Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 20, Ayat: 117-119)
Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى في هذه الآية الكريمة { إِنَّ هَـٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ } قد قدمنا الآيات الموضحة له في " الكهف " فأغنى ذلك عن إعادته هنا . وقوله في هذه الآية الكريمة { فَتَشْقَىٰ } أي فتتعب في طلب المعيشة بالكد والاكتساب . لأنه لا يحصل لقمة العيش في الدنيا بعد الخروج من الجنة حتى يحرث الأرض ، ثم يزرعها ، ثم يقوم على الزرع حتى يدرك ، ثم يدسه ، ثم ينقيه ، ثم يطحنه ، ثم يعجنه ، ثم يخبره . فهذا شقاؤه المذكور . والدليل على أن المراد بالشقاء في هذه الآية التعب في اكتساب المعيشة قوله تعالى بعده { إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَىٰ وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَىٰ } يعني احذر من عدوك أن يخرجك من دار الراحة التي يضمن لك فيها الشبع والري ، والكسوة والسكن . قال الزمخشري وهذه الأربعة هي الأقطاب التي يدور عليها كفاف الإنسان ، فذكره استجماعها له في الجنة ، وأنه مكفي لا يحتاج إلى كفاية كاف ، ولا إلى كسب كاسب كما يحتاج إلى ذلك أهل الدنيا . وذكرها بلفظ النفي لنقائضها التي هي الجوع والعري والظمأ والضحو ليطرق سمعه بأسامي أصناف الشقوة التي حذره منها ، حتى يتحامى السبب الموقع فيها كراهة لها ا هـ . فقوله في هذه الآية الكريمة { إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَىٰ } قرينة واضحة على أن الشقاء المحذر منه تعب الدنيا في كد المعيشة ليدفع به الجوع والظمأ والعري والضحاء . والجوع معروف ، والظمأ العطش . والعري بالضم خلاف اللبس . وقوله { وَلاَ تَضْحَىٰ } أي لا تصير بارزاً للشمس ، ليس لك ما تستكن فيه من حرها . تقول العرب ضحى يضحى ، كرضي يرضى . وضحى يضحى كسعى يسعى إذا كان بارزاً لحر الشمس ليس له ما يكنه منه . ومن هذا المعنى قول عمر بن أبي ربيعة @ رأت رجلاً أيما إذا الشمس عارضت فيضحي وأما بالعشي فينحصر @@ وقول الآخر @ ضحيت له كي أستظل بظله إذا الظل أضحى في القيامة قالصا @@ وقرأ هذا الحرف عامة السبعة ما عدا نافعاً وشعبة عن عاصم { وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ } بفتح همزة " أن " ، والمصدر المنسبك من " أن " وصلتها معطوف على المصدر المنسبك من " أن " وصلتها في قوله { إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ } أي وإن لك أنك لا تظمأ فيها ولا تضحى . ويجوز في المصدر المعطوف المذكور النصب والرفع ، كما أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله @ وجائز رفعك معطوفاً على منصوب إن بعد أن تستكملا @@ وإيضاح تقدير المصدرين المذكورين إن لك عدم الجوع فيها ، وعدم الظمأ . تنبيه أخذ بعض العلماء من هذه الآية الكريمة وجوب نفقة الزوجة على زوجها لأن الله لما قال { إِنَّ هَـٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ ٱلْجَنَّةِ } بخطاب شامل لآدم وحواء ، ثم خص آدم بالشقاء دونها في قوله { فَتَشْقَىٰ } دل ذلك على أنه هو المكلف بالكد عليها وتحصيل لوازم الحياة الضرورية لها من مطعم ، ومشرب ، وملبس ، ومسكن . قال أبو عبدالله القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة ما نصه وإنما خصه بذكر الشقاء ولم يقل فتشقيا - يعلمنا أن نفقة الزوجة على الزوج ، فمن يومئذ جرت نفقة النساء على الأزواج . فلما كانت نفقة حواء على آدم كذلك نفقات بناتها على بني آدم بحق الزوجية . وأعلمنا في هذه الآية أن النفقة التي تجب للمرأة على زوجها هذه الأربعة الطعام ، والشراب ، والكسوة ، والمسكن . فإذا أعطاها هذه الأربعة فقد خرج إليها من نفقتها ، فإن تفضل بعد ذلك فهو مأجور . فأما هذه الأربعة فلا بد منها . لأن بها إقامة المهجة ا هـ منه . وذكر في قصة آدم أنه لما أهبط إلى الأرض أهبط إليه ثور أحمر وحبات من الجنة ، فكان يحرث على ذلك الثور ويمسح للعرق عن جبينه وذلك من الشقاء المذكور في الآية . والظاهر أن الذي في هذه الآية الكريمة من البديع المعنوي في اصطلاح البلاغيين ، هو ما يسمى " مراعاة النظير " ، ويسمى " التناسب والائتلاف . والتوفيق والتلفيق " . فهذه كلها أسماء لهذا النوع من البديع المعنوي . وضابطه أنه جمع أمر وما يناسبه لا بالتضاد . كقوله تعالى { ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ } الرحمن 5 فإن الشمس والقمر متناسبان لا بالتضاد . وكقول البحتري يصف الإبل الأنضاء المهازيل ، أي الرماح @ كالقسي المعطفات بل الأسهم مبرية بل الأوتار @@ وبين الأسهم والقسي المعطفات والأوتار مناسبة في الرقة وإن كان بعضها أرق من بعض ، وهي مناسبة لا بالتضاد . وكقول ابن رشيق @ أصح وأقوى ما سمعناه في الندى من الخير المأثور منذ قديم أحاديث ترويها السيول عن الحيا عن البحر عن كف الأمير تميم @@ فقد ناسب بين الصحة والقوة ، والسماع والخبر المأثور ، والأحاديث والرواية ، وكذا ناسب بين السيل والحيا وهو المطر ، والبحر وكف الأمير تميم ، وكقول أسيد بن عنقاء الفزاري @ كأن للثريا علقت في جبينه وفي خده الشعري وفي جهة البدر @@ فقد ناسب بين الثريا والشعري والبدر ، كما ناسب بين الجبين والوجنة والوجه . وأمثلة هذا النوع كثيرة معروفة في فن البلاغة . وإذا علمت هذا فاعلم أنه جل وعلا ناسب في هذه الآية الكريمة في قوله { إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَىٰ } بين نفي الجوع المتضمن لنفي الحرارة الباطنية والألم الباطني الوجداني ، وبين نفي العري المتضمن لنفي الألم الظاهري من أذى الحر والبرد ، وهي مناسبة لا بالتضاد . كما أنه تعالى ناسب في قوله { وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَىٰ } بين نفي الظمأ المتضمن لنفي الألم الباطني الوجداني الذي يسببه الظمأ . وبين نفي الضحى المتضمن لنفي الألم الظاهري الذي يسببه حر الشمس ونحوه كما هو واضح . بما ذكرنا تعلم أن قول من قال إن في الآية المذكورة ما يسمع قطع النظير عن النظير ، وأن الغرض من قطع النظير عن النظير المزعوم تحقيق تعداد هذه النعم وتكثيرها . لأنه لو قرن النظير بنظيره لأوهم أن المعدودات نعمة واحدة ، ولهذا قطع الظمأ عن الجوع ، والضحو عن الكسوة ، مع ما بين ذلك من التناسب . وقالوا ومن قطع النظير عن النظير المذكور قول امرئ القيس @ كأني لم أركب جواداً للذة ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال ولم أسبا الزق الروي ولم أقل لخيل كرى كرة بعد إجفال @@ فقطع ركوب الجواد من قوله " لخيل كرى كرة " وقطع " تبطن الكاعب " عن شرب " الزق الروي " مع التناسب في ذلك . وغرضه أن يعدد ملاذه ومفاخره ويكثرها . كله كلام لا حاجة له لظهور المناسبة بين المذكورات في الآية كما أوضحنا ، والعلم عند الله تعالى .