Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 20, Ayat: 58-59)

Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى { فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ } . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن فرعون لعنه الله ، لما رأى آيات الله ومعجزاته الباهرة ، وادعى أنها سحر أقسم ليأتين موسى بسحر مثل آيات الله التي يزعم هو أنها سحر . وقد بين في غير هذا الموضع أن إتيانهم بالسحر وجمعهم السحرة كان عن اتفاق ملئهم على ذلك . كقوله في " الأعراف " { قَالَ ٱلْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَـٰذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ قَالُوۤاْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي ٱلْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ } الأعراف 109 - 112 . وقوله في " الشعراء " { قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَـٰذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ قَالُوۤاْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَٱبْعَثْ فِي ٱلْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ } الشعراء 34 - 37 ، لأن قوله { فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } في الموضعين يدل على أن قول فرعون { فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ } وقع بعد مشاورة واتفاق الملأ منهم على ذلك . قوله تعالى { فَٱجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ مَكَاناً سُوًى قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ ٱلزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ ٱلنَّاسُ ضُحًى } . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن فرعون لما وعد موسى بأنه يأتي بسحر مثل ما جاء به موسى في زعمه قال لموسى { فَٱجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ } والإخلاف عدم إنجاز الوعد . وقرر أن يكون مكان الاجتماع للمناظرة وللمغالبة في السحر في زعمه مكاناً سُوىً . وأصح الأقوال في قوله { سُوًى } أصله من الاستواء . لأن المسافة من الوسط إلى الطرفين لا تفاوت فيها بل هي مستوية . وقوله { سُوًى } فيه ثلاث لغات الضم ، والكسر مع القصر ، وفتح السين مع المد . والقراءة بالأُولَيين دون الثالثة هنا ومن القراءة بالثالثة { تَعَالَوْاْ إِلَىٰ كَلَمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } آل عمران 64 ومن إطلاق العرب { مَكَاناً سُوًى } على المكان المتوسط بين الفريقين قول موسى بن جابر الحنفي ، وقد أنشده أبو عبيدة شاهداً لذلك @ وإن أبانا كان حل ببلدة سوى بين قيس قيس عيلان والفزر @@ والفزر سعد بن زيد مناة بن تميم . يعني حل ببلدة مستوية مسافتها بين قيس عيلان والفزر . وأن موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أجاب فرعون إلى ما طلب منه من الموعد ، وقرر أن يكون وقت ذلك يوم الزينة . وأقوال أهل العلم في يوم الزينة راجعة إلى أنه يوم معروف لهم ، يجتمعون فيه ويتزينون . سواء قلنا إنه يوم عيد لهم ، أو يوم عاشوراء ، أو يوم النيروز ، أو يوم كانوا يتخذون فيه سوقاً ويتزينون فيه بأنواع الزينة . قال الزمخشري وإنما واعدهم موسى ذلك اليوم ليكون علو كلمة الله وظهر دينه ، وكبت الكافر وزهوق الباطل على رؤوس الأشهاد في المجمع الغاص لتقوي رغبة من رغب في اتباع الحق ، ويَكل حد المبطلين وأشياعهم ، ويكثر المحدث بذلك الأمر . ليُعلم في كل بَدْو وحَضَر ، ويشيع في جميع أهل الوبر والحضر ا هـ منه . والمصدر المنسبك من " أَنْ " وصلتها في قوله { وَأَن يُحْشَرَ ٱلنَّاسُ ضُحًى } في محل جر عطفاً على { ٱلزِّينَةِ } أي موعدكم يوم الزينة وحشر الناس ، أو في محل رفع عطفاً على قوله { يَوْمُ ٱلزِّينَةِ } على قراءة الجمهور بالرفع . والحشر الجمع والضحى من أول النهار حين تشرق الشمس . والضحى يذكّر ويؤنث . فمن أنثه ذهب إلى أنه جمع ضحوة . ومن ذكّره ذهب إلى أنه اسم مفرد جاء على فعل بضم ففتح كصرد وزفر . وهو منصرف إذا لم ترد ضحى يوم معين بلا خلاف . وإن أردت ضحى يومك المعين فقيل يمنع من الصرف كسحر . وقيل لا . وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من كون المناظرة بين موسى والسحرة عين لوقتها يوم معلوم يجتمع الناس فيه . ليعرفوا الغالب من المغلوب أشير له في غير هذا الموضع . كقوله تعالى في " الشعراء " { فَجُمِعَ ٱلسَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُمْ مُّجْتَمِعُونَ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ ٱلسَّحَرَةَ إِن كَانُواْ هُمُ ٱلْغَالِبِينَ } الشعراء 38 - 40 . فقوله تعالى { لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } . اليوم المعلوم هو يوم الزينة المذكور هنا . وميقاته وقت الضحى منه المذكور في قوله { وَأَن يُحْشَرَ ٱلنَّاسُ ضُحًى } . تنبيه اعلم أن في تفسير هذه الآية الكريمة أنواعاً من الإشكال معروفة عند العلماء ، وسنذكر إن شاء الله تعالى أوجه الإشكال فيها ، ونبين إزالة الإشكال عنها . اعلم أولاً أن الفعل الثلاثي إن كان مثالاً أعني واوي الفاء كوعد ووصل ، فالقياس في مصدره الميمي واسم مكانه وزمانه كلها المفعل بفتح الميم وكسر العين ما لم يكن معتل اللام . فإن كان معتلها فالقياس فيه المفعل بفتح الميم والعين كما هو معروف في فن الصرف . فإذا علمت ذلك ، فاعلم أن قوله تعالى في هذه الآية الكريمة { فَٱجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً } صالح بمقتضى القياس الصرفي لأن يكون مصدراً ميمياً بمعنى الوعد ، وأن يكون اسم زمان يُراد به وقت الوعد ، وأن يكون اسم مكان يراد به مكان الوعد . ومن إطلاق الموعد في القرآن اسم زمان قوله تعالى { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ } الحجر 43 أي مكان وعدهم بالعذاب . وأوجه الإشكال في هذا أن قوله { لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ } يدل على أن الموعد مصدر . لأن الذي يقع عليه الإخلاف هو الوعد لا زمانه ولا مكانه . وقوله تعالى { مَكَاناً سُوًى } . يدل على أن الموعد في الآية اسم مكان . وقوله { قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ ٱلزِّينَةِ } يدل على أن الموعد في الآية اسم زمان . فإن قلنا إن الموعد في الآية مصدر أشكل على ذلك ذكر المكان في قوله { لاَّ نُخْلِفُهُ } لأن نفس المكان لا يخلف وإنما يخلف الوعد ، وأشكل عليه أيضاً قوله { قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ ٱلزِّينَةِ } . وإن قلنا إن الموعد اسم زمان أشكل عليه أيضاً قوله { لاَّ نُخْلِفُهُ } ، وقوله { مَكَاناً سُوًى } هذه هي أوجه الإشكال في هذه الآية الكريمة . وللعلماء عن هذا أجوبة منها ما ذكره الزمخشري في الكشاف قال لا يخلو الموعد في قوله { فَٱجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً } من أن يجعل زماناً أو مكاناً أو مصدراً . فإن جعلته زماناً نظراً في أن قوله { مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ ٱلزِّينَةِ } إلى أن قال فبقي أن يُجعل مصدراً بمعنى الوعد ويُقدر مضاف محذوف ، أي مكان الوعد ، ويجعل الضمير في { نُخْلِفُهُ } للموعد و { مَكَاناً } بدل من المكان المحذوف . فإن قلت كيف طابقه قوله { مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ ٱلزِّينَةِ } ولا بد من أن تجعله زماناً والسؤال واقع عن المكان لا عن الزمان ؟ قلت هو مطابق معنى وإن لم يطابق لفظاً . لأنهم لا بد لهم من أن يجتمعوا يوم الزينة في مكان بعينه مشتهر باجتماعهم فيه في ذلك اليوم . فبذكر الزمان عُلم المكان . انتهى محل الغرض منه . ولا يخفى ما في جوابه هذا من التعسف والحذف والإبدال من المحذوف . قال مقيده عفا الله عنه وغفر له أظهر ما أُجيب به عما ذكرنا من الإشكال عندي في هذه الآية الكريمة أن فرعون طلب من موسى تعيين مكان الموعد ، وأنه يكون مكاناً سُوًى . أي وسطاً بين أطراف البلد كما بينا . وأن موسى وافق على ذلك وعين زمان الوعد وأنه يوم الزنية ضُحى . لأن الوعد لا بد له من مكان وزمان . فإذا علمت ذلك فاعلم أن الذي يترجح عندي المصير إليه هو قول من قال في قوله { فَٱجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً } إنه اسم مكان أي مكان الوعد ، وقوله { مَكَاناً } بدل من قوله موعداً . لأن الموعد إذا كان اسم مكان صار هو نفس المكان فاتضح كون { مَكَاناً } بدلاً . ولا إشكال في ضمير { نُخْلِفُهُ } على هذا . ووجه إزالة الإشكال عنه أن المعروف في فن الصرف أن اسم المكان مشتق من المصدر كاشتقاق الفعل منه ، فاسم المكان ينحل عن مصدر ومكان . فالمنزل مثلاً مكان النزول ، والمجلس مكان الجلوس ، والموعد مكان الوعد . فإذا اتضح لك أن المصدر كامن في مفهوم اسم المكان فالضمير في قوله { لاَّ نُخْلِفُهُ } راجع للمصدر ، و { مَكَاناً } منصوب بفعل دل عليه الموعد . أي عدنا مكاناً سوى . ونصب المكان بأنه مفعول المصدر الذي هو { مَوْعِداً } أو أحد مفعولي { فَٱجْعَلْ } غير صواب فيما يظهر لي والله تعالى أعلم . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة { مَكَاناً سُوًى } قرأه ابن عامر وعاصم وحمزة " سوى " بضم السين والباقون بكسرها . ومعنى القراءتين واحد كما تقدم .