Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 20, Ayat: 124-124)

Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً } . قد قدمنا في سورة " الكهف " في الكلام على قوله { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيِاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا } الكهف 57 الآية الآيات الموضحة نتائج الإعراض عن ذكر الله تعالى الوخيمة . فأغنى ذلك عن إعادته هنا . وقد قدمنا هناك أن منها المعيشة الضنك . واعلم أن الضنك في اللغة الضيق . ومنه قول عنترة @ إنْ يُلْحقوا أَكْررْ وإنْ يُستلحَمُوا أَشْدُد وإن يُلْفَوْا بضَنْكٍ أنزل @@ وقوله أيضاً @ إن المنيةَ لو تُمثَّل مُثِّلَتْ مثلى إذا نَزلُوا بضَنْك المنزلِ @@ وأصل الضنك مصدر وصف به ، فيستوي فيه المذكر والمؤنث والمفرد والجمع . وبه تعلم أن معنى قوله { مَعِيشَةً ضَنكاً } أي عيشاً ضيقاً والعياذ بالله تعالى . واختلف العلماء في المراد بهذا العيش الضيق على أقوال متقاربة ، لا يكذب بعضها بعضاً . وقد قدمنا مراراً أن الأولى في مثل ذلك شمول الآية لجميع الأقوال المذكورة . ومن الأقوال في ذلك أن معنى ذلك أن الله عزّ وجل جعل مع الدين التسليم والقناعة ، والتوكل على الله ، والرضا بقسمته فصاحبه ينفق مما رزقه الله بسماح وسهولة ، فيعيش عيشاً هنيئاً . ومما يدل على هذا المعنى من القرآن قوله تعالى { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } النحل 97 الآية ، وقوله تعالى { وَأَنِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعاً حَسَناً إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى } هود 3 الآية ، كما تقدم إيضاح ذلك كله . وأما المعرض عن الدين فإنه يستولي عليه الحرص الذي لا يزال يطمح به إلى الازدياد من الدنيا مسلط عليه الشح الذي يقبض يده عن الإنفاق ، فعيشه ضنك ، وحاله مظلمة . ومن الكفرة من ضرب الله عليه الذلة والمسكنة بسبب كفره ، كما قال تعالى { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ وَٱلْمَسْكَنَةُ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ } البقرة 61 الآيات . وذلك من العيش الضنك بسبب الإعراض عن ذكر الله . وبين في مواضع أخر أنهم لو تركوا الإعراض عن ذكر الله فأطاعوه تعالى أن عيشهم يصير واسعاً رغداً لا ضنكاً ، كقوله تعالى { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } المائدة 66 الآية ، وقوله تعالى { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ آمَنُواْ وَٱتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ } الأعراف 96 الآية ، وكقوله تعالى عن نوح { فَقُلْتُ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً } نوح 10 - 12 ، وقوله تعالى عن هود { وَيٰقَوْمِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ } هود 52 الآية ، وقوله تعالى { وَأَلَّوِ ٱسْتَقَامُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } الجن 16 - 17 الآية ، إلى غير ذلك من الآيات . وعن الحسن أن المعيشة الضنك هي طعام الضريع والزَّقُّوم يوم القيامة وذلك مذكور في آيات من كتاب الله تعالى ، كقوله { لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ } الغاشية 6 الآية ، وقوله { إِنَّ شَجَرَةَ ٱلزَّقُّومِ طَعَامُ ٱلأَثِيمِ } الدخان 43 - 44 الآية ونحو ذلك من الآيات . وعن عكرمة والضحاك ومالك بن دينار المعيشة الضنك الكسب الحرام ، والعمل السيِّئ . وعن أبي سعيد الخدري وعبد الله بن مسعود وأبي هريرة المعيشة الضنك عذاب القبر وضغطته . وقد أشار تعالى إلى فتنة القبر وعذابه في قوله { يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱلْقَوْلِ ٱلثَّابِتِ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلآخِرَةِ وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ } إبراهيم 27 . قال مقيده عفا الله عنه وغفر له قد جاء عن النَّبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة أن المعيشة الضنك في الآية عذاب القبر . وبعض طرقه بإسناد جيد كما قاله ابن كثير في تفسير هذه الآية . ولا ينافي ذلك شمول المعيشة الضنك لمعيشته في الدنيا . وطعام الضريع والزَّقُّوم . فتكون معيشته ضنكاً في الدنيا والبرزخ والآخرة ، والعياذ بالله تعالى . قوله تعالى { وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ أَعْمَىٰ } . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن من أعرض عن ذكره يحشره يوم القيامة في حال كونه أعمى . قال مجاهد وأبو صالح والسدي أعمى أي لا حجَّة له . وقال عكرمة عمى عليه كل شيء إلا جهنم . وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولاً ، ويكون في نفس الآية قرينة تدل على خلاف ذلك القول . وقد ذكرنا أمثلة متعددة لذلك . فإذا علمت ذلك فاعلم أن في هذه الآية الكريمة قرينة دالة على خلاف قول مجاهد وأبي صالح والسدي وعكرمة . وأن المراد بقوله { أَعْمَىٰ } أي أعمى البصر لا يرى شيئاً . والقرينة المذكورة هي قوله تعالى { قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِيۤ أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً } طه 125 فصرح بأن عماه هو العمى المقابل للبصر وهو بصر العين ، لأن الكافر كان في الدنيا أعمى القلب كما دلت على ذلك آيات كثيرة من كتاب الله ، وقد زاد جل وعلا في سورة " بني إسرائيل " أنه مع ذلك العمى يحشر أصم أبكم أيضاً ، وذلك في قوله تعالى { وَمَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً } الإسراء 97 . تنبيه في آية " طه " هذه وآية " الإسراء " المذكورتين إشكال معروف . وهو أن يُقال إنهما قد دَلتا على أن الكافر يُحشَر يوم القيامة أعمى ، وزادت آية " الإسراء " أنه يحشر أبكم أصم أيضاً ، مع أنه دلت آيات من كتاب الله على أن الكفار يوم القيامة يبصرون ويسمعون ويتكلمون . كقوله تعالى { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا } مريم 38 الآية ، وقوله تعالى { وَرَأَى ٱلْمُجْرِمُونَ ٱلنَّارَ فَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا } الكهف 53 الآية ، وقوله تعالى { رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَٱرْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً } السجدة 12 الآية ، إلى غير ذلك من الآيات . وقد ذكرنا في كتابنا دفع إيهام الاضطراب . عن آيات الكتاب الجواب عن هذا الإشكال من ثلاثة أوجه الوجه الأول واستظهره أبو حيان أن المراد بما ذكر من العمى والصمم والبكم حقيقته . ويكون ذلك في مبدأ الأمر ثم يرد الله تعالى إليهم أبصارهم ونطقهم وسمعهم فيرون النار ويسمعون زفيرها ، وينطقون بما حكى الله تعالى عنهم في غير موضع . الوجه الثاني أنهم لا يرون شيئاً يسرهم ، ولا يسمعون كذلك ، ولا ينطقون بحجة ، كما أنهم كانوا في الدنيا لا يستبصرون ولا ينطقون بالحق ولا يسمعونه . وأخرج ذلك ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس وروي أيضاً عن الحسن كما ذكره الألوسي وغيره . وعلى هذا القول فقد نزل ما يقولونه ويسمعونه ويبصرونه منزلة العدم لعدم الانتفاع به . كما أوضحناه في غير هذا الموضع . ومن المعلوم أن العرب تطلق لا شيء على ما لا نفع فيه . ألا ترى أن الله يقول في المنافقين { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } البقرة 18 الآية ، مع أنه يقول فيهم { فَإِذَا ذَهَبَ ٱلْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ } الأحزاب 19 ، ويقول فيهم { وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ } المنافقون 4 أي لفصاحتهم وحلاوة ألسنتهم . ويقول فيهم { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ } البقرة 20 وما ذلك إلا لأن الكلام ونحوه الذي لا فائدة فيه كلا شيء فيصدق على صاحبه أنه أعمى وأصم وأبكم ، ومن ذلك قول قعنب ابن أم صاحب @ صُمٌّ إذا سمعوا خيراً ذُكِرت به وإن ذكرت بسوء عندهم أَذنوا @@ وقول الآخر @ أصمٌّ عن الأمر الذي لا أريده وأسمع خلق الله حين أريد @@ وقول الآخر @ قل ما بدا لك من زور ومن كذب حلمي أصم وأذني غير صماء @@ ونظائر هذا كثيرة في كلام العرب من إطلاق الصمم على السماع الذي لا فائدة فيه . وكذلك الكلام الذي لا فائدة فيه ، والرؤية التي لا فائدة فيها . الوجه الثالث أن الله إذا قال لهم { ٱخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ } المؤمنون 108 وقع بهم ذلك العمى والصمم والبكم من شدة الكرب واليأس من الفرج قال تعالى { وَوَقَعَ ٱلْقَوْلُ بِمَا ظَلَمُواْ فَهُمْ لاَ يَنطِقُونَ } النمل 85 وعلى هذا القول تكون الأحوال الخمسة مقدرة أعني قوله في " طه " { وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ أَعْمَىٰ } طه 124 ، وقوله فيها { لِمَ حَشَرْتَنِيۤ أَعْمَىٰ } طه 125 ، وقوله في " الإسراء " { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً } الإسراء 97 ، وأظهرها عندي الأول والله تعالى أعلم . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة { فَنَسِيتَهَا وَكَذٰلِكَ ٱلْيَوْمَ تُنْسَىٰ } طه 126 من النسيان بمعنى الترك عمداً كما قدمنا الآيات الموضحة له في هذه السورة الكريمة في الكلام على قوله { فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } طه 115 .