Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 19, Ayat: 75-75)
Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
في معنى هذه الآية الكريمة وجهان من التفسير معروفان عند العلماء ، وكلاهما يشهد له قرآن الأول - أن الله جل وعلا أمر نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة أن يقول هذه الكلمات كدعاء المباهلة بينه وبين المشركين . وإيضاح معناه قل يا نبي الله صلى الله عليه وسلم لهؤلاء المشركين الذين ادعوا أنهم خير منكم ، وأن الدليل على ذلك أنهم خير منكم مقاماً وأحسن منكم ندياً - من كان منا ومنكم في الضلالة أي كفر والضلال عن طريق الحق فليمدد له الرحمن مداً ، أي فأملها الرحمن إمهالاً فيما هو فيه حتى يستدرجه بالإمهال ويموت على ذلك ولا يرجع عنه ، بل يستمر على ذلك حتى يرى ما يوعده الله ، وهو إما عذاب في الدنيا بأيدي المسلمين ، كقوله { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ } التوبة 14 أبو بغير ذلك . وإما عذاب الآخرة إن ماتوا وهم على ذلك الكفر . وعلى ذلك التفسير فصيغة الطلب المدلول عليها باللام في قوله { فليمدد } على بابها . وعليه فهي لام الدعاء بالإمهال في الضلال على الضال من الفريقين ، حتى يرى ما يوعده من الشر وهو على أقبح حال من الكفر والضلال . واقتصر على هذا التفسير ابن كثير وابن جرير ، وهو الظاهر من صيغة الطلب في قوله { فليمدد } ونظير هذا المعنى في القرآن قوله تعالى { فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلْكَاذِبِينَ } آل عمران 61 لأنه على ذلك التفسير يكون في كلتا الآيتين دعاء بالشر على الضال من الطائفتين . وكذلك قوله تعالى في اليهود { فَتَمَنَّوُاْ ٱلْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } البقرة 94 في " البقرة والجمعة " عند من يقول إن المراد بالتمني الدعاء بالموت على الكاذبين من الطائفتين ، وهو اختيار ابن كثير . وظاهر الآية لا يساعد عليه . الوجه الثاني - أن صيغة الطلب في قوله { فليمدد } يراد بها الإخبار عن سنة الله في الضالين . وعليه فالمعنى أن الله أجرى العادة بأنه يمهل الضال ويملي له فيستدرجه بذلك حتى يرى ما يوعده ، وهو في غفلة وكفر وضلال . وتشهد لهذا الوجه آيات كثيرة ، كقوله { وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوۤاْ إِثْمَاً } آل عمران 178 الآية ، وقوله { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوۤاْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً } الأنعام 44 الآية ، كما قدمنا قريباً بعض الآيات الدالة عليه . ومما يؤيد هذا الوجه ما أخرجه ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن حبيب بن أبي ثابت قال في حرف أبي " قل من كان في الضلالة فإنه يزيده الله ضلالة " اهـ قاله صاحب الدر المنثور . ومثل هذا من جنس التفسير لا من جنس القراءة . فإن قيل على هذا الوجه . ما النكتة في إطلاق صيغة الطلب في معنى الخبر ؟ فالجواب - أن الزمخشري أجاب في كشافه عن ذلك . قال في تفسير قوله تعالى { فَلْيَمْدُدْ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ مَدّاً } أي مد له الرحمن ، يعنى أمهله وأملى له في العمر . فأخرج على لفظ الأمر إيذاناً بوجوب ذلك ، وأنه مفعول لا محالة ، كالمأمور به الممتثل لتنقطع معاذير الضال ، ويقال له يوم القيامة { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ } فاطر 37 اهـ محل الغرض منه . وأظهر الأقوال عندي في قوله { حَتَّىٰ إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ } أنه متعلق بما قبله يليه ، والمعنى فليمدد له الرحمن مداً حتى إذا رأى ما يوعد علم أن الأمر على خلاف ما كان يظن . وقال الزمخشري إن { حتى } في هذه الآية هي التي تحكي بعدها الجمل . واستدل على ذلك بمجيء الجملة الشرطية بعدها . وقوله { ما يوعدون } لفظة { ما } مفعول به لـ { رَأَوْاْ } . وقوله . { إِمَّا ٱلعَذَابَ وَإِمَّا ٱلسَّاعَةَ } بدل من المفعول به الذي هو { ما } ولفظة { من } من قوله { فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ } الآية ، قال بعض العلماء هي موصولة في محل نصب على المفعول به ليعلمون . وعليه فعلم هنا عرفانية تتعدى إلى مفعول واحد . وقال بعض أهل العلم { من } استفهامية والفعل القلبي الذي هو يعلمون معلق بالاستفهام . وهذا أظهر عندي . وقوله { شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً } في مقابلة قولهم { خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً } مريم 73 لأن مقامهم هو مكانهم ومسكنهم . والندي المجلس الجامع لوجوه قومهم وأعوانهم وأنصارهم . والجند هو الأنصار والأعوان ، فالمقابلة المذكورة ظاهرة . وقد دلت آية من كتاب الله على إطلاق { شَرٌّ مَّكَاناً } . والمراد اتصاف الشخص بالشر لا المكان . وهو قوله تعالى { قَالُوۤاْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً } يوسف 77 فتفضيل المكان في الشر ها هنا الظاهر أن المراد به تفضيله إخوته في الشر على نفسه فيما نسبوا إليه من شر السرقة لا نفس المكان . اللهم إلا أن يراد بذلك المكان المعنوي أي أنتم شر منزلة عند الله تعالى . وقوله في هذه الآيات المذكورة مقاماً ، وندِياً ، وأثاثاً ، ومكاناً وجُنداً كل واحد منها تمييز محول عن الفاعل ، كما أشار له في الخلاصة بقوله