Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 3-3)
Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } . عبر في هذه الآية الكريمة بـ " من " التبعيضية الدالة على أنه ينفق لوجه الله بعض ماله لا كله . ولم يبين هنا القدر الذي ينبغي إنفاقه ، والذي ينبغي إمساكه . ولكنه بين في مواضع أخر أن القدر الذي ينبغي إنفاقه هو الزائد على الحاجة وسد الخلة التي لا بد منها ، وذلك كقوله { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ ٱلْعَفْوَ } البقرة 219 ، والمراد بالعفو الزائد على قدر الحاجة التي لا بد منها على أصح التفسيرات ، وهو مذهب الجمهور . ومنه قوله تعالى { حَتَّىٰ عَفَوْاْ } الأعراف 95 أي كثروا وكثرت أموالهم وأولادهم . وقال بعض العلماء العفو نقيض الجهد ، وهو أن ينفق ما لا يبلغ إنفاقه منه الجهد واستفراغ الوسع . ومنه قول الشاعر @ خذي العفو مني تستديمي مودتي ولا تنطقي في سورتي حين أغضب @@ وهذا القول راجح إلى ما ذكرنا ، وبقية الأقوال ضعيفة . وقوله تعالى { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ } الإسراء 29 فنهاه عن البخل بقوله { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ } الإسراء 29 . ونهاه عن الإسراف بقوله { وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ } الإسراء 29 فيتعين الوسط بين الأمرين كما بينه بقوله { وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } الفرقان 67 فيجب على المنفق أن يفرق بين الجود والتبذير ، وبين البخل والاقتصاد . فالجود غير التبذير ، والاقتصاد غير البخل . فالمنع في محل الإعطاء مذموم ، وقد نهى الله عنه نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ } ، والإعطاء في محل المنع مذموم أيضاً وقد نهى الله عنه نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله { وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ } وقد قال الشاعر @ لا تمدحن ابن عباد وإن هطلت يداه كالمزن حتى تخجل الديما فإنها فلتات من وساوسه يعطي ويمنع لا بخلاً ولا كرما @@ وقد بين تعالى في مواضع أخر أن الإنفاق المحمود لا يكون كذلك ، إلا إذا كان مصرفه الذي صرف فيه مما يرضي الله ، كقوله تعالى { قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ } البقرة 215 الآية - وصرح بأن الإنفاق فيما لا يرضي الله حسرة على صاحبه في قوله { فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً } الأنفال 36 الآية - وقد قال الشاعر @ إن الصنيعة لا تعد صنيعةً حتى يصاب بها طريق المصنع @@ فإن قيل هذا الذي قررتم يقتضي أن الإنفاق المحمود هو إنفاق ما زاد على الحاجة الضرورية ، مع أن الله تعالى أثنى على قوم بالإنفاق وهم في حاجة إلى ما أنفقوا ، وذلك في قوله { وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } الحشر 9 . فالظاهر في الجواب - والله تعالى أعلم - هو ما ذكره بعض العلماء من أن لكل مقام مقالاً ، ففي بعض الأحوال يكون الإيثار ممنوعاً . وذلك كما إذا كانت على المنفق نفقات واجبة ، كنفقة الزوجات ونحوها ، فتبرع بالإنفاق في غير واجب وترك الفرض لقوله صلى الله عليه وسلم " وابدأ بمن تعول " ، وكأن يكون لا صبر عنده عن سؤال الناس فينفق ماله ويرجع إلى الناس يسألهم ما لهم ، فلا يجوز له ذلك ، والإيثار فيما إذا كان لم يضيع نفقة واجبة وكان واثقاً من نفسه بالصبر والتعفف وعدم السؤال . وأما على القول بأن قوله تعالى { ومما رزقناهم يُنْفِقون } يعني به الزكاة . فالأمر واضح ، والعلم عند الله تعالى .