Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 19, Ayat: 73-74)

Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى في هذه الآية الكريمة { خير مقاماً } قرأه ابن كثير بضم الميم . والباقون بفتحها . وقوله { ورئْيا } قرأه قالون وابن ذكوان " ورياً " بتشديد الياء من غير همز . وقرأه الباقون بهمزة ساكنة بعد الراء وبعدها ياء مخففة . ومعنى الآية الكريمة أن كفار قريش كانوا إذا يتلوا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه آيات هذا القرآن ، في حال كونها بينات أي مرتلات الألفاظ ، واضحات المعاني ، بينات المقاصد ، إما محكمات جاءت واضحة ، أو متشابهات قد تبعها البيان بالمحكمات ، أو تبيين الرسول صلى الله عليه وسلم قولاً أو فعلاً ، أو ظاهرات الإعجاز تحدي بها فلم يقدر على معارضتها - أو حججا وبراهين . والظاهر أن قوله { بيِّناتٍ } حال مؤكدة . لأن آيات الله لا تكون إلا كذلك . و نظير ذلك قوله تعالى { وَهُوَ ٱلْحَقُّ مُصَدِّقاً } البقرة 91 أي إذا تتلى عليهم آيات الله في حال كونها متصفة بما ذكرنا عارضوها واحتجوا على بطلانها ، وأن الحق معهم لا مع من يتلوها بشبهة ساقطة لا يحتج بها إلا من لا عقل له . ومضمون شبهتهم المذكورة أنهم يقولون لهم نحن أوفر منكم حظاً في الدنيا ، فنحن أحسن منكم منازل ، وأحسن منكم متاعاً ، وأحسن منكم منظراً ، فلولا أننا أفضل عند الله منكم لما آثرنا عليكم في الحياة الدنيا ، وأعطانا من نعيمها وزينتها ما لم يعطكم . فقوله { أَيُّ ٱلْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً } أي نحن وأنتم أينا خير مقاماً . والمقام على قراءة ابن كثير بضم الميم محل الإقامة ، وهو المنازل والأمكنة التي يسكنونها . وعلى قراءة الجمهور فالمقام بفتح الميم مكان القيام وهو موضع قيامهم وهو مساكنهم ومنازلهم . وقيل وهو موضع القيام بالأمور الجليلة ، والأول هو الصواب . وقوله { وَأَحْسَنُ نَدِيّاً } أي مجلساً ومجتمعاً . والاستفهام في قوله { أَيُّ ٱلْفَرِيقَيْنِ } الظاهر أنه استفهام تقرير . ليحملوا به ضعفاء المسلمين الذين هم في تقشف ورثاثة هيئة على أن يقولوا أنتم خير مقاماً وأحسن ندياً منا . وعلى كل حال فلا خلاف أن مقصودهم بالاستفهام المذكور أنهم - أي كفار قريش - خير مقاماً وأحسن ندياً من أصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم ، وأن ذلك هو دليلهم على أنهم على الحق ، وأنهم أكرم على الله من المسلمين . وما في التلخيص وشروحه من أن السؤال بـ " أي " في الآية التي نحن بصددها سؤال بها عما يميز أحد المشتركين في أمر يعمُّهما كالعادة في أي غلط منهم . لأنهم فسروا الآية الكريمة بغير معناها الصحيح . والصواب ما ذكرناه إن شاء الله تعالى . واستدلالهم هذا بحظهم في الحياة الدنيا على حظهم يوم القيامة ، وأن الله ما أعطاهم في الدنيا إلا لمكانتهم عنده ، واستحقاقهم لذلك لسخافة عقولهم - ذكره الله تعالى في مواضع من كتابه . كقوله تعالى عنهم { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَـٰذَآ إِفْكٌ قَدِيمٌ } الأحقاف 11 ، وقوله تعالى { وَكَذٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِّيَقُولوۤاْ أَهَـٰؤُلاۤءِ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِأَعْلَمَ بِٱلشَّاكِرِينَ } الأنعام 53 ، وقوله تعالى { وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَـرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } سبأ 35 ، وقوله تعالى { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي ٱلْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ } المؤمنون 55 - 56 ، وقوله { أَفَرَأَيْتَ ٱلَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً } مريم 77 ، وقوله { قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَـٰذِهِ أَبَداً وَمَآ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً } الكهف 35 - 36 ، وقوله { وَلَئِن رُّجِّعْتُ إِلَىٰ رَبِّيۤ إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَىٰ } فصلت 50 ، إلى غير ذلك من الآيات . فكل هذه الآيات دالة على أنهم لجهلهم يظنون أن الله لم يعطهم نصيباً من الدنيا إلا لرضاه عنهم ، ومكانتهم عنده ، وأن الأمر في الآخرة سيكون كذلك . وقد أبطل الله تعالى دعواهم هذه في آيات كثيرة من كتابه كقوله تعالى في هذه السورة الكريمة { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً } والمعنى أهلكنا قرونا كثيرة ، أي أمماً كانت قبلهم وهو أكثر نصيباً في الدنيا منهم ، فما معهم ما كان عندهم من زينة الدنيا ومتاعها من إهلاك الله إياهم لما عصوا وكذبوا رسله ، فلو كان الحظ والنصيب في الدنيا يدل على رضا الله والمكانة عنده لما أهلك الذين من قبلكم ، الذين هم أحسن أثاثاً ورئياً منكم . وقوله في هذه الآية الكريمة { وكم } هي الخبرية ، ومعناها الإخبار بعدد كثير ، وهي في حمل نصب على المفعول به لأهلكنا ، أي أهلكنا كثيراً . { ومن } مبينة لـ { كم } وكل أهل عصر قرن لمن بعدهم لأنهم يتقدمونهم . قيل سموا قرناً لاقترانهم في الوجود . والأثاث متاع البيت . وقيل هو الجديد من الفرش . وغير الجديد منها يسمى " الخرثي " بضم الخاء وسكون الراء والثاء المثلثة بعدها ياء مشددة . وأنشد لهذا التفصيل الحسن بن علي الطُّوسي قول الشاعر @ تقادم العهد من أم الوليد بنا دهراً وصار أثاث البيت خرثيا @@ والإطلاق المشهور في العربية هو إطلاق الأثاث على متاع البيت مطلقاً . قال الفراء لا واحد له . ويطلق الأثاث على المال أجمع الإبل ، والغنم ، والعبيد ، والمتاع . والواحد أثاثة . وتأثث فلان إذا أصاب رياشاً ، قاله الجوهري عن أبي زيد . وقوله { ورئْيا } على قراءة الجمهور مهموزاً ، أي أحسن منظراً وهيئة ، وهو فعل بمعنى مفعول من رأى البصرية . والمراد به الذي تراه العين من هيأتهم الحسنة ومتاعهم الحسن . وأنشد أبو عبيدة لمحمد بن نمير الثقفي في هذا المعنى قوله @ أشافتك الظغائن يوم بانوا بذي الرئي الجميل من الأثاث @@ وعلى قراءة قالون وابن ذكوان بتشديد الياء من غير همز . فقال بعض العلماء معناه معنى القراءة الأولى ، إلا أن الهمزة أبدلت ياءً فأدغمت في الياء . وقال بعضهم لا همز على قراءتهما أصلاً بل عليها فهو من الري الذي هو النعمة والترفه ، من قولهم هو ريان من النعيم ، وهي رياً منه . وعلى هذا فالمعنى أحسن نعمة وترفها . والأول أظهر عندي . والله تعالى أعلم . والآيات التي أبطل الله بها دعواهم هذه كثيرة . كقوله تعالى { وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوۤاْ إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } آل عمران 178 ، وقوله { وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بِٱلَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ جَزَآءُ ٱلضِّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ وَهُمْ فِي ٱلْغُرُفَاتِ آمِنُونَ } سبأ 37 . وقوله { فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } القلم 44 - 45 ، وقوله تعالى { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوۤاْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ } الأنعام 44 . والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً . وقد قدمنا شيئاً من ذلك . وقول الكفار الذي حكاه الله عنهم في هذه الآية الكريمة { أَيُّ ٱلْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً } الظاهر فيه أن وجه ذكرهم للمقام والندي أن المقام هو محل السكنى الخاص لكل واحد منهم . والندي محل اجتماع بعضهم ببعض ، فإذا كان كل منهما للكفار أحسن من نظيره عند المسلمين دل ذلك على أن نصيبهم في الدنيا أوفر من نصيب أصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت . ونظير ذلك من كلام العرب قول الشاعر @ يومان يوم مقاماتٍ وأنديةٍ ويوم سيرٍ إلى الأعداء تأويب @@ والمقامات جمع مقامة بمعنى المقام . والأندية جمع نادٍ بمعنى الندى وهو مجلس القوم ، ومنه قوله تعالى { وتأْتون في نادِيكم المنكر } فالنادي والندي يطلقان على المجلس ، وعلى القوم الجالسين فيه . وكذلك المجلس يطلق على القوم الجالسين ، ومن إطلاق الندي على المكان قول الفرزدق @ وما قام منا قائم في ندينا فينطق إلا بالتي هي أعرفُ @@ وقوله تعالى هنا { وأحسن ندياً } . ومن إطلاقه على القوم قوله { فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ ٱلزَّبَانِيَةَ } العلق 17 - 18 . ومن إطلاق المجلس على القوم الجالسين فيه قول ذي الرمة @ لهم مجلس صهب السبال أذلة سواسية أحرارها وعبيدها @@ والجملة في قوله { هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً } قال الزمخشري هي في محل نصب صفة لقوله { كم } ألا ترى أنك لو تركت لفظة { هم } لم يكن لك بد من نصب { أحسن } على الوصفية اهـ - وتابع الزمخشري أبو البقاء على ذلك . وتعقبه أبو حيان في البحر بأن بعض علماء النحو نصوا على أن " كم " سواءً كانت استفهامية أو خبرية لا توصف ولا يوصف بها . قال وعلى هذا يكون { هم أحسن } في موضع الصفة لـ { قرن } وجمع نعت القرن اعتباراً لمعنى القرن ، وهذا هو الصواب عندي لا ما ذكره الزمخشري وأبو البقاء . وصيغة التفضيل في قوله { هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً } تلزمها " من " لتجردها من الإضافة والتعريف ، إلا أنها محذوفة لدلالة المقام عليها . والتقدير هم أحسن أثاثاً ورئِياً منهم ، على حد قوله في الخلاصة @ وأفعل التفضيل صِله أبداً تقديراً أو لفظاً بِمن إن جردا @@ فإن قيل أين مرجع الضمير في هذه الآية الكريمة في قوله { وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بِيِّنَاتٍ قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } الآية ؟ فالجواب - أنه راجع إلى الكفار المذكورين في قوله { وَيَقُولُ ٱلإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ } مريم 66 الآية ، وقوله { وَّنَذَرُ ٱلظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً } مريم 72 قاله القرطبي . والله تعالى أعلم .