Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 43, Ayat: 20-20)

Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

في هذه الآية الكريمة إشكال معروف ، ووجهه أن قول الكفار الذي ذكره الله عنهم هنا ، أعني قوله تعالى { وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ ٱلرَّحْمَـٰنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ } [ الزخرف : 20 ] ، هو بالنظر إلى ظاهره كلام صحيح ، لأن الله لو شاء أن يعبدوهم ما عبدوهم ، كما قال تعالى { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشْرَكُوا } [ الأنعام : 107 ] ، وقال تعالى : { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى ٱلْهُدَىٰ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ } [ الأنعام : 35 ] ، وقال تعالى : { وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا } [ السجدة : 13 ] الآية . وقال تعالى : { فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } [ الأنعام : 149 ] ، وقال تعالى : { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي ٱلأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [ يونس : 99 ] . وهذا الإشكال المذكور في آية الزخرف هو بعينه واقع في آية الأنعام ، وآية النحل . أما آية الأنعام فهي قوله : { سَيَقُولُ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ } [ الأنعام : 148 ] . وأما آية النحل ، فهي قوله : { وَقَالَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلاۤ آبَاؤُنَا } [ النحل : 35 ] الآية . فإذا عرفت أن ظاهر آية الزخرف وآية الأنعام ، وآية النحل : أن ما قاله الكفار حق ، وأن الله لو شاء ما عبدوا من دونه من شيء ولا أشركوا به شيئاً ، كما ذكرنا في الآيات الموضحة قريباً . فاعلم أن وجه الإشكال ، أن الله صرح بكذبهم في هذه الدعوى التي ظاهرها حق ، قال في آية الزخرف : { مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } [ الزخرف : 20 ] أي يكذبون ، وقال في آية الأنعام { كَذٰلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّىٰ ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ } [ الأنعام : 148 ] ، وقال في آية النحل { كَذٰلِكَ فَعَلَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى ٱلرُّسُلِ إِلاَّ ٱلْبَلاغُ ٱلْمُبِينُ } [ النحل : 35 ] . ومعلوم أن الذي فعله الذين من قبلهم ، هو الكفر بالله والكذب على الله ، في جعل الشركاء له وأنه حرم ما لم يحرمه . والجواب عن هذا أن مراد الكفار بقولهم { لَوْ شَآءَ ٱلرَّحْمَـٰنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ } [ الزخرف : 20 ] وقولهم { لَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا } [ الأنعام : 148 ] مرادهم به أن الله لما كان قادراً على منعهم من الشرك ، وهدايتهم إلى الإيمان ولم يمنعهم من الشرك . دل ذلك على أنه راض منهم بالشرك في زعمهم . قالوا لأنه لو لم يكن راضياً به ، لصرفنا عنه ، فتكذيب الله لهم في الآيات المذكورة منصب على دعواهم أنه راض به ، والله جل وعلا يكذب هذه الدعوى في الآيات المذكورة وفي قوله { وَلاَ يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ ٱلْكُفْرَ } [ الزمر : 7 ] . فالكفار زعموا أن الإرادة الكونية القدرية ، تستلزم الرضى وهو زعم باطل ، وهو الذي كذبهم الله فيه من الآيات المذكورة . وقد أشار تعالى إلى هذه الآيات المذكورة ، حيث قال في آية الزخرف : { أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ } [ الزخرف : 21 ] أي آتيناهم كتاباً يدل على أنا رضوان منهم بذلك الكفر ، ثم أضرب عن هذا إضراب إبطال مبيناً أن مستندهم في تلك الدعوى الكاذبة هو تقليد آبائهم التقليد الأعمى ، وذلك في قوله { بَلْ قَالُوۤاْ إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ } [ الزخرف : 22 ] أي شريعة وملة وهي الكفر وعبادة الأوثان { وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ } [ الزخرف : 22 ] . فقوله عنهم مهتدون هو مصب التكذيب ، لأن الله إنما يرضى بالاهتداء لا بالضلال . فالاهتداء المزعوم أساسه تقليد الآباء الأعمى ، وسيأتي إيضاح رده عليهم قريباً إن شاء الله . وقال تعالى في آية النحل بعد ذكره دعواهم المذكورة : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجْتَنِبُواْ ٱلْطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى ٱللَّهُ وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ ٱلضَّلالَةُ } [ النحل : 36 ] . فأوضح في هذه الآية الكريمة أنه لم يكن راضياً بكفرهم ، وأنه بعث في كل أمة رسولاً ، وأمرهم على لسانه أن يعبدوا الله وحده ، ويجتنبوا الطاغوت أي يتباعدوا عن عبادة كل معبود سواه . وأن الله هدى بعضهم إلى عبادته وحده ، وأن بعضهم حقت عليه الضلالة أي ثبت عليه الكفر والشقاء . وقال تعالى في آية الأنعام { قُلْ فَلِلَّهِ ٱلْحُجَّةُ ٱلْبَالِغَةُ فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } [ الأنعام : 149 ] . فملكه تعالى وحده للتوفيق والهداية ، هو الحجة البالغة على خلقه ، يعني فمن هديناه وتفضلنا عليه بالتوفيق ، فهو فضل منا ورحمة . ومن لم نفعل له ذلك فهو عدل منا وحكمة ، لأنه لم يكن له ذلك ديناً علينا ولا واجباً مستحقاً يستحقه علينا ، بل إن أعطينا ذلك ففضل ، وإن لم نعطه فعدل . وحاصل هذا : أن الله تبارك وتعالى قدر مقادير الخلق ، قبل أن يخلق الخلق ، وعلم أن قوماً صائرون إلى الشقاء وقوماً صائرون إلى السعادة ، فريق في الجنة وفريق في السعير . وأقام الحجة على الجميع ، ببعث الرسل وتأييدهم بالمعجزات التي لا تترك في الحق لبساً فقامت عليهم حجة الله في أرضه بذلك . ثم إنه تعالى وفق من شاء توفيقه ، ولم يوفق من سبق لهم في علمه الشقاء الأزلي ، وخلق لكل واحد منهم قدرة وإرادة يقدر بها على تحصيل الخير والشر ، وصرف قدرهم وإراداتهم بقدرته وإرادته إلى ما سبق لهم في علمه ، من أعمال الخير المستوجبة للسعادة وأعمال الشر المستوجبة للشقاء . فأتوا كل ما أتوا وفعلوا كل ما فعلوا ، طائعين مختارين ، غير مجبورين ، ولا مقهورين { وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ } [ الإنسان : 30 ] . { قُلْ فَلِلَّهِ ٱلْحُجَّةُ ٱلْبَالِغَةُ فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } [ الأنعام : 149 ] . وادعاء أن العبد مجبور لا إرادة له ضروري السقوط عند عامة العقلاء . ومن أعظم الضروريات الدالة عليه أن كل عاقل يعلم أن بين الحركة الاختيارية والحركة الاضطرارية ، كحركة المرتعش فرقاً ضرورياً ، لا ينكره عاقل . وأنك لو ضربت من يدعى أن الخلق مجبورون ، وفقأت عينه مثلاً ، وقتلت ولده واعتذرت له بالجبر ، فقلت له : أنا مجبور ولا إرادة لي في هذا السوء الذي فعلته بك ، بل هو فعل الله ، وأنا لا دخل فيه فإنه لا يقبل منك هذه الدعوى بلا شك . بل يبالغ في إرادة الانتقام منك قائلاً : إن هذا بإرادتك ومشيئتك . ومن أعظم الأدلة القطعية الدالة على بطلان مذهب القدرية ، وأن العبد لا يستقل بأفعاله دون قدرة الله ومشيئته ، أنه لا يمكن أحداً أن ينكر علم الله بكل شيء ، قبل وقوعه والآيات والأحاديث الدالة على هذا لا ينكرها إلا مكابر . وسبق علم الله بما يقع من العبد قبل وقوعه ، برهان قاطع على بطلان تلك الدعوى . وإيضاح ذلك أنك لو قلت للقدري : إذا كان علم الله في سابق أزله تعلق بأنك تقع منك السرقة أو الزنا في محل كذا في وقت كذا ، وأردت أنت بإرادتك المستقلة في زعمك دون إرادة الله أن لا تفعل تلك السرقة أو الزنا الذي سبق بعلم الله وقوعه ، فهل يمكنك أن تستقل بذلك ؟ وتُصيِّر علم الله جهلاً ، بحيث لا يقع ما سبق في علمه وقوعه في وقته المحدد له ؟ والجواب بلا شك : هو أن ذلك لا يمكن بحال كما قال تعالى : { وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ } [ الإنسان : 30 ] ، وقال الله تعالى : { قُلْ فَلِلَّهِ ٱلْحُجَّةُ ٱلْبَالِغَةُ فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِين } [ الأنعام : 149 ] . ولا إشكال البتة في أن علم الله يخلق للعبد قدرة وإرادة يقدر بها على الفعل والترك ، ثم يصرف الله بقدرته وإرادته قدرة العبد وإرادته إلى ما سبق به علمه فيأتيه العبد طائعاً مختاراً غير مقهور ولا يجور ، وغير مستقل به دون قدرة الله وإرادته كما قال تعالى : { وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّه } [ الإنسان : 30 ] . والمناظرة التي ذكرها بعضهم ، بين أبي إسحاق الإسفراييني وعبد الجبار المعتزلي توضح هذا . وهي أن عبد الجبار قال : سبحان من تنزه عن الفحشاء يعني أن السرقة والزنا ليسا بمشيئة الله ، لأنه في زعمه أنزه من أن تكون هذه الرذائل بمشيئته . فقال أبو إسحاق : كلمة حق أريد بها باطل . ثم قال : سبحان من لم يقع في ملكه إلا ما يشاء . فقال عبد الجبار : أتراه يشاؤه ويعاقبني عليه . فقال أبو إسحاق : أتراك تفعله جبراً عليه ، أأنت الرب وهو العبد ؟ فقال عبد الجبار : أرأيت إن دعاني إلى الهدى ، وقضى علي بالرديء ، دعاني وسد الباب دوني ؟ أتراه أحسن أم أساء ؟ فقال أبو إسحاق : أرى أن هذا الذي منعك إن كان حقاً واجباً لك عليه فقد ظلمك وقد أساء ، سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً ، وإن كان ملكه المحض فإن أعطاك ففضل ، وإن منعك فعدل ، فبهت عبد الجبار ، وقال الحاضرون : والله ما لهذا جواب . ومضمون جواب أبي إسحاق هذا الذي أفحم به عبد الجبار ، هو معنى قوله تعالى : { قُلْ فَلِلَّهِ ٱلْحُجَّةُ ٱلْبَالِغَةُ فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِين } [ الأنعام : 149 ] . وذكر بعضهم أن عمرو بن عبيد جاءه أعرابي فشكا إليه أن دابته سرقت وطلب منه أن يدعو الله ليردها إليه . فقال عمرو ما معناه : اللهم إنها سرقت ولم ترد سرقتها ، لأنك أنزه وأجل من أن تدبر هذا الخنا . فقال الأعرابي : ناشدتك الله يا هذا ، إلا ما كففت عني من دعائك هذا الخبيث ، إن كانت سرقت ولم يرد سرقتها فقد يريد ردها ولا ترد ، ولا ثقة لي برب ، يقع في ملكه ما لا يشاؤه فألقمه حجراً . وقد ذكرنا هذه المسألة في كتابنا دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب في الكلام عن آية الأنعام المذكورة في هذا البحث ، وفي سورة الشمس في الكلام عن قوله تعالى : { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } [ الشمس : 8 ] .