Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 20, Ayat: 86-88)

Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى { فَرَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً } . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن موسى رجع إلى قومه بعد مجيئه للميقات في حال كونه في ذلك الرجوع غضبان أسفاً على قومه من أجل عبادتهم العجل . وقوله { أَسِفاً } أي شديد الغضب . فالأسف هنا شدة الغضب . وعلى هذا فقوله { غَضْبَانَ أَسِفاً } أي غضبان شديد الغضب . ومن إطلاق الأسف على الغضب في القرآن قوله تعالى في " الزخرف " { فَلَمَّآ آسَفُونَا ٱنتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ } الزخرف 55 أي فلما أغضبونا بتماديهم في الكفر مع توالي الآيات عليهم انتقمنا منهم . وقال بعض العلماء الأسف هنا الحزن والجزع . أي رجع موسى في حال كونه غضبان حزيناً جزعاً لكفر قومه بعبادتهم للعجل . وقيل أسفاً أي مغتاظاً . وقائل هذا يقول الفرق بين الغضب والغيظ أن الله وصف نفسه بالغضب ، ولم يجز وصفه بالغيظ . حكاه الفخر الرازي . ولا يخفى عدم اتجاهه في تفسير هذه الآية ، لأنه راجع إلى القول الأول ، ولا حاجة في ذلك إلى التفصيل المذكور . وقوله { غَضْبَانَ أَسِفاً } حالان . وقد قدمنا فيما مضى أن التحقيق جواز تعدد الحال من صاحب واحد مع كون العامل واحداً . كما أشار له في الخلاصة بقوله @ والحال قد يجيء ذا تعدد لمفرد فاعلم وغير مفرد @@ وما ذكره جل وعلا في آية " طه " هذه من كون موسى رجع إلى قومه { غَضْبَانَ أَسِفاً } ذكره في غير هذا الموضع ، وذكر أشياء من آثار غضبه المذكور ، كقوله في " الأعراف " { وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيۤ } الأعراف 150 الآية . وقد بين تعالى أن من آثار غضب موسى إلقاءه الألواح التي فيها التوراة ، وأخذه برأس أخيه يجره إليه ، كما قال في " الأعراف " { وَأَلْقَى ٱلأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ } الأعراف 150 ، وقال في " طه " مشيراً لأخذه برأس أخيه { قَالَ يٰٱبْنَأُمِّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي } طه 94 . وهذه الآيات فيها الدلالة على أن الخبر ليس كالعيان ، لأن الله لما أخبر موسى بكفر قومه بعبادتهم العجل كما بينه في قوله { قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ ٱلسَّامِرِيُّ } طه 85 وهذا خبر من الله يقين لا شك فيه لم يلق الألواح ، ولكنه لما عاين قومه حول العجل يعبدونه أثرت فيه معاينة ذلك أثراً لم يؤثره فيه الخبر اليقين بذلك ، فألقى الألواح حتى تكسرت ، وأخذ برأس أخيه يجره إليه لما أصابه من شدة الغضب من انتهاك حرمات الله تعالى . وقال ابن كثير في تفسيره في سورة " الأعراف " وقال ابن أبي حاتم حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا عفان ، حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يرحم الله موسى ليس المعاين كالمخبر ، أخبره ربه عز وجل أن قومه فتنوا بعده فلم يلق الألواح ، فلما رآهم وعاينهم ألقى الألواح " . قوله تعالى { قَالَ يٰقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ ٱلْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَّوْعِدِي قَالُواْ مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا } . ذكر جل في هذه الآية الكريمة أن موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لما رجع إلى قومه ، ووجدهم قد عبدوا العجل من بعده قال لهم { يٰقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً } . وأظهر الأقوال عندي في المراد بهذا الوعد الحسن أنه وعدهم أن ينزل على نبيهم كتاباً فيه كل ما يحتاجون إليه من خير الدنيا والآخرة . وهذا الوعد الحسن المذكور هنا هو المذكور في قوله تعالى { وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ ٱلطُّورِ ٱلأَيْمَنَ } طه 80 الآية ، وفيه أقوال غير ذلك . وقوله { أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ ٱلْعَهْدُ } الاستفهام فيه للإنكار ، يعني لم يطل العهد . كما يقال في المثل وما بالعهد من قدم . لأن طول العهد مظنة النسيان ، والعهد قريب لم يطل فكيف نسيتم ؟ وقوله { أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ } قال بعض العلماء " أم " هنا هي المنقطعة ، والمعنى بل أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم ، ومعنى إرادتهم حلول الغضب أنهم فعلوا ما يستوجب غضب ربهم بإرادتهم . فكأنهم أرادوا الغضب لما أرادوا سببه ، وهو الكفر بعبادة العجل . وقوله { فَأَخْلَفْتُمْ مَّوْعِدِي } كانوا وعدوه أن يتبعوه لما تقدمهم إلى الميقات ، وأن يثبتوا على طاعة الله تعالى . فعبدوا العجل وعكفوا عليه ولم يتبعوا موسى . فأخلفوا موعده بالكفر وعدم الذهاب في أثره ، { قَالُواْ مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا } قرأه نافع وعاصم " بِملْكِنا " بفتح الميم . وقرأه حمزة والكسائي " بِملْكنَا " بضم الميم ، وقرأه ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو " بملكنا " بكسر الميم . والمعنى على جميع القراءات ما أخلفنا موعدك بأن ملكنا أمرنا ، فلو ملكنا أمرنا ما أخلفنا موعدك . وهو اعتذار منهم بأنهم ما أخلفوا الموعد باختيارهم ، ولكنهم مغلوبون على أمرهم من جهة السامري وكيده . وهو اعتذار بارد ساقط كما ترى ! ! ولقد صدق من قال @ إذا كان وجه العذر ليس ببين فإن اطراح العذر خير من العذر @@ وأما على قول من قال إن الذين قالوا لموسى { مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا } هم الذين لم يعبدوا العجل . لأنهم وعدوه أن يتبعوه ، ولما وقع ما وقع من عبادة أكثرهم للعجل تأخروا عن اتباع موسى بسبب ذلك ، ولم يتجرؤوا على مفارقتهم خوفاً من الفرقة فالعذر له وجه في الجملة ، كما يشير إليه قوله تعالى في القصة في هذه السورة الكريمة { قَالَ يٰهَرُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوۤاْ أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي قَالَ يٰٱبْنَأُمِّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي } طه 92 - 94 . والمصدر في قوله { بِمِلْكِنا } مضاف إلى فاعله ومفعوله محذوف ، أي بملكنا أمرنا . وقال القرطبي كأنه قال بمكلنا الصواب بل أخطأنا . فهو اعتراف منهم بالخطأ . وقال الزمخشري { أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ ٱلْعَهْدُ } الزمان ، يريد مدة مفارقته لهم . تنبيه كل فعل مضارع في القرآن مجزوم بـ " لم " إذا تقدمتها همزة استفهام . كقوله هنا { أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً } فيه وجهان معروفان عند العلماء الأول أن مضارعته تنقلب ماضوية ، ونفيه ينقلب إثباتاً . فيصير قوله { أَلَمْ يَعِدْكُم } بمعنى وعدكم ، وقوله { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } الشرح 1 بمعنى شرحنا ، وقوله { أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ } البلد 6 جعلنا له عينين . وهكذا . ووجه انقلاب المضارعة ماضوية ظاهر ، لأن " لم " حرف قلب تقلب المضارع من معنى الاستقبال إلى معنى المضي كما هو معروف . ووجه انقلاب النفي إثباتاً أن الهمزة إنكارية ، فهي مضمنة معنى النفي ، فيتسلط النفي الكامن فيها على النفي الصريح في " لم " فينفيه ، ونفي النفي إثبات فيؤول إلى معنى الإثبات . الوجه الثاني أن الاستفهام في ذلك التقرير ، وهو حمل المخاطب على أن يقر فيقول " بلى " وعليه فالمراد من قوله { أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً } حملهم على أن يقروا بذلك فيقولوا بلى هكذا . ونظير هذا من كلام العرب قول جرير @ ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح @@ فإذا عرفت أن قوله هنا { فَرَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً } إلى قوله { بِمَلْكِنَا } قد بين الله فيه أن موسى لما رجع إليهم في شدة غضب مما فعلوا وعاتبهم قال لهم في ذلك العتاب { أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ ٱلْعَهْدُ } الآية فاعلم أن بعض عتابه لهم لم يبينه هنا ، وكذلك بعض فعله ، ولكنه بينه في غير هذا الموضع . كقوله في " الأعراف " في القصة بعينها { وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيۤ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ } الأعراف 150 ، وبين بعض ما فعل بقوله في " الأعراف " { وَأَلْقَى ٱلأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ } الأعراف 150 ، وقد أشار إلى هنا في " طه " في قوله { قَالَ يَبْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي } طه 94 . قوله تعالى { وَلَـٰكِنَّا حُمِّلْنَآ أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ ٱلْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى ٱلسَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ فَقَالُواْ هَـٰذَآ إِلَـٰهُكُمْ وَإِلَـٰهُ مُوسَىٰ فَنَسِيَ } . قرأ هذا الحرف أبو عمرو وشعبة عن عاصم ، وحمزة والكسائي { حَمَلْنَا } بفتح الحاء والميم المخففة مبيناً للفاعل مجرداً . وقرأه نافع وابن كثير وابن عامر وحفص عن عصام " حملنا " بضم الحاء وكسر الميم المشددة مبيناً للمفعول . و " نا " على القراءة الأولى فاعل " حمل " وعلى الثانية نائب فاعل " حمل " بالتضعيف . والأوزار في قوله { أَوْزَاراً } قال بعض العلماء معناها الأثقال . وقال بعض العلماء معناها الآثام . ووجه القول الأول أنها أحمال من حلي القبط الذي استعاروه منهم . ووجه الثاني أنها آثام وتبعات . لأنهم كانوا معهم في حكم المستأمنين في دار الحرب ، وليس للمستأمن أن يأخذ مال الحربي ، ولأن الغنائم لم تكن تحل لهم . والتعليل الأخير أقوى . وقوله { مِّن زِينَةِ ٱلْقَوْمِ } المراد بالزينة الحلي ، كما يوضحه قوله تعالى { وَٱتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ } الأعراف 148 فقذفناها أي ألقيناها وطرحناها في النار التي أوقدها السامري في الحفرة ، وأمرنا أن نطرح الحلي فيها . وأظهر الأقوال عندي في ذلك هو أنهم جعلوا جميع الحلي في النار ليذوب فيصير قطعة واحدة . لأن ذلك أسهل لحفظه حتى يرى نبي الله موسى فيه رأيه . والسامري يريد تدبير خطة لم يطلعوا عليها . وذلك أنه لما جاء جبريل ليذهب بموسى إلى الميقات وكان على فرس ، أخذ السامري تراباً مسه حافر تلك الفرس ، ويزعمون في القصة أنه عاين موضع أثرها ينبت فيه النبات ، فتفرس أن الله جعل فيها خاصية الحياة ، فأخذ تلك القبضة من التراب واحتفظ بها ، فلما أرادوا أن يطرحوا الحلي في النار ليجعلوه قطعة واحدة أو لغير ذلك من الأسباب وجعلوه فيها ، ألقى السامري عليه تلك القبضة من التراب المذكورة ، وقال له كن عجلاً جسداً له خوار . فجعله الله عجلاً جسداً له خوار . فقال لهم هذا العجل هو إلهكم وإله موسى ، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى عن موسى { قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يٰسَامِرِيُّ قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ ٱلرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذٰلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي } طه 95 - 96 . وقوله في هذه الآية { وَلَـٰكِنَّا حُمِّلْنَآ أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ ٱلْقَوْمِ } هو من بقية اعتذارهم الفاسد البارد ، وهو يدل على أن ذلك الاعتذار من الذين عبدوا العجل لا من غيرهم ، ولا يبعد معه احتمال أنه من غيرهم . لأنه ليس فيه ما يعين كون الاعتذار منهم تعيناً غير محتمل . ومعلوم أن هذا العذر عذر لا وجه له على كل حال . وقوله في هذه الآية الكريمة { فَنَسِيَ } أي نسي موسى إلهه هنا وذهب يطلبه في محل آخر . قاله ابن عباس في حديث الفتون . وهو قول مجاهد . وعن ابن عباس أيضاً من طريق عكرمة { فَنَسِيَ } أي نسي أن يذكركم به . وعن ابن عباس أيضاً { فَنَسِيَ } أي السامري ما كان عليه من الإسلام ، وصار كافراً بادعاء ألوهية العجل وعبادته .