Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 25, Ayat: 67-67)

Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قرأ هذا الحرف نافع وابن عامر : ولم يقتروا بضم الياء المثناة التحتية وكسر التاء مضارع أقتر الرباعي ، وقرأه ابن كثير وأبو عمرو : ولم يقتروا بفتح المثناة التحتية ، وكسر المثناة الفوقية مضارع قتر الثلاثي كضرب ، وقرأه عاصم وحمزة ، والكسائي ، ولم يقتروا بفتح المثناة التحتية ، وضم المثناة الفوقية مضارع قتر الثلاثي كنصر ، والإقتار على قراءة نافع وابن عامر ، والقتر على قراءة الباقين معناهما واحد ، وهو التضييق المخل بسد الخلة اللازم ، والإسراف في قوله تعالى : لم يسرفوا ، مجاوزة الحد في النفقة . واعلم أن أظهر الأقوال في هذه الآية الكريمة ، أن الله مدح عباده الصالحين بتوسطهم في إنفاقهم ، فلا يجاوزون الحد بالإسراف في الإنفاق ، ولا يقترون أي لا يضيقون فيبخلون بإنفاق القدر اللازم . وقال بعض أهل العلم : الإسراف في الآية : الإنفاق في الحرام والباطل ، والاقتار منع الحق الواجب ، وهذا المعنى وإن كان حقاً فالأظهر في الآية هو القول الأول . قال ابن كثير رحمه الله { وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ } الآية : أي ليسوا مبذرين في إنفاقهم ، فيصرفوا فوق الحاجة ، ولا بخلاء على أهليهم ، فيقصروا في حقهم فلا يكفوهم بل عدلاً خياراً ، وخير الأمور أوسطها ، لا هذا ، ولا هذا . انتهى محل الغرض منه . وقوله تعالى : { وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } أي بين ذلك المذكور من الإسراف والقتر . قواماً : أي عدلاً وسطاً سالماً من عيب الإسراف والقتر . وأظهر أوجه الإعراب عندي في الآية هو ما ذكره القرطبي ، قال : وقواماً خبر كان واسمها مقدر فيها أي كان الإنفاق بين الإسراف والقتر قواماً ، ثم قال قاله الفراء ، وباقي أوجه الإعراب في الآية ليس بوجيه عندي كقول من قال : إن لفظة بين هي اسم كان ، وأنها لم ترفع لبنائها بسبب إضافتها إلى مبني ، وقول من قال : إن بين هي خبر كان ، وقواماً حال مؤكدة له ومن قال إنهما خبران كل ذلك ليس بوجيه عندي ، والأظهر الأول . والظاهر أن التوسط في الإنفاق الذي مدحهم به شامل لإنفاقهم على أهليهم ، وإنفاقهم المال في أوجه الخير . وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة جاء موضحاً في غير هذا الموضع ، فمن ذلك أن الله أوصى نبيه صلى الله عليه وسلم بالعمل بمقتضاه في قوله تعالى : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ } [ الإسراء : 29 ] الآية ، فقوله : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ } أي ممسكة عن الإنفاق إمساكاً كلياً ، يؤدي معنى قوله هنا ولم يقتروا . وقوله : ولا تبسطها كل البسط ، يؤدي معنى قوله هنا : لم يسرفوا . وأشار تعالى إلى هذا المعنى في قوله : { وَآتِ ذَا ٱلْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَٱلْمِسْكِينَ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً } [ الإسراء : 26 ] الآية ، وقوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ ٱلْعَفْوَ } [ البقرة : 219 ] الآية . على أصح التفسيرين . وقد أوضحنا الآيات الدالة على هذا المعنى في أول سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى : { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [ البقرة : 3 ] . مسألة هذه الآية الكريمة التي هي قوله تعالى : { وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ } الآية والآيات التي ذكرناها معها ، قد بينت أحد ركني ما يسمى الآن بالاقتصاد . وإيضاح ذلك أنه لا خلاف بين العقلاء أن جميع مسائل الاقتصاد على كثرتها واختلاف أنواعها راجعة بالتقسيم الأول إلى أصلين لا ثالث لهما . الأول منهما : اكتساب المال . والثاني منهما : صرفه من مصارفه ، وبه تعلم أن الاقتصاد عمل مزدوج ، ولا فائدة في واحد من الأصلين المذكورين إلا بوجود الآخر ، فلو كان الإنسان أحسن الناس نظراً في أوجه اكتساب المال إلا أنه أخرق جاهل بأوجه صرفه ، فإن جميع ما حصل من المال يضيع عليه بدون فائدة ، وكذلك إذا كان الإنسان أحسن الناس نظراً في صرف المال في مصارفه المنتجة إلا أنه أخرق جاهل بأوجه اكتسابه . فإنه لا ينفعه حسن نظره في الصرف مع أنه لم يقدر على تحصيل شيء يصرفه . والآيات المذكورة أرشدت الناس ونبهتهم على الاقتصاد في الصرف . وإذا علمت أن مسائل الاقتصاد كلها راجعة إلى الأصلين المذكورين ، وأن الآيات المذكورة دلت على أحدهما فاعلم أن الآخر منهما هو اكتساب المال أرشدت إليه آيات أخر دلت على فتح الله الأبواب إلى اكتساب المال بالأوجه اللائقة ، كالتجارات ، وغيرها كقوله تعالى : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } [ البقرة : 198 ] ، وقوله تعالى : { فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلاَةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَٱبْتَغُواْ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ } [ الجمعة : 10 ] ، وقوله تعالى : { عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَىٰ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي ٱلأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ } [ المزمل : 20 ] ، والمراد بفضل الله في الآيات المذكورة ربح التجارة ، وكقوله تعالى : { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ } [ النساء : 29 ] ، وقد قدمنا في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى : { فَٱبْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَـٰذِهِ إِلَىٰ ٱلْمَدِينَةِ } [ الكهف : 19 ] الآية . أنواع الشركات ، وأسماءها ، وبينا ما يجوز منها ، وما لا يجوز عند الأئمة الأربعة وأوضحنا ما اتفقوا على منعه ، وما اتفقوا على جوازه ، وما اختلفوا فيه ، وبه تعلم كثرة الطرق التي فتحها الله لاكتساب المال بالأوجه الشرعية اللائقة . وإذا علمت مما ذكرنا أن جميع مسائل الاقتصاد راجعة إلى أصلين هما اكتساب المال وصرفه في مصارفه . فاعلم أن كل واحد من هذين الأصلين ، لا بد له من أمرين ضروريين له : الأول منهما : معرفة حكم الله فيه ، لأن الله جل وعلا لم يبح اكتساب المال بجميع الطرق التي يكتسب بها المال ، بل أباح بعض الطرق ، وحرم بعضها كما قال تعالى : { وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلْبَيْعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَا } [ البقرة : 275 ] ، ولم يبح الله جل وعلا ، صرف المال في كل شيء بل أباح بعض الصرف وحرم بعضه ، كما قال تعالى : { مَّثَلُ ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ } [ البقرة : 261 ] الآية . وقال تعالى في الصرف الحرام : { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً } [ الأنفال : 36 ] الآية ، فمعرفة حكم الله في اكتساب المال وفي صرفه في مصارفه أمر ضروري لا بد منه ، لأن من لم يعلم ذلك قد يكتسب المال من وجه حرام ، والمال المكتسب من وجه حرام ، لا خير فيه البتة ، وقد يصرف المال في وجه حرام ، وصرفه في ذلك حسرة على صاحبه . الأمر الثاني : هو معرفة الطريق الكفيلة باكتساب المال ، فقد يعلم الإنسان مثلاً أن التجارة في النوع الفلاني مباحة شرعاً ، ولكنه لا يعلم أوجه التصرف بالمصلحة الكفيلة بتحصيل المال ، من ذلك الوجه الشرعي ، وكم من متصرف يريد الربح ، فيعود عليه تصرفه بالخسران ، لعدم معرفته بالأوجه التي يحصل بها الربح . وكذلك قد يعلم الإنسان أن الصرف في الشيء الفلاني مباح ، وفيه مصلحة ، ولكنه لا يهتدي إلى معرفة الصرف المذكور ، كما هو مشاهد في المشاريع الكثيرة النفع إن صرف فيها المال بالحكمة والمصلحة ، فإن جواز الصرف فيها معلوم ، وإيقاع الصرف على وجه المصلحة ، لا يعلمه كل الناس . وبهذا تعلم أن أصول الاقتصاد الكبار أربعة : الأول : معرفة حكم الله في الوجه الذي يكتسب به المال ، واجتناب الاكتساب به ، إن كان محرماً شرعاً . الثاني : حسن النظر في اكتساب المال بعد معرفة ما يبيحه خالق السماوات والأرض ، وما لا يبيحه . الثالث : معرفة حكم الله في الأوجه التي يصرف فيها المال ، واجتناب المحرم منها . الرابع : حسن النظر في أوجه الصرف ، واجتناب ما لا يفيد منها ، فكل من بنى اقتصاده على هذه الأسس الأربعة كان اقتصاده كفيلاً بمصلحته ، وكان مرضياً لله جل وعلا ، ومن أخل بواحد من هذه الأسس الأربعة كان بخلاف ذلك ، لأن من جمع المال بالطرق التي لا يبيحها الله جل وعلا فلا خير في ماله ، ولا بركة كما قال تعالى : { يَمْحَقُ ٱللَّهُ ٱلْرِّبَا وَيُرْبِي ٱلصَّدَقَاتِ } [ البقرة : 276 ] وقال تعالى : { قُل لاَّ يَسْتَوِي ٱلْخَبِيثُ وَٱلطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ ٱلْخَبِيثِ } [ المائدة : 100 ] الآية . وقد تكلمنا على مسائل الربا في آية الربا في سورة البقرة وتكلمنا على أنواع الشركات وأسمائها ، وبينا ما يجوز منها وما لا يجوز في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى : { فَٱبْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَـٰذِهِ إِلَىٰ ٱلْمَدِينَةِ } [ الكهف : 19 ] الآية . ولا شك أنه يلزم المسلمين في أقطار الدنيا التعاون على اقتصاد يجيزه خالق السماوات والأرض ، على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، ويكون كفيلاً بمعرفة طرق تحصيل المال بالأوجه الشرعية ، وصرفه في مصارفه المنتجة الجائزة شرعاً لأن الاقتصاد الموجود الآن في أقطار الدنيا لا يبيحه الشرع الكريم ، لأن الذين نظموا طرقه ليسوا بمسلمين ، فمعاملات البنوك والشركات لا تجد شيئاً منها يجوز شرعاً ، لأنها إما مشتملة على زيادات ربوية ، أو على غرر ، لا تجوز معه المعاملة كأنواع التأمين المتعارفة عند الشركات اليوم في اقطار الدنيا ، فإنك لا تكاد تجد شيئاً منها سالماً من الغرر ، وتحريم بيع الغرر ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن المعلوم أن من يدعي إباحة أنواع التأمين المعروفة عند الشركات ، من المعاصرين أنه مخطئ في ذلك ، ولأنه لا دليل معه بل الأدلة الصحيحة على خلاف ما يقول ، والعلم عند الله تعالى .