ لساكن صح انقل التحريك من ذي لين آت عين فعل كأبن @@ وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة { يَشْوِي ٱلْوجُوهَ } أي يحرقها حتى تسقط فروة الوجه ، أعاذنا الله والمسلمين منه ! وعن النَّبي صلى الله عليه وسلم في تفسير هذه الآية الكريمة أنه قال " كالمهل يشوي الوجوه " ، هو كعكر الزيت فإذا قرب إليه سقطت فروة وجهه . قال ابن حجر رحمه الله في الكافي الشاف ، في تخريج أحاديث الكشاف أخرجه الترمذي من طريق رشدين بن سعد ، عن عمرو بن الحارث ، عن دراج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، واستغربه وقال لا يعرف إلا من حديث رشدين بن سعد ، وتعقب قوله بأن أحمد وأبا يعلى أخرجاه من طريق ابن لهيعة عن دراج ، وبأن ابن حبان والحاكم أخرجاه من طريق وهب عن عمرو بن الحارث . وقوله في هذه الآية الكريمة { بِئْسَ ٱلشَّرَابُ } المخصوص بالذم فيه محذوف ، تقديره بئس الشراب ذلك الماء الذي يغاثون به . والضمير الفاعل في قوله " ساءت " عائد إلى النار . والمرتفق مكان الارتفاق . وأصله أن يتكىء الإنسان معتمداً على مرفقه . وللعلماء في المراد بالمرتفق في الآية أقوال متقاربة في المعنى . قيل مرتفقاً . أي منزلاً ، وهو مروي عن ابن عباس . وقيل مقراً ، وهو مروي عن عطاء . وقيل مجلساً وهو مروي عن العتبي . وقال مجاهد مرتفقاً أي مجتمعاً . فهو عنده مكان الارتفاق بمعنى مرافقة بعضهم لبعض في النار . وحاصل معنى الأقوال - أن النار بئس المستقر هي ، وبئس المقام هي . ويدل لهذا قوله تعالى { إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } الفرقان 66 ، وكون أصل الارتفاق هو الاتكاء على المرفق - معروف في كلام العرب ، ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي @ نام الخلى وبت الليل مرتفقاً كأن عيني فيها الصاب مذبوح @@ ويروى " وبت الليل مشتجراً " وعليه فلا شاهد في البيت . ومنه قول أعشى باهلة @ قد بت مرتفقاً للنجم أرقبه حيران ذا حذر لو ينفع الحذر @@ وقول الراجز @ قالت له وارتفقت ألا فتى يسوق بالقوم غزالات الضحا @@ وهذا الذي ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من صفات هذا الشراب ، الذي يسقى به أهل النار - جاء نحوه في آيات كثيرة ، كقوله تعالى { لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } الأنعام 70 ، وقوله تعالى { وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ } محمد 15 ، وقوله تعالى { تُسْقَىٰ مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ } الغاشية 5 ، وقوله تعالى { يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ } الرحمن 44 والحميم الآتي من الماء المتناهي في الحرارة . وقوله تعالى { وَيُسْقَىٰ مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ } إبراهيم 16 - 17 الآية ، وقوله تعالى { ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ } الصافات 67 ، وقوله تعالى { فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْحَمِيمِ فَشَارِبُونَ شُرْبَ ٱلْهِيمِ } الواقعة 54 - 55 . وقوله تعالى { لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً } النبأ 24 - 25 الآية ، وقوله تعالى { هَـٰذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ } ص 57و58 إلى غير ذلك من الآيات . وقد قدمنا طرقاً من هذا في سورة " يونس " .