Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 22, Ayat: 8-9)

Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قال بعض أهل العلم أن الآية الأولى التي هي { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ } الحج 3 نازلة في الأتباع الجهلة الذين يجادلون بغير علم ، اتباعاً لرؤسائهم ، من شياطين الإنس والجن ، وهذه الآية الأخيرة في الرؤساء الدعاة إلى الضلال المتبوعين في ذلك ، ويدل لهذا أنه قال في الأولى { وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ } وقال في هذه { ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } فتبين بذلك أنه مضل لغيره ، متبوع في الكفر والضلال ، على قراءة الجمهور بضم ياء يضل . وأما على قراءة ابن كثير ، وأبي عمرو بفتح الياء ، فليس في الآية دليل على ذلك ، وقد قدمنا معنى جدال الكفرة في الله بغير علم ، فأغنى عن إعادته هنا . وقال بعض العلماء في قوله في هذه الآية الكريمة { بِغَيْرِ عِلْمٍ } أي بدون علم ضروري ، حاصل لهم بما يجادلون به { وَلاَ هُدًى } أي استدلال ، ونظر عقلي ، يهتدي به العقل للصواب { وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ } أي وَحْي نير واضح ، يعلم به ما يجادل به ، فليس عنده علم ضروري ولا علم مكتسب بالنظر الصحيح العقلي ، ولا علم من وَحْي ، فهو جاهل محض من جميع الجهات ، وقوله { ثَانِيَ عِطْفِهِ } حال من ضمير الفاعل المستكن في يجادل أي يخاصم بالباطل في حال كونه ثاني عطفه أي لاوي عنقه عن قبول الحق استكباراً وإعراضاً . فقوله ثاني اسم فاعل ثَنْى الشيء إذا لواه ، وأصل العطف الجانب ، وعطفا الرجل جانباه من لدن رأسه إلى وركيه ، تقول العرب ثنى فلان عنك عطفه تعني أعرض عنك . وإنما عبر العلماء هنا بالعنق فقالوا ثاني عطفه لاوي عنقه مع أن العطف يشمل العنق وغيرها ، لأن أول ما يظهر فيه الصدود عنق الإنسان ، يلويها ، ويصرف وجهه عن الشيء بليها . والمفسرون يقولون إن اللام في قوله { لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } ونحوها من الآيات مما لم تظهر فيه العلة الغائية ، كقوله { فَٱلْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } القصص 8 الآية . ونحو ذلك لام العاقبة ، والبلاغيون يزعمون أن في ذلك استعارة تبعية ، في معنى الحرف . وقد وعدنا بإيضاح ذلك في سورة القصص . ونقول هنا إن الظاهر في ذلك أن الصواب فيه غير ما ذكروا ، وأن اللام في الجميع لام التعليل ، والمعنى واضح لا إشكال فيه كما نبه عليه الحافظ ابن كثير رحمه الله في مواضع من تفسيره . وإيضاح ذلك أن الله هو الذي قدر على الكافر في أزله أن يجادل في الله بغير علم في حال كونه لاوي عنقه إعراضاً عن الحق ، واستكباراً . وقد قدر عليه ذلك ليجعله ضالاً مضلاً . وله الحكمة البالغة في ذلك ، كقوله { إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ } الكهف 57 أي لئلا يفقهوه . وكذلك { فَٱلْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ } القصص 8 الآية أي قدر الله عليهم أن يلتقطوه ، لأجل أن يجعله لهم عدواً وحزناً . وهذا واضح لا إشكال فيه كما ترى . وما ذكره جل وعلا في هذه الآية من إعراض بعض الكفار عن الحق واستكبارهم أوضحه في آيات أخر من كتاب الله ، كقوله تعالى { وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّىٰ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا } لقمان 7 وقوله تعالى { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ ٱللَّهِ لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ } المنافقون 5 وقوله تعالى { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ رَأَيْتَ ٱلْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودا } النساء 61 وقوله تعالى عن لقمان في وصيته لابنه { وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ } لقمان 18 الآية أي لا تمل وجهك عنهم ، استكباراً عليهم . وقوله تعالى عن فرعون { وَفِي مُوسَىٰ إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ فَتَوَلَّىٰ بِرُكْنِهِ } الذاريات 38 - 39 فقوله { فَتَوَلَّىٰ بِرُكْنِهِ } بمعنى ثنى عطفه . وقوله تعالى { وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى ٱلإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ } فصلت 51 الآية إلى غير ذلك من الآيات وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة { لَهُ فِي ٱلدُّنْيَا خِزْيٌ } أي ذل وإهانة . وقد أذل الله الذين جادلوا في الله بغير علم ، ولا هدى ، ولا كتاب منير كأبي جهل بن هشام ، والنضر بن الحارث بالقتل يوم بدر . ويفهم من هذه الآية الكريمة أن من ثنى عطفه استكباراً عن الحق وإعراضاً عنه عامله الله بنقيض قصده فأذله وأهانه . وذلك الذل والإهانة نقيض ما كان يؤمله من الكبر والعظمة . وهذا المفهوم من هذه الآية دلت عليه آيات أخر كقوله تعالى { إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّـا هُم بِبَالِغِيه } غافر 56 وقوله في إبليس لما استكبر { فَٱهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَٱخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ ٱلصَّاغِرِينَ } الأعراف 13 والصغار الذل والهوان ، عياذاً بالله من ذلك ، كما قدمنا إيضاحه . وقوله { وَنُذِيقُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ } أين حرقه بالنار ، ونذيقه ألم حرها يوم القيامة وسمى يوم القيامة لأن الناس يقومون فيه له جل وعلا ، كما قال تعالى { أَلا يَظُنُّ أُوْلَـٰئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ ٱلنَّاسُ لِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } المطففين 4 - 6 .