Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 22, Ayat: 29-29)
Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ } [ الحج : 29 ] صيغة الأمر في هذه الآية الكريمة : تدل على وجوب الإيفاء بالنذر ، كما قدمنا مراراً أن صيغة الأمر تقتضي الوجوب ، على الأصح ، إلا لدليل صارف عنه . ومما يدل من القرآن على لزوم الإيفاء بالنذر : أنه تعالى أشار إلى أنه هو ، والخوف من أهوال يوم القيامة ، من أسباب الشرب من الكأس الممزوجة بالكافور في قوله تعالى : { إِنَّ ٱلأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً } [ الإنسان : 5 - 6 ] ثم أشار إلى بعض أسباب ذلك فقال : { يُوفُونَ بِٱلنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً } [ الإنسان : 7 ] فالوفاء بالنذر ممدوح على كل حال ، وإن كانت آية الإنسان ليست صريحة في وجوبه ، وكذلك قوله في سورة البقرة : { وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُهُ } [ البقرة : 270 ] الآية . وقد بينا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن البيان بالقرآن ، إن لم يكن وافياً بالمقصود أتممناه بالبيان بالسنة . ولذلك سنبين هنا ما تقتضيه السنة من النذر الذي يجب الإيفاء به ، والذي لا يجب الإيفاء به . اعلم أولاً : أن الأمر المنذور له في الجملة حالتان : الأولى : أن يكون فيه طاعة لله . والثانية : ألا يكون فيه طاعة لله ، وهذا الأخير منقسم إلى قسمين . أحدهما : ما هو معصية لله . والثاني : ما ليس فيه معصية في ذاته ، ولكنه ليس من جنس الطاعة كالمباح الذي لم يؤمر به . والذي يجب اعتماده بالدليل في الأقسام الثلاثة المذكورة : أن المنذور إن كان طاعة لله ، وجب الإيفاء به ، سواء كان في ندب كالذي ينذر صدقة بدراهم على الفقراء ، أو ينذر ذبح هدي تطوعاً أو صوم أيام تطوعاً ، ونحو ذلك . فإن هذا ونحوه ، يجب بالنذر ، ويلزم الوفاء به . وكذلك الواجب إن تعلق النذر بوصف ، كالذي ينذر أن يؤدي الصلاة في أول وقتها ، فإنه يجب عليه الإيفاء بذلك . أما لو نذر الواجب كالصلوات الخمس ، وصوم رمضان ، فلا أثر لنذره ، لأن إيجاب الله لذلك أعظم من إيجابه بالنذر ، وإن كان المنذور معصية لله : فلا يجوز الوفاء به ، وإن كان جائزاً لا نهي فيه ، ولا أمر فلا يلزم الوفاء به . أما الدليل على وجوب الإيفاء في نذر الطاعة وعلى منعه في نذر المعصية فهو : أن النَّبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه ذلك . قال البخاري رحمه الله في صحيحه : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا مالك ، عن طلحة بن عبدالملك ، عن القاسم ، عن عائشة رضي الله عنها ، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال : " من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه " اهـ . وهو ظاهر في وجوب الإيفاء بنذر الطاعة ، ومنع الإيفاء بنذر المعصية . وقال البخاري أيضاً : حدثنا أبو عاصم ، عن مالك ، عن طلحة بن عبدالملك ، إلى آخر الإسناد والمتن المذكورين آنفاً . وإذا علمت أن هذا الحديث الصحيح ، قد دل على لزوم الإيفاء بنذر الطاعة ، ومنعه في نذر المعصية . فاعلم : أن الدليل على عدم الإيفاء بنذر الأمر الجائز : هو أنه ثبت أيضاً عن النَّبي صلى الله عليه وسلم . قال البخاري رحمه الله في صحيحه : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا وهيب ، حدثنا أيوب ، عن عكرمة عن ابن عباس قال : " بينا النَّبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذ هو برجل قائم ، فسأل عنه فقالوا : أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد ، ولا يستظل ولا يتكلم ، ويصوم ، فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم : مره فليتكلم ، وليستظل وليقعد ، وليتم صومه " اهـ محل الغرض من صحيح البخاري . وفيه التصريح بأن ما كان من نذره من جنس الطاعة ، وهو الصوم أمره صلى الله عليه وسلم بإتمامه ، وفاء بنذره وما كان من نذره مباحاً لا طاعة ، كترك الكلام ، وترك القعود ، وترك الاستظلال ، أمره بعدم الوفاء به ، وهو صريح في أنه لا يجب الوفاء به . واعلم أنا لم نذكر أقوال أهل العلم هنا للاختصار ، ولوجود الدليل الصحيح من السنة على ما ذكرنا . فروع تتعلق بهذه المسألة : الفرع الأول : اعلم أنه لا نذر لشخص في التقرب بشيء لا يملكه ، وقد ثبت ذلك عن النَّبي صلى الله عليه وسلم . قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه : وحدثني زهير بن حرب ، وعلي بن حجر السعدي واللفظ لزهير قالا : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، حدثنا أيوب ، عن أبي قلابة عن أبي المهلب ، عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال : " كانت ثقيف حلفاء لبني عقيل فأسرت ثقيف رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . الحديث بطوله . وفيه ما نصه : وأسرت امرأة من الأنصار ، وأصيبت العضباء فكانت المرأة في الوثاق ، وكان القوم يريحون نعمهم بين يدي بيوتهم ، فانفلتت ذات ليلة من الوثاق ، فأتت الإِبل ، فجعلت إذا دنت من البعير رغا فتتركه حتى تنتهي إلى العضباء ، فلم ترغ قال : وناقة منوقة فقعدت في عجزها ، ثم زجرتها فانطلقت ونذروا بها فطلبوها ، فأعجزتهم قال : ونذرت لله إن نجاها الله عليها لتنحرنها . فلما قدمت المدينة ، رآها الناس فقال : العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : إنها نذرت إن نجاها الله عليها لتنحرنها ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له فقال : " سبحان الله بئسما جزتها نذرت لله إن نجاها الله عليها لتنحرنها لا وفاء لنذر في معصية ، ولا فيما لا يملك العبد " " الحديث . ومحل الشاهد منه قوله صلى الله عليه وسلم : " ولا فيما لا يملك العبد " وهذا نص صحيح صريح فيما ذكرنا ، ويؤيده حديث ثابت بن الضحاك : أنه صلى الله عليه وسلم قال : " لا وفاء لنذر في معصية الله ولا في قطيعة رحم ولا فيما لا يملك ابن آدم " اهـ . قال الحافظ في بلوغ المرام : رواه أبو داود والطبراني ، واللفظ له ، وهو صحيح الإسناد ، وله شاهد من حديث كردم عند أحمد . الفرع الثاني : اعلم أن العلماء اختلفوا فيمن نذر نذراً لا يلزم الوفاء به هل تلزمه كفارة يمين ، أو لا يلزمه شيء ؟ وحجة من قال : لا يلزمه شيء : هو حديث نذر أبي إسرائيل ، أنه لا يقعد ولا يتكلم ، ولا يستظل ، وقد أمره النَّبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المذكور آنفاً : أنه لا يفي بهذا النذر ، ولم يقل له إن عليه كفارة يمين . وقد قدمنا هذا في سورة مريم موضحاً . وقد قدمنا أن القرطبي قال في قصة أبي إسرائيل : هذه أوضح الحجج للجمهور في عدم وجوب الكفارة ، على من نذر معصية ، أم ما لا طاعة فيه . فقد قال مالك : لما ذكره ولم أسمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أمره بالكفارة ، وأما الذين قالوا : إن النذر الذي لا يجب الوفاء به تجب فيه كفارة يمين فقد احتجوا بما رواه مسلم ، في صحيحه : وحدثني هارون بن سعيد الأيلي ، ويونس بن عبد الأعلى ، وأحمد بن عيسى ، قال يونس : أخبرنا وقال الآخران : حدثنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث ، عن كعب بن علقمة ، عن عبدالرحمن بن شماسة ، عن أبي الخير ، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كفارة النذر كفارة اليمين " اهـ ، وظاهره شموله للنذر الذي لا يجب الوفاء به . وقال النووي في شرح مسلم : اختلف العلماء في المراد به ، فحمله جمهور أصحابنا على نذر اللجاج ، وهو أن يقول إنسان يريد الامتناع من كلام زيد مثلاً : إن كلمت زيداً مثلاً ، فلله علي حجة ، أو غيرها ، فيكلمه فهو بالخيار بين كفارة يمين ، وبين ما التزمه . هذا هو الصحيح في مذهبنا ، وحمله مالك وكثيرون أو الأكثرون على النذر المطلق كقوله : علي نذر ، وحمله أحمد وبعض أصحابنا على نذر المعصية ، كمن نذر أن يشرب الخمر وحمله جماعة من فقهاء أصحاب الحديث ، على جميع أنواع النذر ، وقالوا : هو مخير في جميع المنذورات بين الوفاء بما التزم ، وبين كفارة يمين والله أعلم اهـ كلام النووي . ولا يخفى بعد القول الأخير لقوله تعالى : { وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ } [ الحج : 29 ] فهو أمر جازم مانع للتخيير بين الإيفاء به ، وبين شيء آخر . والأظهر عندي في معنى الحديث : أن من نذر نذراً مطلقاً كأن يقول : علي لله نذر أنه تلزمه كفارة يمين ، لما رواه ابن ماجه ، والترمذي وصححه ، عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كفارة النذر إذا لم يسم كفارة يمين " وروي نحوه أبو داود ، وابن ماجه ، عن ابن عباس ، وفي الحديثين بيان المراد بحديث مسلم ، بأن المراد به : النذر المطلق الذي لم يسم صاحبه ما نذهر ، بل أطلقه والبيان يجوز بكل ما يزيد الإيهام ، كما قدمناه مراراً ، والمطلق يحمل على المقيد . ومما يؤيد القول بلزوم الكفارة في نذر اللجاج : أن النَّبي صلى الله عليه وسلم لما حرم شرب العسل على نفسه في قصة ممالأة أزواجه عليه . وأنزل الله في ذلك : { لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ } [ التحريم : 1 ] قال الله بعد ذلك : { قَدْ فَرَضَ ٱللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } [ التحريم : 2 ] فدل ذلك على لزوم كفارة اليمين ، وكذلك قال ابن عباس وغيره : بلزوم كفارة اليمين ، على القول بأنه حرم جاريته ، والأقوال فيمن حرم زوجته ، أو جاريته ، أو شيئاً من الحلال معروفة عند أهل العلم . فغير لزوجة والأمة لا يحرم بالتحريم قولاً واحداً والخلاف في لزوم كفارة اليمين ، وعدم لزومها ، وظاهر الآية لزومها ، وبعض العلماء يقول : لا يلزم فيه شيء وهو مذهب مالك وأصحابه ، أما تحريم الرجل امرأته أو جاريته ، ففيه لأهل العلم ما يزيد على ثلاثة عشر مذهباً معروفة في محلها ، وأجراها على القياس في تحريم الزوجة لزوم كفارة الظهار ، لأن من قال لامرأته : أنت علي كظهر أمي ، فهو بمثابة ما لو قال لها : أنت حرام ، والظهار نص الله في كتابه ، على أن فيه كفارته المنصوصة في سورة المجادلة . أما نذر اللجاج فقد قدمنا القول ، بأن فيه كفارة يمين ، والمراد بنذر اللجاج النذر الذي يراد به الامتناع من أمر لا التقرب إلى الله . قال ابن قدامة في المغني : وجملته أنه إذا أخرج النذر مخرج اليمين ، بأن يمنع نفسه أو غيره به شيئاً ، أو يحث به على شيء مثل أن يقول : إن كلمت زيداً ، فلله علي الحج أو صدقة مالي أو صوم سنة ، فهذا يمين ، حكمه أنه مخير بين الوفاء بما حلف عليه ، فلا يلزمه شيء ، وبين أن يحنث فيتخير بين فعل المنذور وبين كفارة يمين ، ويسمى نذر اللجاج ، والغضب ، ولا يتعين الوفاء به ، ثم قال : وهذا قول عمر وابن عباس ، وابن عمر وعائشة وحفصة ، وزينب بنت أبي سلمة ، وبه قال عطاء ، وطاوس وعكرمة ، والقاسم والحسن ، وجابر بن زيد ، والنخعي ، وقتادة وعبد الله بن شريك ، والشافعي ، والعنبري وإسحاق وأبو عبيد ، وأبو ثور ، وابن المنذر ، وقال سعيد بن المسيب : لا شيء في الحلف بالحج ، وعن الشعبي ، والحارث العكلي وحماد والحكم : لا شيء في الحلف بصدقة ماله ، لأن الكفارة إنما تلزم بالحلف بالله لحرمة الاسم ، وهذا ما حلف باسم الله ولا يجب ما سماه ، لأنه لم يخرجه مخرج القربة ، وإنما التزمه على طريق العقوبة ، فلم يلزمه . وقال أبو حنيفة ومالك : يلزمه الوفاء بنذره ، لأنه نذر فيلزم الوفاء به كنذر البر . وروي نحو ذلك عن الشعبي . ولنا ما روى عمران بن حصين قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا نذر في غضب وكفارته كفارة يمين " إلى أن قال : " من حلف بالمشي والهدي ، أو جعل ماله في سبيل الله أو في المساكين أو في رتاج الكعبة فكفارته يمين " إلى أن قال : وعن أحمد رواية ثانية : أنه تتعين الكفارة ، ولا يجزئه الوفاء بنذره . وهو قول بعض أصحاب الشافعي لأنه يمين اهـ محل الغرض من المغني ، وروى أبو داود ، عن سعيد بن المسيب أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث ، فسأل أحدهما صاحبه القسمة فقال : إن عدت تسألني القسمة ، فكل مالي في رتاج الكعبة ، فقال له عمر : إن الكعبة غنية عن مالك كفر عن يمينك وكلم أخاك ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب ولا في قطيعة رحم وفيما لا تملك " اهـ رواه أبو داود وسعيد بن المسيب : لم يصح سماعه عن عمر . قاله بعضهم : وعليه فهو من مراسيل سعيد ، وذكر جماعة أنه ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر رضي الله عنه ، وعن أحمد ما يدل على سماع سعيد ، من عمر وأنه قال : إن لم نقبل سعيداً ، عن عمر ، فمن يقبل . والظاهر سماعه من عمر كما صدر بما يدل عليه صاحب تهذيب التهذيب ، وعن مالك وغيره أنه لم يدرك عمر وحديث سعيد المذكور عن عمر : إما متصل ، وإما مرسل من مراسيل سعيد ، وقد قدمنا كلام العلماء فيها . وقال الشوكاني في نيل الأوطار : ولكن سعيد بن المسيب لم يسمع من عمر بن الخطاب ، فهو منقطع ، وروي نحوه عن عائشة : أنها سئلت عن رجل جعل ماله في رتاج الكعبة إن كلم ذا قرابة . فقالت : يكفر عن اليمين . أخرجه مالك ، والبيهقي بسند صحيح . وصححه ابن السكن اهـ . ولفظ مالك في الموطأ فقالت عائشة رضي الله عنها : يكفره ما يكفر اليمين ، وليس في الموطأ أن فتواها هذه في نذر لجاج بل الذي فيه : أنها سئلت عن رجل قال : مالي في رتاج الكعبة . وهو بابها وهو براء مكسورة ، فمثناة فوقية بعدها ألف فجيم . وهذا الذي ذكرنا هو : حاصل حجة من قال : إن نذر اللجاج فيه كفارة يمين ، وهو الأقرب عندي لما ذكرنا ، خلافاً لمن قال : لا شيء فيه . وأما نذر المعصية فلا خلاف في أنه حرام ، وأن الوفاء به ممنوع ، وإنما الخلاف في لزوم الكفارة به فذهب جمهور أهل العلم أنه لا كفارة فيه ، وعن أحمد والثوري وإسحاق ، وبعض الشافعية ، وبعض الحنفية : فيه الكفارة وذكر الترمذي : اختلاف الصحابة في ذلك ، واحتج من قال : بأنه ليس فيه كفارة بالأحاديث الصحيحة ، الواردة بأنه : لا نذر في معصية ، ونفي نذر المعصية مطلقاً : يدل على نفي أثره ، فإذا انتفى النذر من أصله انتفت كفارته لأن التابع ينتفي بانتفاء المتبوع . وإن قلنا : إن الصيغة في قوله : لا نذر في معصية ، خبر أريد به الإنشاء وهو النهي عن نذر المعصية ، فالنهي يقتضي الفساد ، وإذا فسد المنذور بالنهي ، بطل معه تأثيره في الكفارة . قالوا : والأصل براءة الذمة من الكفارة . قالوا : ومما يؤيد ذلك الأحاديث الواردة بأنه : لا نذر إلا فيما ابتغى به وجه الله . قال المجد في المنتقى : رواه أحمد ، وابو داود وفي لفظ عند أحمد : إنما النذر ما ابتغى به وجه الله ، وهو من رواية عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده . وفي إسناده مناقشات تركناها اختصاراً ، واحتج من قال : بأن في نذر المعصية كفارة ببعض الأحاديث الواردة بذلك . منها : ما روي عن عائشة رضي الله عنها : أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين " قال المجد في المنتقى : رواه الخمسة ، واحتج به أحمد ، وإسحاق . ومعلوم أن مراده بالخمسة ، الإمام أحمد وأصحاب السنن ، ولفظ أبي داود في هذا الحديث : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم أبو معمر ، ثنا عبد الله بن المبارك ، عن يونس عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن عائشة رضي الله عنها أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين " . حدثنا ابن السرح قال : ثنا وهب عن يونس ، عن ابن شهاب بمعناه . وإسناده قال أبو داود : سمعت أحمد بن شَبُّوَيه ، يقول : قال ابن المبارك : يعني في هذا الحديث : حدث أبو سلمة ، فدل ذلك على أن الزهري لم يسمعه من أبي سلمة ، وقال أحمد بن محمد : وتصديق ذلك ، ما حدثنا أيوب يعني ابن سليمان قال أبو داود : سمعت أحمد بن حنبل يقول : أفسدوا علينا هذا الحديث ، قيل له : وصح إفساده عندك ، وهل رواه غير ابن أبي أويس ؟ قال : أيوب كان أمثل منه ، يعني : أيوب بن سليمان بن بلال ، وقد رواه أيوب . حدثنا أحمد بن محمد المروزي ، ثنا أيوب بن سليمان ، عن أبي بكر بن أبي أويس ، عن سليمان بن بلال ، عن ابن أبي عتيق وموسى بن عقبة ، عن ابن شهاب ، عن سليمان بن أرقم : أن يحيى بن أبي كثير أخبره ، عن أبي سملة عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين " قال أحمد بن محمد المروزي : إنما الحديث حديث علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير عن محمد بن الزبير ، عن أبيه عن عمران بن حصين ، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أراد أن سليمان بن أرقم وهم فيه ، وحمله عنه الزهري ، وأرسله عن أبي سلمة عن عائشة رحمها الله ! قال أبو داود : روى بقية عن الأوزاعي ، عن يحيى ، عن محمد بن الزبير بإسناد علي بن المبارك مثله اهـ من سنن أبي داود بلفظه . وفيه سوء ظن كثير بالزهري ، وهو أنه حذف من إسناد الحديث واسطتين : وهما سليمان بن أرقم ، ويحيى بن أبي كثير ، وأرسله عن أبي سلمة وكذلك قال الترمذي بعد إخراجه لحديث عائشة المذكور ، لا يصح ، لأن الزهري لم يسمع هذا الحديث من أبي سلمة ، ومما يقوي سوء الظن المذكور بالزهري : أن سليمان بن أرقم الذي حذفه من الإسناد متروك لا يحتج بحديثه ، فحذف المتروك . ورواية حديثه عمن فوقه من العدول من تدليس التسوية ، وهو شر أنواع التدليس وأقبحها ، ولا شك أن هذا النوع من التدليس قادح فيمن تعمده . وما ذكره بعضهم : من أن الثوري والأعمش كانا يفعلان هذا النوع من التدليس مجاب عنه بأنهما لا يدلسان إلا عمن هو ثقة عندهما . وإن كان ضعيفاً عند غيرهما . ومن المستبعد أن يكون الزهري يحسن الظن بسليمان بن أرقم مع اتفاق الحفاظ على عدم الاحتجاج به . والحاصل : أن لزوم الكفارة في نذر المعصية ، جاءت فيه أحاديث متعددة ، لا يخلو شيء منها من كلام . وقد يقوي بعضها بعضاً . وقال الشوكاني : قال النووي في الروضة حديث " لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين " ضعيف باتفاق المحدثين . قال الحافظ : قلت : قد صححه الطحاوي ، وأبو علي بن السكن ، فأين الاتفاق انتهى منه . وقد تركنا تتبع الأحاديث الواردة فيه ، ومناقشتها اختصاراً . والأحوط لزوم الكفارة ، لأن الأمر مقدم على الإباحة كما تقرر في الأصول للاحتياط في الخروج من عهدة الطلب . فمن أخرج كفارة عن نذر المعصية ، فقد برئ من المطالبة بها باتفاق الجميع ومن لم يخرجها بقي مطالباً بها على قول أحمد ، ومن ذكرنا معه . الفرع الثالث : اعلم أن من نذر شيئاً من الطاعة لا يقدر عليه لا يلزمه الوفاء به ، لعجزه عنه . واختلف فيما يلزمه في ذلك المعجوز عنه ، فلو نذر مثلاً أن يحج ، أو يعتمر ماشياً على رجليه ، وهو عاجز عن المشي : جاز له الركوب لعجزه عن المشي ، وإن قدر على المشي : لزمه . وفي حالة ركوبه عند العجز اختلف العلماء فيما يلزمه فقال بعضهم : لا شيء عليه ، لأنه عاجز والله يقول : { لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } [ البقرة : 286 ] فقد عجز عما نذر ولا يلزمه شيء غير ما نذر . وقال بعضهم : تلزمه كفارة يمين . وقال بعضهم : يلزمه صوم ثلاثة أيام . وقال بعضهم : تلزمه بدنة . وقال بعضهم : يلزمه هدي . قال ابن قدامة في المغني : وجملته أن من نذر المشي إلى بيت الله الحرام ، لزمه الوفاء بنذره . وبهذا قال مالك ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأبو عبيد ، وابن المنذر ، ولا نعلم فيه خلافاً ، وذلك لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجدي هذا ، والمسجد الأقصى " ولا يجزئه المشي إلا في الحج أو العمرة . وبه يقول الشافعي . ولا أعلم فيه خلافاً ، وذلك لأن المشي المعهود في الشرع : هو المشي في حج أو عمرة ، فإذا أطلق الناذر حمل على المعهود الشرعي . ويلزمه المشي فيه لنذره ، فإن عجز عن المشي : ركب ، وعليه كفارة يمين ، وعن أحمد رواية أخرى : أنه يلزم دم ، وهو قول الشافعي ، وأفتى به عطاء لما روى ابن عباس أن أخت عقبة بن عامر نذرت المشي إلى بيت الله الحرام ، فأمرها النَّبي صلى الله عليه وسلم أن تركب ، وتهدي هدياً . رواه أبو داود وفيه ضعف ولأنه أخل بواجب في الإحرام فلزمه هدي كتارك الإحرام من الميقات . وعن ابن عمر وابن الزبير قالا : يحج من قابل ، بل ويركب ما مشي ، ويمشي ما ركب ونحوه . قال ابن عباس وزاد فقال : ويهدي ، وعن الحسن مثل الأقوال الثلاثة وعن النخعي روايتان : إحداهما : كقول ابن عمر والثانية : كقول ابن عباس ، وهذا قول مالك . وقال أبو حنيفة : عليه هدي سواء عجز عن المشي ، أو قدر عليه . وأقل الهدي : شاة ، وقال الشافعي : لا يلزمه مع العجز كفارة بحال ، إلا أن يكون النذر مشياً إلى بيت الله الحرام ، فهل يلزمه هدي ؟ فيه قولان . وأما غيره فلا يلزمه مع العجز شيء اهـ محل الغرض من المغني . وإذا علمت أقوال أهل العلم : فيما يلزم من نذر شيئاً ، وعجز عنه ، فهذه أدلة أقوالهم نقلناها ملخصة بواسطة نقل المجد في المنتقى ، لأنه جمعها في محل واحد أما من قال : تلزمه كفارة يمين فقد احتج بنا رواه أبو داود ، وابن ماجه ، عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من نذر نذراً ولم يسمه فكفارته كفارة يمين ، ومن نذر نذراً لم يطقه فكفارته كفارة يمين " اهـ . قال الحافظ في بلوغ المرام : في حديث ابن عباس ، هذا إسناده صحيح ، إلا أن الحفاظ رجحوا وقفه اهـ كما تقدمت الإشارة إليه . ومن أدلة أهل هذا القول ما رواه كريب ، عن ابن عباس قال : " جاءت امرأة إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن أختي نذرت أن تحج ماشية فقال : " إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئاً . لتخرج راكبة ولتكفر عن يمينها " " رواه أحمد ، وأبو داود وقال في نيل الأوطار : في هذا الحديث سكت عنه أبو داود ، والمنذري ، ورجاله رجال الصحيح . والظاهر المتبادر : أن المراد بالتكفير عن اليمين : هو كفارة اليمين المعروفة ، ولقد صدق الشوكاني في أن رجال حديث أبي داود المذكور رجال الصحيح ، لأن أبا داود قال : حدثنا حجاج بن أبي يعقوب ، ثنا أبو النضر ، ثنا شريك عن محمد بن عبدالرحمن مولى آل طلحة ، عن كريب عن ابن عباس إلى آخر الحديث المذكور بمتنه فطبقة إسناده الأولى حجاج بن أبي يعقوب وهو حجاج بن الشاعر الذي أكثر مسلم في صحيحه من الإخراج له ، وهو ثقة حافظ وطبقته الثانية : أبو النضر وهو هاشم بن القاسم بن مسلم بن مقسم الليثي البغدادي خراساني الأصل ولقبه قيصر ، وهو ثقة ثبت ، أخرج له الجميع وطبقته الثالثة هي : شريك ، وهو ابن عبدالله بن أبي شريك النخعي ، أبو عبدالله الكوفي القاضي . أخرج له البخاري تعليقاً ، وهو من رجال مسلم وظاهر كلام ابن حجر في تهذيب التهذيب : أن مسلماً إنما أخرج له في المتابعات ، وكلام أهل العلم فيه كثير بين مثن وذاكر غير ذلك ، وطبقته الرابعة : محمد بن عبدالرحمن مولى آل طلحة ، وهو من رجال مسلم وهو ثقة . وطبقته الخامسة : كريب بن أبي مسلم الهاشمي ، مولى ابن عباس ومعلوم أنه ثقة ، وأنه أخرج له الجميع . هذا هو حاصل حجة من قال : إن على من نذر نذراً ، ولم يطقه كفارة يمين ، وأما الذين قالوا : عليه صيام ثلاثة أيام ، فقد احتجوا بما رواه أحمد ، وأصحاب السنن " عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن أخته نذرت أن تمشي حافية ، غير مختمرة ، فسأل النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال : " إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئاً ، مرها فلتختمر ولتركب ولتصم ثلاثة أيام " " اهـ بواسطة نقل المجد في المنتقى . قال الشوكاني في هذا الحديث : حسنه الترمذي ولكن في إسناده عبيد الله بن زحر وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة اهـ محل الغرض منه . قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : ظاهر كلام أبي داود في عبيد الله بن زحر المذكور : أنه ثقة عنده ، لأنه ذكر تزكيته عن يحيى بن سعيد الأنصاري ، ولم يتعقب ذلك بشيء . فقد " قال أبو داود في هذا الحديث : حدثنا مسدد ثنا يحيى بن سعيد القطان قال : أخبرني يحيى بن سعيد الأنصاري ، أخبرني عبيد الله بن زحر : أن أبا سعيد أخبره أن عبدالله بن مالك أخبره : أن عقبة بن عامر أخبره : أنه سأل النَّبي صلى الله عليه وسلم ، عن أخت له نذرت أن تحج حافية غير مختمرة ، فقال : " مرها فلتختمر ولتركب ولتصم ثلاثة أيام " " حدثنا مخلد بن خالد ، ثنا عبد الرزاق ، ثنا ابن جريج قال : كتبت إلى يحيى بن سعيد أخبرني عبيد الله بن زحر ، مولى لبنى ضمرة ، وكان أيما رجل أن أبا سعيد الرعيني ، أخبره بإسناد يحيى ، ومعناه اهـ من سنن أبي داود ، فكتابة يحيى بن سعيد الأنصاري إلى ابن جريج في ابن زحر المذكور . وكان أيما رجل فيه أعظم تزكية ، لأن قولهم فكان أيما رجل يدل على أنه من أفاضل الرجال والتفضيل في هذا المقام ، إنما هو في الثقة والعدالة ، كما ترى ومن هذا القبيل قول الراعي : @ فأومأت إيماء خفيا لحبتر فلله عيناً حبتر أيما فتى @@ وقال ابن حجر في التقريب في ابن زحر المذكور : صدوق يخطئ ، وكلام أئمة الحديث فيه كثير منهم المثنى ومنهم القادح . وحجة من قال إن عليه بدنة : هي ما رواه عكرمة ، عن ابن عباس : " أن عقبة بن عامر سأل النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن أخته نذرت أن تمشي إلى البيت وشكا إليه ضعفها ، فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله غني عن نذر أختك فلتركب ولتهد بدنة " " رواه أحمد ، وأبو داود . وقال الشوكاني في هذا الحديث : سكت عنه أبو داود والمنذري ، ورجاله رجال الصحيح : قال الحافظ في التلخيص : إسناده صحيح . وحجة من قال : إن عليه هدياً هي : ما رواه أبو داود ، حدثنا محمد بن المثنى ، ثنا أبو الوليد ثنا همام ، عن قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أن أخت عقبة بن عامر ، نذرت أن تمشي إلى البيت ، فأمرها النَّبي صلى الله عليه وسلم أن تركب ، وتهدي هدياً . وقال الشوكاني في هذا الحديث : سكت عنه أبو داود والمنذري ، ولزوم الهدي المذكور مروي عن مالك في الموطأ وفسر الهدي : ببدنة ، أو بقرة ، أو شاة ، إن لم تجد غيرها . هذا هو حاصل أدلة أقوال أهل العلم : فيما يلزم من نذر شيئاً ، وعجز عن فعله . والقول بالهدي والقول بالبدنة ، يمكن الجمع بينهما ، لأن البدنة هدي ، والخاص يقضي على العام . وقد ذكرنا كلام الناس في أسانيد الأحاديث الواردة في ذلك وأحوطها : فيمن عجز عن المشي ، الذي نذره في الحج : البدنة ، لأنها أعظم ما قيل في ذلك ، وليس من المستبعد ، أن تلزمه البدنة ، وأنه يجزئ الهدي والصوم وكفارة اليمين ، لأن كل الأحاديث الواردة بذلك ليس فيها التصريح بنفي إجزاء شيء آخر . فحديث لزوم كفارة اليمين : لم يصرح بعدم إجزاء البدنة ، وحديث الهدي : لم يصرح بعدم إجزاء الصوم مثلاً وهكذا . وقد عرفت أقوال أهل العلم في ذلك مع أن الأحاديث لا يخلو شيء منها من كلام . وظاهر النصوص العامة : أنه لا شيء عليه ، لأن الله يقول : { لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } [ البقرة : 286 ] ويقول : { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ } [ التغابن : 16 ] ويقول النَّبي صلى الله عليه وسلم : " إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم " وقد ثبت في صحيح مسلم : أن النَّبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا } [ البقرة : 286 ] الآية . قال الله : قد فعلت . وفي رواية : نعم ، ويدخل في حكم ذلك قوله تعالى : { رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } [ البقرة : 286 ] الآية . الفرع الرابع : في حكم الإقدام على النذر مع تعريفه لغة وشرعاً . اعلم أن الأحاديث الصحيحة ، دلت على أن النذر ، لا ينبغي وأنه منهي عنه ، ولكن إذا وقع وجب الوفاء به ، إن كان قربة كما تقدم . قال البخاري رحمه الله في صحيحه : حدثنا يحيى بن صالح ، حدثنا فليح بن سليمان ، حدثنا سعيد بن الحارث ، أنه سمع ابن عمر رضي الله عنهما يقول : أو لم ينهوا عن النذر ، إن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن النذر لا يقدم شيئاً ولا يؤخر وإنما يستخرج بالنذر من البخيل " وفي البخاري ، عن ابن عمر قال : " نهى النَّبي صلى الله عليه وسلم عن النذر فقال : " إنه لا يرد شيئاً ولكنه يستخرج به من البخيل " " وفي لفظ للبخاري من حديث أبي هريرة قال : قال النَّبي صلى الله عليه وسلم : " لا يأتي ابن آدم النذر بشيء لم أكن قدّرته ، ولكن يلقيه النذر إلى القدر قد قُدِّرَ له فيستخرج الله به من البخيل فَيُؤْتِي عليه ما لم يكن يُؤتِي عليه من قبل " اهـ من صحيح البخاري ، وهو صريح في النهي عن النذر ، وأنه ليس ابتداء فعله من الطاعات المرغب فيها . وقال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه : وحدثني زهير بن حرب ، وإسحاق بن إبراهيم ، قال إسحاق : أخبرنا . وقال زهير : حدثنا جرير ، عن منصور ، " عن عبدالله بن مرة ، عن عبدالله بن عمر قال : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً ينهانا عن النذر ويقول : " إنه لا يرد شيئاً وإنما يستخرج به من الشحيح " " وفي لفظ لمسلم ، عن ابن عمر عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " النذر لا يقدم شيئاً ولا يؤخره وإنما يستخرج به من البخيل " وفي لفظ لمسلم عن ابن عمر ، " عن النَّبي صلى الله عليه وسلم : أنه نهى عن النذر ، وقال : " إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل " " . وقال مسلم في صحيحه أيضاً : وحدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا عبدالعزيز ، يعني الدراوردي ، عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تنذروا فإن النذر لا يغني من القدر شيئاً ، وإنما يستخرج به من البخيل " وفي لفظ لمسلم ، عن أبي هريرة ، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن النذر وقال : " إنه لا يرد من القدر ، وإنما يستخرج به من البخيل " وفي لفظ لمسلم ، عن أبي هريرة : أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن النذر لا يقرب من ابن آدم شيئاً لم يكن الله قدره له ، ولكن النذر يوافق القدر فيخرج بذلك من البخيل ما لم يكن البخيل يريد أن يخرج " اهـ . من صحيح مسلم . وهذا الذي ذكرنا من حديث الشيخين ، عن ابن عمر وأبي هريرة : فيه الدلالة الصريحة على النهي عن الإقدام على النذر ، وأنه لا يأتي بخير ، وإنما يستخرج به من البخيل . وفي الأحاديث المذكورة إشكال معروف ، لأنه قد دل القرآن على الثناء على الذين يوفون بالنذر ، وأنه من أسباب دخول الجنة كقوله تعالى : { إِنَّ ٱلأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً يُوفُونَ بِٱلنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً } [ الإنسان : 5 - 7 ] وقوله تعالى : { وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُهُ } [ البقرة : 270 ] وقد دل الكتاب والسنة على وجوب الوفاء ، بنذر الطاعة ، كقوله تعالى في هذه الآية ، التي نحن بصددها { ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ } [ الحج : 29 ] الآية . وكقوله صلى الله عليه وسلم : " من نذر أن يطيع الله فليطعه " ويؤيد ذلك ما ثبت في الصحيح ، من ذم الذين لم يوفوا بنذورهم . قال البخاري في صحيحه : حدثنا مسدد ، عن يحيى عن شعبة : حدثني أبو جمرة ، حدثنا زهدم بن مضرب ، قال : سمعت عمران بن حصين رضي الله عنهما ، يحدث عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال : " " خيركم قرني ، ثم الذين يلونهم " قال عمران : لا أدري ذكر ثنتين أو ثلاثاً بعد قرنه " ثم يجيء قوم ينذرون ولا يوفون ويخونون ولا يؤتمنون ويشهدون ولا يستشهدون ويظهر فيهم السمن " " اهـ من صحيح البخاري . وهو ظاهر جداً في إثم الذين لا يوفون بنذرهم ، وأنهم كالذين يخونون ، ولا يؤتمنون . وهذا الحديث أخرجه أيضاً مسلم في صحيحه ، عن عمران بن حصين . وقال النووي في شرحه لحديث عمران هذا فيه وجوب الوفاء بالنذر ، وهو واجب ، بلا خلاف ، وإذا كان ابتداء النذر منهياً عنه : كما سبق في بابه ، اهـ محل الغرض منه . ولأجل هذا الإشكال المذكور اختلف العلماء في حكم الإقدام على النذر ، فذهب المالكية : إلى جواز نذر المندوبات إلا الذي يتكرر دائماً كصوم يوم من كل أسبوع فهو مكروه عندهم ، وذهب أكثر الشافعية : إلى أنه مكروه ، ونقهل بعضهم عن نص الشافعي للأحاديث الدالة على النهي عنه . ونقل نحوه عن المالكية أيضاً ، وجزم به عنهم ابن دقيق العيد . وأشار ابن العربي إلى الخلاف عنهم ، والجزم عن الشافعية بالكراهة . وجزم الحنابلة بالكراهة ، وعندهم رواية في أنها كراهة تحريم ، وتوقف بعضهم في صحتها ، وكراهته مروية عن بعض الصحابة . اهـ بواسطة نقل ابن حجر في الفتح . وجزم صاحب المغني : بأن النهي عنه نهي كراهة . قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الظاهر لي في طريق إزالة هذا الإشكال ، الذي لا ينبغي العدول عنه : أن نذر القربة على نوعين . أحدهما : معلق على حصول نفع كقوله : إن شفى الله مريضي ، فعلي لله نذر كذا أو إن نجاني الله من الأمر الفلاني المخوف ، فعلي لله نذر كذا ، ونحو ذلك . والثاني : ليس معلقاً على نفع للناذر ، كأن يتقرب إلى الله تقرباً خالصاً بنذر كذا ، من أنواع الطاعة ، وأن النهي إنما هو في القسم الأول ، لأن النذر فيه لم يقع خالصاً للتقرب إلى الله ، بل بشرط حصول نفع للناذر وذلك النفع الذي يحاوله الناذر هو الذي دلت الأحاديث على أن القدر فيه غالب على النذر وأن النذر لا يرد فيه شيئاً من القدر . أما القسم الثاني : وهو نذر القربة الخالص من اشتراط النفع في النذر ، فهو الذي فيه الترغيب والثناء على الموفين به المقتضي أنه من الأفعال الطيبة ، وهذا التفصيل قالت به جماعة من أهل العلم . وإنما قلنا : إنه لا ينبغي العدول عنه لأمرين : الأول : أن نفس الأحاديث الواردة في ذلك فيها قرينة واضحة ، دالة عليه ، وهو ما تكرر فيها من أن النذر لا يرد شيئاً من القدر ولا يقدم شيئاً ، ولا يؤخر شيئاً ونحو ذلك . فكونه لا يرد شيئاً من القدر ، قرينة واضحة على أن الناذر أراد بالنذر جلب نفع عاجل ، أو دفع ضر عاجل فبين صلى الله عليه وسلم أن ما قضى الله به في ذلك واقع لا محالة ، وأن نذر الناذر لا يرد شيئاً كتبه الله عليه ، ولكنه إن قدر الله ما كان يريده الناذر بنذره ، فإنه يستخرج بذلك من البخيل الشيء الذي نذر وهذا واضح جداً كما ذكرنا . الثاني : أن الجمع واجب إن أمكن وهذا جمع ممكن بين الأدلة واضح تنتظم به الأدلة ، ولا يكون بينها خلاف ، ويؤيده أن الناذر الجاهل ، قد يظن أن النذر قد يرد عنه ما كتبه الله عليه . هذا هو الظاهر في حل هذا الإشكال . وقد قال به غير واحد . والعلم عند الله تعالى . تنبيه : فإن قيل : إن النذر المعلق كقوله : إن شفى الله مريضي أو نجاني من كذا ، فلله علي نذر كذا ، فقد ذكرتم أنه هو المنهي عنه ، وإذا تقرر أنه منهي عنه لم يكن من جنس القربة ، فكيف يجب الوفاء بمنهي عنه . والجواب : أن النص الصحيح دل على هذا فدل على النهي عنه أولاً ، كما ذكرنا الأحاديث الدالة على ذلك ، ودل على لزوم الوفاء به بعد الوقوع فقوله صلى الله عليه وسلم : " وإنما يستخرج به من البخيل " نص صريح في أن البخيل يلزمه إخراج ما نذر إخراجه ، وهو المصرح بالنهي عنه أولاً ، ولا غرابة في هذا ، لأن الواحد بالشخص قد يكون له جهتان . فالنذر المنذور له جهة هو منهي عنه من أجلها ابتداء : وهي شرط حصول النفع فيه ، وله جهة أخرى هو قربة بالنظر إليها ، وهو إخراج المنذور تقرباً لله وصرفه في طاعة الله ، والعلم عند الله تعالى . واعلم : أن النذر في اللغة النحب وهو ما يجعله الإنسان نحباً واجباً عليه قضاؤه ، ومنه قول لبيد : @ ألا تسألان المرء ماذا يحاول أنحبٌ فيقضى أم ضلالٌ وباطل @@ وحاصله : أنه إلزام الإنسان نفسه بشيء لم يكن لازماً لها ، فيجعله واجباً عليها وهو في اصطلاح الشرع : التزام المكلف قربة لم تكن واجبة عليه . وقال ابن الأثير في النهاية : يقال : نذرت أنذر وأنذر نذراً إذا أوجبت على نفسي شيئاً تبرعاً من عبادة أو صدقة أو غير ذلك . وقد تكرر في أحاديثه ذكر النهي عنه وهو تأكيد لأمره وتحذير عن التهاون به بعد إيجابه ، ولو كان معناه الزجر عنه حتى لا يفعل لكان في ذلك إبطال حكمه ، وإسقاط لزوم الوفاء به إذ كان بالنهي يصير معصية . فلا يلزم ، وإنما وجه الحديث أنه قد أعلمهم أن ذلك أمر لا يجر لهم في العاجل نفعاً ، ولا يصرف عنهم ضراً ولا يرد قضاء . فقال : لا تنذروا على أنكم قد تدركون بالنذر شيئاً لم يقدره الله لكم ، أو تصرفون به عنكم ما جرى به القضاء عليكم ، فإذا نذرتم ولم تعتقدوا هذا فأخرجوا عنه بالوفاء ، فإن الذي نذرتموه لازم لكم اهـ الغرض من كلام ابن الأثير . وقد قاله غيره ، ولا يساعد عليه ظواهر الأحاديث . فالظاهر أن الأرجح الذي لا ينبغي العدول عنه هو ما قدمنا من الجمع ، والعلم عند الله تعالى . واعلم : أن تعريف المالكية للنذر شرعاً : بأنه التزام مسلم مكلف ، ولو غضبان إلى آخره فيه أمران . الأول : أن اشتراط الإسلام في النذر فيه نظر ، لأن ما نذره الكافر من فعل الطاعات قد ينعقد نذره له بدليل أنه يفعله إذا أسلم بعد ذلك ، ولو كان لغواً غير منعقد ، لما كان له أثر بعد الإسلام . قال البخاري رحمه الله في صحيحه : حدثنا عبدالله أخبرنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر : " أن عمر قال : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام قال : " أوف بنذرك " " انتهى منه . فقوله صلى الله عليه وسلم لعمر في هذا الحديث الصحيح : " أوف بنذرك " مع أنه نذره في الجاهلية صريح في ذلك كما ترى ، ولا التفات إلى ما أوله به بعض العلماء من المالكية وغيرهم . وقول المالكية في تعريف النذر ، ولو غضبان لا يخفى أن العلماء مختلفون في نذر الغضبان ، هل يلزم فيه ما نذر أو هو من نوع اللجاج ، تلزم فيه كفارة يمين كما أوضحنا حكمه سابقاً . الفرع الخامس : اعلم : أنه قد دل الحديث على أن من نذر أن ينحر تقرباً لله في محل معين ، فلا بأس بإيفائه بنذره ، بأن ينحر في ذلك المحل المعنين إذا لم يتقدم عليه أنه كان به وثن يعبد أو عيد من أعياد الجاهلية . ومفهومه أنه إن كان قد سبق أن فيه وثناً يعبد ، أو عيداً من أعياد الجاهلية : أنه لا يجوز النحر فيه . قال أبو داود في سننه : حدثنا داود بن رشيد ، ثنا شعيب بن إسحاق ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير قال : حدثني أبو قلابة ، قال : حدثني ثابت بن الضحاك ، قال : " نذر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن ينحر إبلاً ببوانة ، فأتى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني نذرت أن أنحر إبلاً ببوانة فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم : " هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد ؟ قالوا : لا قال : هل كان فيها عيد من أعيادهم ؟ قالوا : لا . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أوف بنذرك فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم " " اهـ منه . وفيه الدلالة الظاهرة على أن النحر بموضع كان فيه وثن يعبد أو عيد من أعياد الجاهلية من معصية الله تعالى ، وأنه لا يجوز بحال ، والعلم عند الله تعالى . وإسناد الحديث صحيح . الفرع السادس : اعلم : أن الأحاديث الصحيحة دلت على أن من مات وعليه نذر أنه يقضى عنه ، وسنقتصر هنا على قليل منها اختصاراً لصحته ، وثبوته . قال البخاري رحمه الله في صحيحه : حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب عن الزهري ، قال : أخبرني عبيد الله بن عبدالله أن عبدالله بن عباس ، أخبره " أن سعد بن عبادة الأنصاري استفتى النَّبي صلى الله عليه وسلم في نذر كان على أمه ، فتوفيت قبل أن تقضيه ، فأفتاه : أن يقضيه عنها فكانت سُنَّةً بَعْدُ " اهـ من صحيح البخاري . وقد قدمنا بعض الأحاديث الدالة على ذلك فيمن مات وعليه نذر الحج أنه يقضي عنه كما تقدم إيضاحه ، والأحاديث في هذا الباب كثيرة معروفة . تنبيه اعلم : أن ابن عمر وابن عباس أفتيا بقضاء الصلاة المنذورة عن الميت إذا مات ولم يصل ما نذر . قال البخاري في صحيحه : باب من مات وعليه نذر ، وأمر ابن عمر امرأة جعلت أمها على نفسها صلاة بقباء فقال : صلِّي عنها . وقال ابن عباس نحوه اهـ من البخاري . وفي الموطأ عن مالك ، عن عبد الله بن أبي بكر عن عمته : أنها حدثته ، عن جدته أنها كانت جعلت على نفسها مشياً إلى مسجد قباء ، فماتت ولم تقضه ، فأفتى عبدالله بن عباس ابنتها : أن تمشي عنها . قال يحيى : وسمعت مالكاً يقول : لا يمشي أحد عن أحد اهـ من الموطأ . وقال الزرقاني ، في شرحه : قال ابن القاسم : أنكر مالك الأحاديث في المشي إلى قباء ، ولم يعرف المشي إلا إلى مكة خاصة . قال ابن عبدالبر يعني : لا يعرف إيجاب المشي للحالف ، والناذر . وأما المتطوع ، فقد روى مالك فيما مر أنه صلى الله عليه وسلم ، كان يأتي قباء راكباً وماشياً ، وأن إتيانه مرغب فيه . اهـ منه . قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الذي عليه جمهور أهل العلم ، وحكى ابن بطال الإجماع عليه أنه لا يصلي أحمد عن أحمد ، أما الصوم والحد عن الميت فقد قدمنا مشروعيتهما . وإن خالف جل أهل العلم في الصوم عن الميت ، والعلم عند الله تعالى . وفي الموطأ عن مالك بعد أن ذكر حديث " من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه " قال يحيى : وسمعت مالكاً يقول : معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه " أن ينذر الرجل أن يمشي إلى الشام ، أو إلى مصر ، أو إلى الرَّبَذَةِ ، أو ما أشبه ذلك مما ليس لله بطاعة ، إن كلم فلاناً أو ما أشبه ذلك فليس عليه في شيء من ذلك شيء إن هو كلمه ، أو حنث بما حلف عليه ، لأنه ليس لله في هذه الأشياء طاعة . وإنما يوفي لله بما له فيه طاعة اهـ . من الموطأ . الفرع السابع : الأظهر عندي : أن من نذر جميع ماله لله ليصرف في سبيل الله ، أنه يكفيه الثلث ولا يلزمه صرف الجميع ، وهذا قول مالك وأصحابه وأحمد وأصحابه ، والزهري . وفي هذه المسألة للعلماء عشرة مذاهب أظهرها عندنا : هو ما ذكرنا ، ويليه في الظهور عندنا قول من قال : يلزمه صرفه كله ، وهو مروي عن الشافعي والنخعي ، وعن أحمد رواية أخرى : أن عليه كفارة يمين ، وعن ربيعة تلزمه الصدقة بقدر الزكاة ، وعن جابر بن زيد ، وقتادة : إن كان كثيراً وهو ألفان تصدق بعشره ، وإن كان متوسطاً وهو ألف تصدق بسبعه ، وإن كان قليلاً ، وهو خمسمائة تصدق بخمسه ، وعن أبي حنيفة : يتصدق بالمال الزكوي كله ، وعنه في غيره روايتان . إحداهما : يتصدق به . والثانية : لا يلزم منه شيء ، وعن النخعي ، والبتي ، والشافعي : يتصدق بماله كله ، وعن الليث : إن كان ملياً لزمه ، وإن كان فقيراً فعليه كفارة يمين ، ووافقه ابن وهب وزاد وإن كان متوسطاً يخرج قدر زكاة ماله وهذا مروي أيضاً عن أبي حنيفة ، وهو قول ربيعة كما تقدم . وعن الشعبي : لا يلزم شيء أصلاً ، وقيل : يلزم الكل إلا في نذر اللجاج ، فكفارة يمين ، وعن سحنون : يلزمه إخراج ما لا يضر به . وعن الثوري والأوزاعي ، وجماعة : يلزمه كفارة يمين بغير تفصيل . وإذا علمت أقوال أهل العلم في هذه المسألة . فاعلم : أن أكثرها لا يعتضد بدليل ، والذي يعتضد بالدليل منها ثلاثة مذاهب : الأول : هو ما قدمنا أنه أظهرها عندنا ، وهو الاكتفاء بالثلث . والثاني : لزوم الصدقة بالمال كله . والثالث : قول سحنون : أنه يلزمه إخراج ما لا يضر به . أما الاكتفاء بالثلث الذي هو أقربها عندنا ، فقد يستدل له ببعض الأحاديث الصحيحة التي فيها النهي عن التصدق بالمال كله ، وفيها أن الثلث كثير . قال البخاري رحمه الله في صحيحه : باب إذا أهدى ماله على وجه النذر ، والتوبة : حدثنا أحمد بن صالح ، حدثنا ابن وهب أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، أخبرني عبدالرحمن بن عبدالله عن عبدالله بن كعب بن مالك ، وكان قائد كعب من بنيه حين عمي ، قال : " سمعت كعب بن مالك يقول في حديثه : { وَعَلَى ٱلثَّلاَثَةِ ٱلَّذِينَ خُلِّفُواْ } [ التوبة : 118 ] فقال في آخر حديثه : إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله ، فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم : " أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك " " اهـ . فظاهر هذا الحديث الصحيح : أن كعباً غير مستشير بل مريد التجرد من جميع ماله على وجه النذر والتوبة ، كما في ترجمة الحديث . وقد أمره صلى الله عليه وسلم بأن يمسك بعض ماله ، وصرح له بأن ذلك خير له . وقد جاء في بعض الروايات أنه فسر ذلك البعض الذي يمسكه بالثلثين ، وأنه يتصدق بالثلث . وقال ابن حجر في شرح هذا الحديث قوله : " أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك " زاد أبو داود عن أحمد بن صالح بهذا السند ، فقلت : إني أمسك سهمي الذي بخيبر ، وهو عند المصنف من وجه آخر عن ابن شهاب ، ووقع في رواية ابن إسحاق عن الزهري بهذا السند ، عند أبي داود : " إن من توبتي إلى الله أن أخرج من مالي كله لله ورسوله صدقة قال : لا . قلت : فنصفه ؟ قال : لا . قلت : فثلثه ؟ قال : نعم . قلت : فإني أمسك سهمي الذي في خيبر " . واعلم أن ابن إسحاق في حديثه هذا عند أبي داود ، صرح بالتحديث عن الزهري ، فأمن تدليسه ثم قال ابن حجر : وأخرج من طريق ابن عيينة ، عن الزهري ، عن ابن كعب بن مالك ، عن أبيه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم ، وذكر الحديث وفيه : وإني أنخلع من مالي كله صدقة . قال : " يجزئ عنك الثلث " وفي حديث أبي لبابة ، عند أحمد وأبي داود مثله اهـ محل الغرض من فتح الباري . وقد رأيت الروايات المصرحة بأنه يجزئه الثلث عن جميع المال . وظاهر الحديث أنه جازم غير مستشير فمن زعم من أهل العلم أنه مستشير فهو مخالف لظاهر اللفظ ، لأن اللفظ مبدوء بجملة خبرية مؤكدة بحرف التوكيد ، الذي هو إن المكسورة في قوله : إن من توبتي أن أنخلع من مالي ، واللفظ الذي هذه صفته ، لا يمكن حمله على التوقف والاستشارة ، كما ترى فقوله صلى الله عليه وسلم لكعب بن مالك وأبي لبابة : إن الثلث يكفي عن الصدقة بجميع المال . هو الدليل الذي ذكرنا بسببه : أن أقرب الأقوال عندنا الاكتفاء بالثلث . وأما قول من قال : يلزمه التصدق بجميعه ، فيستدل له بالحديث الصحيح : " من نذر أن يطيع الله فليطعه " وهو يدل على إيفائه بنذره ، ولو أتى على كل المال ، إلا أن دليل ما قبله أخص منه في محل النزاع والأخص مقدم على الأعم . وأما قول سحنون : يلزمه التصدق بما لا يضر به فيستدل له بقوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ ٱلْعَفْوَ } [ البقرة : 219 ] الآية ، لأن العفو في أصح التفسيرين ، هو ما لا يضر إنفاقه بالمنفق ، ولا يجحف به لإمساكه ما يسد خلته الضرورية . وهذا قد يرجع إلى الأول لأن الثلث من العفو الذي لا يجحف به إنفاقه . فأظهرها الأول كما ذكرنا وباقي الأقوال لا أعلم له دليلاً متجهاً من كتاب ، ولا سنة ، وما وجه به تلك الأقوال بعض أهل العلم لا يتجه عندي ، والعلم عند الله تعالى . الفرع الثامن : اعلم أنه قد دل النص الصحيح ، على أن من نذر أن يسافر إلى مسجد ليصلي فيه كمسجد البصرة ، أو الكوفة أو نحو ذلك : لا يلزمه السفر إلى مسجد من تلك المساجد ، وليصل الصلاة التي نذرها به في موضعه الذي هو به . والنص الصحيح المذكور هو حديث : " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ومسجدي هذا ومسجد بيت المقدس " والجاري على الأصول : أنه لا يخرج من هذا الحصر الذي صرح به النَّبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح ، إلا ما أخرجه نص صحيح يجب الرجوع إليه من كتاب أو سنة . والأظهر أن من نذر السفر لصلاة في مسجد إيلياء ، وصلاها في مسجد مكة أو المدينة أجزأته ، لأنهما أفضل منه . وقد قال أبو داود : حدثنا موسى بن إسماعيل ثنا حماد أخبرنا حبيب المعلم ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن جابر بن عبدالله : " أن رجلاً قام يوم الفتح فقال : يا رسول الله إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس ركعتين قال : " صل ها هنا ثم أعاد عليه ، فقال : صل ها هنا ثم أعاد عليه ، فقال : شأنك إذاً " " قال أبو داود : وروي نحوه عن عبدالرحمن بن عوف ، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم . وفي لفظ لأبي داود عن عمر بن عبدالرحمن بن عوف ، عن رجال من أصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم ، فقال صلى الله عليه وسلم : " والذي بعث محمداً بالحق لو صليت هنا لأجزأ عنك صلاة في بيت المقدس " اهـ . والعلم عند الله تعالى . ولنكتف بما ذكر هنا من مسائل النذر لكثرة ما كتبنا في آيات سورة الحج من الأحكام الشرعية وأقوال أهل العلم فيها ، والنذر باب مذكور في كتب الفروع ، فمن أراد الإحاطة بجميع مسائله ، فلينظرها في كتب فروع المذاهب الأربعة ، وقد ذكرنا هنا عيون مسائله المهمة ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : { وَلْيَطَّوَّفُواْ بِٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ } . في المراد بالعتيق هنا للعلماء ثلاثة أقوال : الأول : أن المراد به القديم ، لأنه أقدم مواضع التعبد . الثاني : أن الله أعتقه من الجبابرة . الثالث : أن المراد بالعتق فيه الكرم ، والعرب تسمي القديم عتيقاً ومنه قول حسان رضي الله عنه : @ كالمسك تخلطه بماء سحابة أو عاتق كدم الذبيح مدام @@ لأن مراده بالعاتق الخمر القديمة التي طال مكثها في دنها زمناً طويلاً ، وتسمى الكرم عتقاً ومنه قول كعب بن زهير : @ قنواء في حرتيها للبصير بها عتق مبين وفي الخدين تسهيل @@ فقوله : عتق مبين : أي كرم ظاهر ، ومنه قول المتنبي : @ ويبين عتق الخيل في أصواتها @@ أي كرمها ، والعتق من الجبابرة كالعتق من الرق ، وهو معروف . وإذا علمت ذلك فاعلم : أنه قد دلت آية من كتاب الله ، على أن العتيق في الآية بمعنى : القديم الأول وهي قوله تعالى : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً } [ آل عمران : 96 ] الآية مع أن المعنيين الآخرين كلاهما حق ، ولكن القرآن دل على ما ذكرنا ، وخير ما يفسر به القرآن القرآن . تنبيهان الأول : دلت هذه الآية الكريمة ، على لزوم طواف الإفاضة وأنه لا صحة للحج بدونه . الثاني : دلت هذه الآية أيضاً على لزوم الطواف من وراء الحجر الذي عليه الجدار القصير شمال البيت لأن أصله من البيت ، فهو داخل في اسم البيت العتيق ، كما تقدم إيضاحه .