Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 38, Ayat: 3-3)
Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
كم هنا هي الخبرية ، ومعناها الإخبار عن عدد كثير ، وهي في محل نصب ، على أنها مفعول به لأهلكنا وصيغة الجمع في أهلكنا للتعظيم ، ومن في قوله : من قرن ، مميزة لكم ، والقرن يطلق على الأمة وعلى بعض من الزمن ، أشهر الأقوال فيه أنه مائة سنة ، والمعنى أهلكنا كثيراً من الأمم السالفة من أجل الكفر ، وتكذيب الرسل فعليكم أن تحذروا يا كفار مكة من تكذيب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الكفر بما جاء به لئلا نهلككم بسبب ذلك كما أهلكنا به القرون الكثيرة الماضية . وقد ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة ثلاث مسائل : الأولى : أنه أهلك كثيراً من القرون الماضية ، يهدد كفار مكة بذلك . الثانية : أنهم نادوا أي عند معاينة أوائل الهلاك . الثالثة : أن ذلك الوقت الذي هو وقت معاينة العذاب ليس وقت نداء ، أي فهو وقت لا ملجأ فيه ، ولا مفر من الهلاك بعد معاينته . وقد ذكر جل وعلا هذه المسائل الثلاث المذكورة هنا موضحة في آيات كثيرة من كتابه . أما المسألة الأولى : وهي كونه أهلك كثيراً من الأمم ، فقد ذكرها في آيات كثيرة ، كقوله تعالى : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ ٱلْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ } [ الإسراء : 17 ] وقوله تعالى : { فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ } [ الحج : 45 ] الآية . وقوله تعالى : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَٱلَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ ٱللَّهُ } [ ابراهيم : 9 ] الآية . والآيات بمثل ذلك كثيرة . وقد ذكر جل وعلا في آيات كثيرة أن سبب إهلاك تلك الأمم الكفر بالله وتكذيب رسله كقوله في هذه الآية الأخيرة مبيناً سبب إهلاك تلك الأمم التي صرح بأنها ( لا يعلمها إلا الله ) { جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِٱلْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوۤاْ أَيْدِيَهُمْ فِيۤ أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوۤاْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ } [ ابراهيم : 9 ] . وقد قدمنا في الكلام على هذه الآية من سورة إبراهيم ، أقوال العلم في قوله تعالى : { فَرَدُّوۤاْ أَيْدِيَهُمْ فِيۤ أَفْوَاهِهِمْ } [ إبراهيم : 9 ] وبينا دلالة القرآن على بعضها ، وكقوله تعالى { وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً } [ الطلاق : 8ـ9 ] وقوله تعالى : { وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُواْ ٱلرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً } [ الفرقان : 37 ] إلى قوله تعالى : { وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَأَصْحَابَ ٱلرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ ٱلأَمْثَالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنَا تَتْبِيراً } [ الفرقان : 38ـ39 ] وقوله تعالى : { إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ ٱلرٌّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ } [ ص : 14 ] وقوله تعالى : { كُلٌّ كَذَّبَ ٱلرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ } [ ق : 14 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة . وقد بين تعالى أن المراد بذكر إهلاك الأمم الماضية بسبب الكفر وتكذيب الرسل تهديد كفار مكة ، وتخويفهم من أن ينزل بهم مثل ما نزل بأولئك إن تمادوا على الكفر وتكذيبه صلى الله عليه وسلم . ذكر تعالى ذلك في آيات كثيرة كقوله تعالى : { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا } [ محمد : 10 ] لأن قوله تعالى : { وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا } تهديد عظيم بذلك . وقوله تعالى : { جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ } [ هود : 82ـ83 ] فقوله : وما هي من الظالمين ببعيد فيه تهديد عظيم لمن يعمل عمل قوم لوط من الكفر وتكذيب نبيهم ، وفواحشهم المعروفة ، وقد وبخ تعالى من لم يعتبر بهم ، ولم يحذر أن ينزل به مثل ما نزل بهم ، كقوله في قوم لوط : { وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ وَبِٱلْلَّيْلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [ الصافات : 137ـ138 ] وقوله تعالى : { وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى ٱلْقَرْيَةِ ٱلَّتِيۤ أُمْطِرَتْ مَطَرَ ٱلسَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُواْ يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً } [ الفرفان : 40 ] . وقوله تعالى : { وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَآ آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [ العنكبوت : 35 ] . وقوله فيهم : { وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ } [ الحجر : 76 ] . وقوله فيهم وفي قوم شعيب { وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ } [ الحجر : 79 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة . وأما المسألة الثانية : وهي نداؤهم إذا أحسوا بأوائل العذاب فقد ذكر تعالى في آيات من كتابه نوعين من أنواع ذلك النداء . أحدهما : نداؤهم باعترافهم أنهم كانوا ظالمين ، وذلك في قوله تعالى : { وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ إِذَا هُمْ مِّنْهَا يَرْكُضُونَ } [ الأنبياء : 11 ] إلى قوله تعالى : { قَالُواْ يٰوَيْلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّىٰ جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ } [ الأنبياء : 14ـ15 ] وقوله تعالى : { وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَآ إِلاَّ أَن قَالُوۤاْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِين } [ الأعراف : 4ـ5 ] . الثاني : من نوعي النداء المذكور نداؤهم بالإيمان بالله مستغيثين من ذلك العذاب الذي أحسوا أوائله ، كقوله تعالى : { فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُوۤاْ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَحْدَهُ وَكَـفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا سُنَّةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ ٱلْكَافِرُون } [ غافر : 84ـ85 ] وهذا النوع الأخير هو الأنسب والأليق بالمقام ، لدلالة قوله : { وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ } [ ص : 3 ] عليه . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة { وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ } الذي هو المسألة الثالة ، معناه : ليس الحين الذي نادوا فيه ، وهو وقت معاينة العذاب ، حين مناص ، أي ليس حين فرار ولا ملجأ من ذلك العذاب الذي عاينوه . فقوله : ولات هي لا النافية زيدت بعدها تاء التأنيث اللفظية كما زيدت في ثم ، فقيل فيها ثمت ، وفي رب ، فقيل فيها ربت . وأشهر أقوال النحويين فيها ، أنها تعمل عمل ليس وأنها لا تعمل إلا في الحين خاصة ، أو في لفظ الحين ونحوه من الأزمنة ، كالساعة والأوان ، وأنها لا بد أن يحذف اسمها أو خبرها والأكثر حذف المرفوع منهما وإثبات المنصوب ، وربما عكس ، وهذا قول سيبويه وأشار إليه ابن مالك في الخلاصة بقوله : @ في النكرات أعملت كليس " لا " وقد تلى " لات " و " إن " ذا العملا وما للات في سوى حين عمل وحذف ذي الرفع فشا والعكس قل @@ والمناص مفعل من النوص ، والعرب تقول : ناصه ينوصه إذا فاته وعجز عن إدراكه ، ويطلق المناص على التأخر لأن من تأخر ومال إلى ملجأ ينقذه مما كان يخافه فقد وجد المناص . والمناص والملجأ والمفر والموئل معناها واحد ، والعرب تقول : استناص إذا طلب المناص ، أي السلامة والمفر مما يخافه ، ومنه قول حارثة بن بدر : @ غمر الجراء إذا قصرت عنانه بيدي استناص ورام جري المسحل @@ والأظهر أن إطلاق النوص على الفوت والتقدم ، وإطلاقه على التأخر والروغان كلاهما راجع إلى شيء واحد . لأن المناص مصدر ميمي معناه المنطبق على جزئياته ، أن يكون صاحبه في كرب وضيق ، فيعمل عملاً ، يكون به خلاصه ونجاته من ذلك . فتارة يكون ذلك العمل بالجري والإسراع أمام من يريده بالسوء ، وتارة يكون بالتأخر والروغان حتى ينجو من ذلك . والعرب تطلق النوص على التأخر . والبوص بالباء الموحدة التحتية على التقدم ، ومنه قول امرئ القيس : @ أمن ذكر سلمى إذ نأتك تنوص فتقصر عنها خطوة وتبوص @@ وأصوب الأقوال في لات أن التاء منفصلة عن حين وأنها تعمل عمل ليس خلافاً لمن قال : إنها تعمل عمل إن ، ولمن قال : إن التاء متصلة بحين وأنه رآها في الإمام ، وهو مصحف أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه متصلة بها . وعلى قول الجمهور منهم القراء السبعة ، أن التاء ليست موصولة بحين ، فالوقف على لات بالتاء عند جميعهم ، إلا الكسائي فإنه يقف عليها بالهاء . أما قراءة كسر التاء وضمها فكلتاهما شاذة لا تجوز القراءة بها ، وكذلك قراءة كسر النون من حين ، فهي شاذة لا تجوز ، مع أن تخريج المعنى عليها مشكل . وتعسف له الزمخشري وجهاً لا يخفى سقوطه ، ورده عليه أبو حيان في البحر المحيط ، واختار أبو حيان أن تخريج قراءة الكسر أن حين مجرورة بمن محذوفة . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة { فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ } أصل النداء : رفع الصوت ، والعرب تقول : فلان أندى صوتاً من فلان ، أي أرفع ، ومنه قوله : @ فقلت ادعى وأدعو إن أندا لصوت أن ينادي داعيان @@ وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الأمم الماضية المهلكة ينادون عند معاينة العذاب ، وأن ذلك الوقت ليس وقت نداء إذ لا ملجأ فيه ولا مفر ولا مناص . ذكره في غير هذا الموضع كقوله تعالى : { فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُوۤاْ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَحْدَهُ وَكَـفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } [ غافر : 84ـ85 ] الآية . وقوله تعالى : { فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ إِذَا هُمْ مِّنْهَا يَرْكُضُونَ لاَ تَرْكُضُواْ وَٱرْجِعُوۤاْ إِلَىٰ مَآ أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ قَالُواْ يٰوَيْلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّىٰ جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ } [ الأنبياء : 12ـ15 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقد بين تعالى وقوع مثل ذلك في يوم القيامة في آيات من كتابه تعالى : { ٱسْتَجِيبُواْ لِرَبِّكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَكُمْ مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ } [ الشورى : 47 ] . وقوله تعالى : { فَإِذَا بَرِقَ ٱلْبَصَرُ وَخَسَفَ ٱلْقَمَرُ وَجُمِعَ ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ يَقُولُ ٱلإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ ٱلْمَفَرُّ كَلاَّ لاَ وَزَرَ } [ القيامة : 7ـ11 ] والوزر : الملجأ ، ومنه قول حسان بن ثابت رضي الله عنه @ والناس إلب علينا فيك ليس لنا إلا الرماح وأطراف القنا وزر @@ وكقوله تعالى : { بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً } [ الكهف : 58 ] والموئل اسم مكان من وأل يئل إذا وجد ملجأ يعتصم به ، ومنه قول الأعشى ميمون بن قيس : @ وقد أخالس رب البيت غفلته وقد يحاذر مني ثم مائيل @@ أي ثم ما ينجو