Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 22, Ayat: 45-45)
Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه أهلك كثيراً من القرى في حال كونها ظالمة : أي بسبب ذلك الظلم ، وهو الكفر بالله وتكذيب رسله ، فصارت بسبب الإهلاك والتدمير ديارها متهدمة وآبارها معطلة ، لا يسقي منها شيء لإهلاك أهلها الذين كانوا يستقون منها . وهذا المعنى الذي ذكره تعالى في هذه الآية : جاء موضحاً في آيات كثيرة كقوله تعالى : { وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً } [ الطلاق : 8 - 10 ] وقوله تعالى : { وَكَذٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ ٱلْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } [ هود : 102 ] وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري ، رضي الله عنه أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ثم قرأ صلى الله عليه وسلم { وَكَذٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ ٱلْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } " إلى غير ذلك من الآيات ، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : { فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا } العروش السقوف والخاوية الساقطة ومنه قول الخنساء : @ كان أبو حسان عرشاً خوى مما بناه الدهر دان ظليل @@ والمعنى : أن السقوف سقطت ثم سقطت عليها حيطانها على أظهر التفسيرات ، والقصر المشيد المطلي بالشيد بكسر الشين ، وهو الجص ، وقيل المشيد الرفيع الحصين . كقوله تعالى : { أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ ٱلْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } [ النساء : 78 ] أي حصون رفيعة منيعة . والظاهر أن قوله : { وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ } معطوف على قرية : أي وكأين من قرية أهلكناها ، وكم من بئر عطلناها بإهلاك أهلها ، وكم من قصر مشيد أخليناه من ساكنيه ، وأهلكناهم لما كفروا وكذبوا الرسل . وفي هذه الآية وأمثالها : تهديد لكفار قريش الذين كذبوه صلى الله عليه وسلم ، وتحذير لهم من أن ينزل بهم ما نزل بتلك القرى من العذاب لما كذبت رسلها . تنبيه : يظهر لطالب العلم في هذه الآية سؤال : وهو أن قوله : { فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا } يدل على تهدم أبنية أهلها ، وسقوطها وقوله : { وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ } يدل على بقاء أبنيتها قائمة مشيدة . قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الظاهر لي في جواب هذا السؤال : أن قصور القرى التي أهلكها الله ، وقت نزول هذه الآية منها ما هو متهدم كما دل عليه قوله : { فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا } ومنها ما هو قائم باق على بنائه ، كما دل عليه قوله تعالى : { وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ } وإنما استظهرنا هذا الجمع ، لأن القرآن دل عليه ، وخير ما يفسر به القرآن القرآن ، وذلك في قوله جل وعلا في سورة هود : { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ ٱلْقُرَىٰ نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ } [ هود : 100 ] فصرح في هذه الآية بأن منها قائماً ، ومنها حصيداً . وأظهر الأقوال وأجراها على ظاهر القرآن : أن القائم هو الذي لم يتهدم . والحصيد هو الذي تهدم وتفرقت أنقاضه . ونظيره من كلام العرب قوله : @ والناس في قسم المنية بينهم كالزرع منه قائم وحصيد @@ وفي معنى القائم والحصيد ، أقوال أخر غير ما ذكرنا ، ولكن ما ذكرنا هو أظهرها . وذكر الزمخشري ما يفهم منه وجه آخر للجمع ، وهو أن معنى قوله خاوية : خالية من أهلها من قوله : خوى المكان إذا خلا من أهله ، وأن معنى : على عروشها : أن الأبنية باقية أي هي خالية من أهلها مع بقاء عروشها قائمة على حيطانها . وما ذكرناه أولاً هو الصواب إن شاء الله تعالى . وقد دلت هذه الآية الكريمة وأمثالها في القرآن أن لفظ القرية : يطلق تارة على نفس الأبنية ، وتارة على أهلها الساكنين بها ، فالإهلاك في قوله : { أَهْلَكْنَاهَا } ، والظلم في قوله : { وَهِيَ ظَالِمَةٌ } : يراد به أهلها الساكنون بها وقوله : { فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا } يراد به الأبنية كما قال في آية : { وَٱسْأَلِ ٱلْقَرْيَةَ ٱلَّتِي كُنَّا فِيهَا } [ يوسف : 82 ] وقال في أخرى : { حَتَّىٰ إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ ٱسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا } [ الكهف : 77 ] . وقد بينا في رسالتنا المسماة منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز : أن ما يسميه البلاغيون مجاز النقص ، ومجاز الزيادة ، ليس بمجاز حتى عند جمهور القائلين بالمجاز من الأصوليين ، وأقمنا الدليل على ذلك ، وقرأ هذا الحرف ابن كثير : وكائن بألف بعد الكاف ، وبعد الألف همزة مكسورة ، فنون ساكنة وقرأه الباقون : وكأين بهمزة مفتوحة بعد الكاف بعدها ياء مكسورة مشددة فنون ساكنة . ومعنى القراءتين واحد ، فهما لغتان فصيحتان ، وقراءتان سبعيتان صحيحتان . وأبو عمرو يقف على الياء ، والباقون يقفون على النون ، وقرأ أبو عمرو : أهلكتها بتاء المتكلم المضمومة بعد الكاف من غير ألف ، والباقون بنون مفتوحة بعد الكاف ، وبعد النون ألف ، والمراد بصيغة الجمع ، على قراءة الجمهور التعظيم ، كما هو واضح ، وقرأ ورش والسوسي وبير بإبدال الهمزة ياء والباقون بالهمزة الساكنة . مسألة اعلم : أن كأين فيها لغات عديدة أفصحها الاثنتان اللتان ذكرناهما ، وكأين بفتح الهمزة والياء المكسورة المشددة أكثر في كلام العرب ، وهي قراءة الجمهور كما بينا ، وكأين بالألف والهمزة المكسورة أكثر في شعر العرب ، ولم يقرأ بها من السبعة غير ابن كثير كما بينا ، ومعنى كأين : كمعنى كم الخبرية ، فهي تدل على الإخبار بعدد كثير ومميزها له حالتان : الأولى : أن يجرّ بمن وهي لغة القرآن كقوله : { وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ } [ الحج : 48 ومحمد : 13 والطلاق : 8 ] وقوله { وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ } [ آل عمران : 146 ] الآية { وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [ يوسف : 105 ] الآية . ونظير ذلك من كلام العرب في جر مميز كأين بمن قوله : @ وكائن بالأباطح من صديق يراني لو أصيب هو المصابا @@ الحالة الثانية أن ينصب ومنه قوله : @ وكائن لنا فضلاً عليكم ومنة قديماً ولا تدرون ما من منعم @@ وقول الآخر : @ اطرد اليأس بالرجاء فكائن آلما حم يسره بعد عسر @@ قال في الخلاصة : @ ككم كأين وكذا وينتصب تمييز ذين أو به صل من تصب @@ أما الاستفهام بكأين فهو نادر ولم يثبته إلا ابن مالك ، وابن قتيبة ، وابن عصفور ، واستدل له ابن مالك بما روى عن أبي بن كعب أنه قال لابن مسعود : كأين تقرأ سورة الأحزاب آية فقال : ثلاثاً وسبعين اهـ . واختلف في كأين هل هي بسيطة أو مركبة وعلى أنها مركبة فهي مركبة من كاف التشبيه ، وأي المنونة ، قال بعضهم : ولأجل تركيبها جاز الوقف عليها بالنون في قراءة الجمهور ، لأن التنوين لما دخل في التركيب أشبه النون الأصلية ، ولهذا رسم في المصحف نوناً وقراءة أبي عمرو بالوقف على الياء لأجل اعتبار حكم التنوين في الأصل ، هو حذفه في الوقف . قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الأظهر عندي أن كأين بسيطة ، وأنها كلمة وضعتها العرب للإخبار بعدد كثير نحو : كم . إذ لا دليل يجب الرجوع إليه على أن أصلها مركبة ، ومن الدليل على أنها بسيطة : إثبات نونها في الخط لأن الأصل في نون التنوين عدم إثباتها في الخط ، ودعوى أن التركيب جعلها كالنون الأصلية دعوى مجردة عن الدليل . واختار أبو حيان أنها غير مركبة ، واستدل لذلك بتلاعب العرب بها في تعدد اللغات ، فإن فيها خمس لغات اثنتان منها قد قدمناهما ، وبينا أنهما قراءتان سبعيتان ، لأن إحداهما قرأ بها ابن كثير والأخرى قرأ بها الجمهور . واللغة الثالثة فيها : كأين بهمزة ساكنة فياء مكسورة ، والرابعة كيئن بياء ساكنة وهمزة مكسورة ، الخامسة : كأن بهمزة مفتوحة ونون ساكنة اهـ . ولقد صدق أبو حيان في أن التلاعب بلفظ هذه الكلمة إلى هذه اللغات يدل على أن أصلها بسيطة لا مركبة . والله تعالى أعلم . واعلم : أن ما يذكره كثير من المفسرين في تفسير هذه الآية الكريمة من أن البئر المعطلة ، والقصر المشيد معروفان ، , أنهما بحضرموت ، وأن القصر مشرف على تلة جبل لا يرتقي إليه بحال ، وأن البئر في سفحه لا تقر الرياح شيئاً سقط فيها إلا أخرجته ، وما يذكرونه أيضاً من أن البئر هي : الرس ، وأنها كانت بعدن باليمن بحضرموت في بلد يقال له : حضور ، وأنها نزل بها أربعة آلاف ممن آمنوا بصالح ، ونجوا من العذاب ومعهم صالح ، فمات صالح ، فسمي المكان حضرموت ، لأن صالحاً لما حضره مات فبنوا حضور وقعدوا على هذه البئر ، وأمروا عليهم رجلاً يقال له العلس بن جلاس بن سويد أو جلهس بن جلاس وكان حسن السيرة فيهم عاملاً عليهم ، وجعلوا وزيره سنجاريب بن سوادة ، فأقاموا دهراً ، وتناسلوا حتى كثروا ، وكانت البئر تسقي المدينة كلها وباديتها ، وجميع ما فيها من الدواب والغنم والبقر وغير ذلك ، لأنها كانت لها بكرات كثيرة منصوبة عليها ، ورجال كثيرون موكلون بها ، وحياض كثيرة حولها تملأ للناس وحياض للدواب وحياض للغنم ، وحياض للبقر ، ولم يكن لهم ماء غيرها ، وآل لهم الأمر إلى أن مات ملكهم وطلوا جثته بدهن يمنعها من التغيير ، وأن الشيطان دخل في جثته ، وزعم لهم أنه هو الملك ، وأنه لم يمت ولكنه تغيب عنهم ليرى صنيعهم وأمرهم أن يضربوا بينهم وبين الجثة حجاباً ، وكان الشيطان يكلمهم من جثة الملك من وراء حجاب لئلا يطلعوا على الحقيقة أنه ميت ، ولم يزل بهم حتى كفروا بالله تعالى فبعث الله إليهم نبياً اسمه : حنظلة بن صفوان يوحي إليه في النوم دون اليقظة ، فأعلمهم أن الشيطان أضلهم وأخبرهم أن ملكهم قد مات ، ونهاهم عن الشرك بالله ووعظهم ونصح لهم ، وحذرهم عقاب ربهم ، فقتلوا نبيهم المذكور في السوق ، وطرحوه في بئر فعند ذلك نزل بهم عقاب الله ، فأصبحوا والبئر غار ماؤها ، وتعطل رشاؤها فصاحوا بأجمعهم ، وضج النساء والصبيان حتى مات الجميع من العطش ، وأن تلك البئر هي البئر المعطلة في هذه الآية كله لا معول عليه ، لأنه من جنس الإسرائيليات ، وظاهر القرآن يدل على خلافه ، لأن قوله : { وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ } [ الحج : 48 و محمد : 13 والطلاق : 8 ] معناه . الإخبار بأن عدداً كبيراً من القرى أهلكهم الله بظلمهم ، وأن كثيراً من آبارهم بقيت معطلة بهلاك أهلها ، وأن كثيراً من القصور المشيدة بقيت بعد هلاك أهلها بدونهم ، لأن مميز كأين ، وإن كان لفظه مفرداً فمعناه يشمل عدداً كثيراً كما هو معلوم في محله . وقال أبو حيان في البحر المحيط وعن الإمام أبي القاسم الأنصاري قال : رأيت قبر صالح بالشام في بلدة يقال لها : عكا فكيف يكون بحضرموت ، ومعلوم أن ديار قوم صالح التي أهلكوا فيها معروفة يمر بها الذاهب من المدينة إلى الشام ، وقد قدمنا في سورة الحجر أن النَّبي صلى الله عليه وسلم مر بها في طريقه إلى تبوك في غزوة تبوك . ومن المستبعد أن يقطع صالح ، ومن آمن من قومه هذه المسافة البعيدة من أرض الحجر إلى حضرموت من غير داع يدعوه ويضطره إلى ذلك ، كما ترى . والعلم عند الله تعالى .