Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 26, Ayat: 215-215)

Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة المائدة في الكلام على قوله تعالى : { فَسَوْفَ يَأْتِي ٱللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } [ المائدة : 54 ] وفي الحجر في الكلام على قوله تعالى : { وَٱخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ } [ الحجر : 88 ] وقد وعدنا في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى : { وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } [ الإسراء : 23 ] بأنا نوضح معنى خفض الجناح ، وإضافته إلى الذل في سورة الشعراء في هذا الموضع ، وهذا وفاؤنا بذلك الوعد ، ويكفينا في الوفاء به أن ننقل كلامنا في رسالتنا المسماة : منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز . فقد قلنا فيها ما نصه : والجواب عن قوله تعالى : { وَٱخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ } [ الإسراء : 24 ] أن الجناح هنا مستعمل في حقيقته ، لأن الجناح يطلق لغة حقيقة على يد الإنسان وعضده وإبطه . قال تعالى : { وَٱضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ ٱلرَّهْبِ } [ القصص : 32 ] ، والخفض مستعمل في معناه الحقيقي ، الذي هو ضد الرفع ، لأن مريد البطش يرفع جناحيه ، ومظهر الذل ، والتواضع بخفض جناحيه ، فالأمر بخفض الجناح للوالدين كناية عن لين الجانب لهما ، والتواضع لهما كما قال لنبيه صلى الله عليه وسلم { وَٱخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } وإطلاق العرب خفض الجناح كناية عن التواضع ، ولين الجانب . أسلوب معروف ومنه قول الشاعر : @ وأنت الشهير بخفض الجنا ح فلا تك في رفعه أجدلا @@ وأما إضافة الجناح إلى الذل ، فلا تستلزم المجاز كما يظنه كثير ، لأن الإضافة فيه كالإضافة في قولك : حاتم الجود . فيكون المعنى : واخفض لهما الجناح الذليل من الرحمة ، أو الذلول على قراءة الذل بالكسر ، وما يذكر عن أبي تمام من أنه لما قال : @ لا تسقني ماء الملام فإنني صب قد استعذبت ماء بكائي @@ جاءه رجل فقال له : صب لي في هذا الإناء شيئاً من ماء الملام ، فقال له : إن أتيتني بريشة من جناح الذل صببت لك شيئاً من ماء اللمام فلا حجة فيه ، لأن الآية لا يراد بها أن للذل جناحاً ، وإنما يراد بها خفض الجناح المتصف بالذل للوالدين من الرحمة بهما ، وغاية ما في ذلك إضافة الموصوف إلى صفته كحاتم الجود ، ونظيره في القرآن الإضافة في قوله : { مَطَرَ ٱلسَّوْءِ } [ الفرقان : 40 ] و { عَذَابَ ٱلْهُونِ } [ الأنعام : 93 ] أي مطر حجارة السجيل الموصوف بسوئه من وقع عليه ، وعذاب أهل النار الموصوف بهون من وقع عليه . والمسوغ لإضافة خصوص الجناح إلى الذل مع أن الذل من صفة الإنسان لا من صفة خصوص الجناح ، أن خفض الجناح كنى به عن ذل الإنسان ، وتواضعه ولين جانبه لوالديه رحمة بهما ، وإسناد صفات الذات لبعض أجزائها من أساليب اللغة العربية كإسناد الكذب ، والخطيئة إلى الناصية في قوله تعالى : { نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ } [ العلق : 16 ] ، وكإسناد الخشوع ، والعمل والنصب إلى الوجوه في قوله تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةُ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ } [ الغاشية : 2ـ3 ] ، وأمثال ذلك كثيرة في القرآن ، وفي كلام العرب . وهذا هو الظاهر في معنى الآية ، ويدل عليه كلام السلف من المفسرين . وقال العلامة ابن القيم رحمه الله في الصواعق : إن معنى إضافة الجناح إلى الذل أن للذل جناحاً معنوياً يناسبه لا جناح ريش والله تعالى أعلم . انتهى . وفيه إيضاح معنى خفض الجناح . والتحقيق : أن إضافة الجناح إلى الذل من إضافة الموصوف إلى صفته كما أوضحنا . والعلم عند الله تعالى . وقال الزمخشري في الكشاف في تفسير قوله تعالى : { لِمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } ، فإن قلت : المتبعون للرسول هم المؤمنون ، والمؤمنون هم المتبعون للرسول فما قوله : { لِمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } ؟ قلت : فيه وجهان ؛ أن يسميهم قبل الدخول في الإيمان مؤمنين ، لمشارفتهم ذلك ، وأن يريد بالمؤمنين المصدقين بألسنتهم وهم صنفان : صنف صدق واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به ، وصنف لم يوجد منهم إلا التصديق فحسب ، ثم إما أن يكونوا منافقين أو فاسقين ، والمنافق والفاسق ، لا يخفض لهما الجناح . والمعنى : المؤمنين من عشيرتك وغيرهم ، أي أنذر قومك فإن اتبعوك ، وأطاعوك فاخفض لهم جناحك ، وإن عصوك ولم يتبعوك فتبرأ منهم ومن أعمالهم من الشرك بالله وغيره . انتهى منه . والأظهر عندي في قوله : { لِمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } أنه نوع من التوكيد يكثر مثله في القرآن العظيم كقوله : { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم } [ آل عمران : 167 ] الآية . ومعلوم أنهم إنما يقولون بأفواههم وقوله تعالى : { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ ٱلْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ } [ البقرة : 79 ] ومعلوم أنهم إنما يكتبونه بأيديهم ، وقوله تعالى : { وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام : 38 ] ، وقوله تعالى : { حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ } [ البقرة : 109 ] إلى غير ذلك من الآيات .