Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 22, Ayat: 30-31)

Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { وَأُحِلَّتْ لَكُمُ ٱلأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ } . لم يبين هنا هذا الذي يتلى عليهم المستثنى من حلية الأنعام ، ولكنه بينه بقوله في سورة الأنعام : { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ } [ الأنعام : 145 ] وهذا الذي ذكرنا هو الصواب ، أما ما قاله جماعات من أهل التفسير من أن الآية التي بينت الإجمال في قوله تعالى هنا : { إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ } أنها قوله تعالى في المائدة : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلْدَّمُ وَلَحْمُ ٱلْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ وَٱلْمُنْخَنِقَةُ وَٱلْمَوْقُوذَةُ } [ المائدة : 3 ] الآية فهو غلط ، لأن المائدة من آخر ما نزل من القرآن وآية الحج هذه نازلة قبل نزول المائدة بكثير ، فلا يصح أن يحال البيان عليها في قوله : { إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ } بل المبين لذلك الإجمال آية الأنعام التي ذكرنا لأنها نازلة بمكة ، فيصح أن تكون مبينة لآية الحج المذكورة كما نبه عليه غير واحد . أما قوله تعالى في المائدة : { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ ٱلأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ } [ المائدة : 1 ] فيصح بيانه بقوله في المائدة : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلْدَّمُ } الآية . كما أوضحنا في أول المائدة والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : { فَٱجْتَنِبُواْ ٱلرِّجْسَ مِنَ ٱلأَوْثَانِ } . " من " في هذه الآية بيانية . والمعنى : فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان : أي عبادتها والرجس القذر الذي تعافه النفوس ، وفي هذه الآية الكريمة الأمر باجتناب عبادة الأوثان ، ويدخل في حكمها ، ومعناها عبادة كل معبود من دون الله كائناً من كان . وهذا الأمر باجتناب عبادة غير الله المذكور هنا ، جاء مبيناً في آيات كقوله تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجْتَنِبُواْ ٱلْطَّاغُوتَ } [ النحل : 36 ] وبيَّن تعالى أن ذلك شرط في صحة إيمانه بالله في قوله : { فَمَنْ يَكْفُرْ بِٱلطَّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ } [ البقرة : 256 ] وأثنى الله على مجتنبي عبادة الطاغوت المنيبين لله ، وبين أن لهم البشرى ، وهي ما يسرهم عند ربهم في قوله تعالى : { وَٱلَّذِينَ ٱجْتَنَبُواْ ٱلطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ لَهُمُ ٱلْبُشْرَىٰ } [ الزمر : 17 ] الآية . وقد سأل إبراهيم ربه أن يرزقه اجتناب عبادة الطاغوت ، في قوله تعالى : { وَٱجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ ٱلأَصْنَامَ } [ إبراهيم : 35 ] والأصنام ، تدخل في الطاغوت دخولاً أولياً . قوله تعالى : { وَٱجْتَنِبُواْ قَوْلَ ٱلزُّورِ حُنَفَآءَ للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ } . أمر في هذه الآية الكريمة باجتناب قول الزور ، وهو الكذب والباطل كقولهم : إن الله حرم البحيرة والسائبة ، ونحو ذلك ، وكادعائهم له الأولاد والشركاء ، وكل قول مائل عن الحق فهو زور ، لأن أصل المادة التي هي الزور من الازورار بمعنى الميل ، والاعوجاج ، كما أوضحناه في الكلام على قوله : { تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ } [ الكهف : 17 ] الآية . واعلم أنا قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها ، أن يذكر لفظ عام ، ثم يصرح في بعض المواضع بدخول بعض أفراد ذلك العام فيه ، وتقدمت لذلك أمثلة . وسيأتي بعض أمثلته في الآيات القريبة من سورة الحج هذه . وإذا علمت ذلك فاعلم أنه هنا قال : { وَٱجْتَنِبُواْ قَوْلَ ٱلزُّورِ } بصيغة عامة ، ثم بين في بعض المواضع بعض أفراد قول الزور المنهي عنه كقوله تعالى في الكفار الذين كذبوه صلى الله عليه وسلم : { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ إِفْكٌ ٱفْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَآءُوا ظُلْماً وَزُوراً } [ الفرقان : 4 ] فصرح بأن قولهم هذا من الظلم والزور . وقال في الذين يظاهرون من نسائهم ، ويقول الواحد منهم لامرأته : أنت عليّ كظهر أمي { وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ ٱلْقَوْلِ وَزُوراً } [ المجادلة : 2 ] فصرح بأن قولهم ذلك ، منكر وزور ، وقد ثبت في الصحيح من " حديث أبي بكرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ قلنا : بلى يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئاً فجلس فقال : ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت " " اهـ وقد جمع تعالى هنا بين قول الزور والإشراك به تعالى في قوله : { وَٱجْتَنِبُواْ قَوْلَ ٱلزُّورِ حُنَفَآءَ للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ } وكما أنه جمع بينهما هنا ، فقد جمع بينهما أيضاً في غير هذا الموضع كقوله : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ ٱلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَٱلإِثْمَ وَٱلْبَغْيَ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 33 ] لأن قوله : { وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } هو قول الزور . وقد أتى مقروناً بقوله : { وَأَن تُشْرِكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً } وذلك يدل على عظمة قول الزور ، لأن الإشراك بالله قد يدخل في قول الزور ، كادعائهم الشركاء ، والأولاد لله . وكتكذيبه صلى الله عليه وسلم فكل ذلك الزور فيه أعظم الكفر والإشراك بالله . نعوذ بالله من كل سوء . ومعنى حنفاء : قد قدمناه مراراً مع بعض الشواهد العربية ، فأغنى عن إعادته هنا . قوله تعالى : { وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَتَخْطَفُهُ ٱلطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ ٱلرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } . بين تعالى في هذه الآية الكريمة : أن من أشرك بالله غيره أي ومات ولم يتب من ذلك فقد وقع في هلاك ، لا خلاص منه بوجه ولا نجاة معه بحال ، لأنه شبهه بالذي خر : أي سقط من السماء إلى الأرض ، فتمزقت أوصاله ، وصارت الطير تتخطفها وتهوي بها الريح فتلقيها في مكان سحيق : أي محل بعيد لشدة هبوبها بأوصاله المتمزقة ، ومن كانت هذه صفته فإنه لا يرجى له خلاص ولا يطمع له في نجاة ، فهو هالك لا محالة ، لأن من خر من السماء إلى الأرض لا يصل الأرض عادة إلى متمزق الأوصال ، فإذا خطفت الطير أوصاله وتفرق في حواصلها ، أو ألقته الريح في مكان بعيد فهذا هلاك محقق لا محيد عنه . وما تضمنته هذه الآية الكريمة من هلاك من أشرك بالله وأنه لا يرجى له خلاص ، جاء موضحاً في مواضع أخر كقوله : { إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيهِ ٱلْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ ٱلنَّارُ } [ المائدة : 72 ] الآية . وكقوله : { قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } [ الأعراف : 50 ] وقوله : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } [ النساء : 48 ] الآية في الموضعين من سورة النساء ، والخطف الأخذ بسرعة والسحيق البعيد . ومنه قوله تعالى : { فَسُحْقاً لأَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ } [ الملك : 11 ] أي بعداً لهم . وقد دلت آيات أخر على أن محل هذا الهلاك الذي لا خلاص منه بحال الواقع بمن يشرك بالله ، إنما هو في حق من مات على ذلك الإشراك ، ولم يتب منه قبل حضور الموت . أما من تاب من شركه قبل حضور الموت ، فإن الله يغفر له ، لأن الإسلام يجبّ ما قبله . والآيات الدالة على ذلك متعددة كقوله : { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } [ الأنفال : 38 ] وقوله : { وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهَا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ } [ الفرقان : 68 ] إلى قوله : { إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَـٰئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } [ الفرقان : 70 ] الآية وقوله في الذين : { قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلاَّ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَىٰ ٱللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ المائدة : 73 - 74 ] وقوله : { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً } [ طه : 82 ] الآية . إلى غير ذلك من الآيات . وأما إن كانت توبته من شركه عند حضور الموت ، فإنها لا تنفعه . وقد دلت على ذلك آيات من كتاب الله كقوله تعالى : { وَلَيْسَتِ ٱلتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ ٱلآنَ وَلاَ ٱلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ } [ النساء : 18 ] فقد دلت الآية على التسوية بين الموت على الكفر والتوبة منه ، عند حضور الموت وكقوله تعالى : { فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُوۤاْ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَحْدَهُ وَكَـفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } [ غافر : 84 - 85 ] وكقوله في فرعون : { حَتَّىٰ إِذَآ أَدْرَكَهُ ٱلْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لاۤ إِلِـٰهَ إِلاَّ ٱلَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنوۤاْ إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ } [ يونس : 90 - 91 ] وقرأ هذا الحرف نافع فتخطفه بفتح الخاء وتشديد الطاء أصله فتتخطفه الطير بتاءين فحذفت إحداهما وقرأه غيره من السبعة فتخطفه الطير بإسكان الخاء وتخفيف الطاء مضارع خطفه بالكسر .