Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 43, Ayat: 31-32)
Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وقالوا : أي قال كفار مكة ، لولا أي هلا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين ، أي من إحدى القريتين ، وهما مكة والطائف عظيم يعنون بعظمه ، كثرة ماله وعظم جاهه ، وعلو منزلته في قومه ، وعظيم مكة الذي يريدون هو الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب ، وفي مرة بن كعب يجتمع نسبه بالنبي صلى الله عليه وسلم . وقيل : هو عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف . وعظيم الطائف . هو عروة بن مسعود . وقيل حبيب بن عمرو بن عمير . وقيل هو كنانة بن عبد يا ليل وقيل غير ذلك . وإيضاح الآية أن الكفار أنكروا أولاً أن يبعث الله رسولاً من البشر كما أوضحناه مراراً . ثم لما سمعوا الأدلة على أن الله لم يبعث إلى البشر رسولاً إلا من البشر تنازلوا عن اقتراحهم إرسال رسل من الملائكة إلى اقتراح آخر ، وهو اقتراح تنزيل هذا القرآن على أحد الرجلين المذكورين : وهذا الاقتراح يدل على شدة جهلهم ، وسخافة عقولهم ، حيث يجعلون كثرة المال ، والجاه في الدنيا ، موجباً لاستحقاق النبوة . وتنزيل الوحي . ولذا زعموا ، أن محمداً صلى الله عليه وسلم ، ليس أهلاً لإنزال هذا القرآن عليه ، لقلة ماله ، وأن أحد الرجلين المذكورين أحق أن ينزل عليه القرآن منه صلى الله عليه وسلم . وقد بين تعالى في هذه الآية الكريمة ، شدة جهلهم ، وسخافة عقولهم ، بقوله { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ } والظاهر المتبادر أن المراد برحمة ربك النبوة وإنزال الوحي . وإطلاق الرحمة على ذلك متعدد في القرآن كقوله تعالى في الدخان { إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ } [ الدخان : 5 - 6 ] الآية ، وقوله في آخر القصص { وَمَا كُنتَ تَرْجُوۤ أَن يُلْقَىٰ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ } [ القصص : 86 ] الآية ، وقوله في آخر الأنبياء { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 107 ] . وقد قدمنا الآيات الدالة ، على إطلاق الرحمة : والعلم على النبوة في سورة الكهف ، في الكلام على قوله تعالى : { فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا } [ الكهف : 65 ] الآية . وقدمنا معاني إطلاق الرحمة ، في القرآن في سورة فاطر ، في الكلام على قوله تعالى { مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا } [ فاطر : 2 ] الآية . وقوله تعالى في هذه الآية { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } [ الزخرف : 32 ] يعني أنه تعالى لم يفوض إليهم أمر معايشهم وحظوظهم ، في الدنيا ، بل تولى هو جل وعلا قسمة ذلك بينهم ، فجعل هذا غنياً ، وهذا فقيراً ، وهذا رفيعاً ، وهذا وضيعاً ، وهذا خادماً ، وهذا مخدوماً ، ونحو ذلك فإذا لم يفوض إليهم ، حظوظهم في الدنيا ، ولم يحكمهم فيها . بل كان تعالى هو المتصرف فيها بما شاء كيف شاء ، فكيف يفوض إليهم أمر إنزال الوحي حتى يتحكموا في من ينزل إليه الوحي ؟ فهذا مما لا يعقل ولا يظنه إلا غبي جاهل كالكفار المذكورين . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة { لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّا } التحقيق إن شاء الله أنه من التسخير . ومعنى تسخير بعضهم لبعض ، خدمة بعضهم البعض ، وعمل بعضهم لبعض ، لأن نظام العالم في الدنيا ، يتوقف قيامه على ذلك فمن حكمته جل وعلا ، أن يجعل هذا فقيراً مع كونه قوياً قادراً على العمل ، ويجعل هذا ضعيفاً لا يقدر على العمل بنفسه ، ولكنه تعالى يهيئ له دراهم ، يؤجر بها ذلك الفقير القوي فينتفع القوي بدراهم الضعيف ، والضعيف بعمل القوي فتنتظم المعيشة ، لكل منهما وهكذا . وهذه المسائل التي ذكرها الله جل وعلا ، في هذه السورة الكريمة جاءت كلها موضحة في آيات أخر من كتاب الله . أما زعمهم أن محمداً صلى الله عليه وسلم أنقص شرفاً ، وقدراً من أن ينزل عليه الوحي ، فقد ذكره الله عنهم في ( ص ) في قوله تعالى { أَأُنزِلَ عَلَيْهِ ٱلذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا بْل هُمْ فَي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي } [ ص : 8 ] الآية . فقول كفار مكة { أَأُنزِلَ عَلَيْهِ ٱلذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا } [ ص : 8 ] معناه إنكارهم ، أن يخصه الله بإنزال الوحي من بينهم ، لزعمهم أن فيهم من هو أحق بالوحي منه ، لكثرة ماله ، وجاهه وشرفه فيهم . وقد قال قوم صالح ، مثل ذلك لصالح ، كما قال تعالى منهم { أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ } [ القمر : 25 ] . فقلوب الكفار متشابهة فكانت أعمالهم متشابهة . كما قال تعالى { كَذَلِكَ قَالَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ } [ البقرة : 118 ] وقال تعالى { أَتَوَاصَوْاْ بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } [ الذاريات : 53 ] . وأما اقتراحهم إنزال الوحي على غيره منهم ، وأنهم لا يرضون خصوصيته بذلك دونهم ، فقد ذكره تعالى في سورة الأنعام في قوله تعالى : { وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ ٱللَّهِ } [ الأنعام : 124 ] وقوله تعالى في المدثر { بَلْ يُرِيدُ كُلُّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَىٰ صُحُفاً مُّنَشَّرَةً } [ المدثر : 52 ] . أي تنزل عليه صحف بالوحي من السماء ، كما قال مجاهد وغير واحد ، وهو ظاهر القرآن . وفي الآية قول آخر معروف . وأما إنكاره تعالى عليهم ، اقتراح إنزال الوحي على غير محمد صلى الله عليه وسلم ، الذي دلت عليه همزة الإنكار المتضمنة مع الإنكار لتجهيلهم ، وتسفيه عقولهم ، في قوله : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ } [ الزخرف : 32 ] . فقد أشار تعالى إليه مع الوعيد الشديد في الأنعام . لأنه تعالى لما قال { وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ ٱللَّهِ } [ الأنعام : 124 ] أتبع ذلك بقوله ، رداً عليهم ، وإنكاراً لمقالتهم { ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ الأنعام : 124 ] . ثم أوعدهم على ذلك بقوله { سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ ٱللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ } [ الأنعام : 124 ] . وأما كونه تعالى هو الذي تولى قسمة معيشتهم بينهم ، فقد جاء في مواضع أخر كقوله تعالى : { وَٱللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي ٱلْرِّزْقِ فَمَا ٱلَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَىٰ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ } [ النحل : 71 ] . وقوله تعالى { ٱنظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً } [ الإسراء : 21 ] وقوله تعالى : { ٱللَّهُ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ } [ الرعد : 26 ] وقوله تعالى : { وَلَـٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرُ بَصِيرٌ } [ الشورى : 27 ] وقوله تعالى : { إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَٱللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا } [ النساء : 135 ] الآية . وقد أوضح تعالى حكمة هذا التفاضل ، والتفاوت في الأرزاق ، والحظوظ والقوة والضعف ، ونحو ذلك ، بقوله هنا { لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً } [ الزخرف : 32 ] ، كما تقدم . وقوله تعالى هنا { وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } . يعني أن النبوة ، والاهتداء يهدي الأنبياء ، وما يناله المهتدون يوم القيامة ، خير مما يجمعه الناس في الدنيا من حطامها . وقد أشار الله تعالى إلى هذا المعنى ، في غير هذا الموضع ، كقوله في سورة يونس { قُلْ بِفَضْلِ ٱللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } [ يونس : 58 ] وقوله تعالى في آل عمران { وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } [ آل عمران : 157 ] . مسألة دلت هذه الآيات الكريمة ، المذكورة هنا ، كقوله تعالى : { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ } [ الزخرف : 32 ] الآية . وقوله { وَٱللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي ٱلْرِّزْقِ } [ النحل : 71 ] الآية ونحو ذلك من الآيات ، على أن تفاوت الناس في الأرزاق ، والحظوظ سنة ، من سنن الله السماوية الكونية ، القدرية ، لا يستطيع أحد من أهل الأرض ، البتة تبديلها ، ولا تحويلها ، بوجه من الوجوه ، { فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَحْوِيلاً } [ فاطر : 43 ] . وبذلك تحقق أن ما يتذرع به الآن الملاحدة المنكرون لوجود الله ، ولجميع النبوات ، والرسائل السماوية ، إلى ابتزاز ثروات الناس ، ونزع ملكهم الخاص ، عن أملاكهم بدعوى المساواة بين الناس ، في معايشهم أمر باطل . لا يمكن بحال من الأحوال . مع أنهم لا يقصدون ذلك الذي يزعمون . وإنما يقصدون استئثارهم ، بأملاك جميع الناس ، ليتمتعوا بها ويتصرفوا فيها ، كيف شاءوا ، تحت ستار كثير من أنواع الكذب ، والغرور والخداع ، كما يتحققه كل عاقل مطلع على سيرتهم ، وأحوالهم مع المجتمع في بلادهم . فالطغمة القليلة الحاكمة ، ومن ينضم إليها ، هم المتمتعون بجميع خيرات البلاد . وغيرهم من عامة الشعب . محرومون من كل خير . مظلومون في كل شيء . حتى ما كسبوه بأيديهم ، يعلفون ببطاقة ، كما تعلف البغال والحمير . وقد علم الله جل وعلا في سابق علمه أنه يأتي ناس يغتصبون أموال الناس بدعوى أن هذا فقير وهذا غني وقد نهى جل وعلا عن اتباع الهوى بتلك الدعوى ، وأوعد من لم ينته عن ذلك ، بقوله تعالى : { إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَٱللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } [ النساء : 135 ] . وقوله : { فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } [ النساء : 135 ] فيه وعيد شديد لمن فعل ذلك .